بعد يومين من تعليق مفاوضات سد النهضة، توترت العلاقات بين إثيوبيا والسودان، وحذّرت الخرطوم من التحرك المنفرد والإقدام على ملء السد من جديد قبل التوصل لاتفاق، ووجّه وزير الخارجية الإثيوبي بالأمس تحذيرًا للسودان من نفاد صبر بلاده إن تابعت الخرطوم الحشد العسكري في منطقة القضارف الحدودية المتنازع عليها، رغم محاولات نزع فتيل التوترات بالدبلوماسية، كما تقول إثيوبيا.
وأتى الرد فورًا بزيارة عبد الفتاح البرهان، رئيس المجلس السيادي الانتقالي، وبرفقته رئيس هيئة الأركان السودانية لولاية «القضارف» الحدودية، بحسب ما نقلته عدة صحف محلية وعربية نقلًا عن مصادر سودانية رفيعة لم تسمها.
زيارة البرهان التي لم ينفها الجيش السوداني أو يؤكدها تزامن معها سقوط طائرة حربية سودانية قرب الحدود الإثيوبية ونجاة طاقمها قبل تحطمها، وقال مصدر عسكري سوداني إن الحادثة لا علاقة لها بالنزاع.
أعلن السفير الإثيوبي بالخرطوم أن القوات السودانية احتلت تسعة مواقع تابعة للجيش الإثيوبي، على غفلة من أديس أبابا المنشغلة بصراعها مع إقليم تيجراي، وبالتزامن مع تصريحات السفير اخترقت طائرة إثيوبية الحدود السودانية، ليدخل معها الصراع الحدودي لمرحلة جديدة.
في التقرير التالي نشرح التطورات الأخيرة بين البلدين وما قد تؤول إليه الأمور.
موقع ولاية القصارف السودانية المتنازع على بعض مناطقها بين السودان وإثيوبيا
قبل 48 ساعة من التصعيد.. ماذا حدث في البؤرة الملتهبة؟
في 11 يناير (كانون الثاني) 2021، شنت قوات إثيوبية مسلحة هجومًا بعمق خمس كيلومترات داخل أراضي الفشقة، وهي مقاطعةٌ تابعةٌ لولاية القضارف الحدودية، شنّت القوات هجومها مع انشغال مزارعين سودانيين في حصاد الذرة قرب الشريط الحدودي، وقُتل على إثره خمس نساء وطفل.
وينقل موقع «سودان تربويون» أن القوة الإثيوبية نصبت كمينًا لاستهداف الجيش السوداني، ولكن انتهى الكمين بضحايا مدنيين سودانيين، فاستعان الجيش بالقوات الاحتياطية لعمليات تمشيط المنطقة، وأوقفت أحد قادة الميليشات الإثيوبية.
نائب رئيس أركان الجيش السوداني يُعلن استعادة قواته السيطرة على الفسقة الحدودية، ديسمبر 2020
احتمال حدوث مواجهة عسكرية بين الطرفين بدا وشيكًا، ونقلَ موقع «الشرق نيوز» عن مصادر عسكرية بالجيش السوداني قبل يومين من الحادثة أنّ الخرطوم رصدت تحركات لقوات تابعة للجيش الإثيوبي على الشريط الحدودي بين البلدين، ورصدت عددًا من الخلايا الاستخباراتية الإثيوبية داخل السودان تمد الجيش الإثيوبي بمعلومات حساسة.
وعن التصعيد الإثيوبي باختراق المجال الجوي السوداني، قالت الخارجية السودانية إن له «انعكاسات خطيرة على مستقبل العلاقات الثنائية بين البلدين وعلى الأمن والاستقرار في منطقة القرن الأفريقي»، في إشارة لاحتمال اندلاع نزاع مسلح بين البلدين على المنطقة التي زارها البرهان ورئيس أركان الجيش السوداني مرتين في أقل من شهر.
ووفقًا لمؤشر موقع «جلوبال فاير باور» لتصنيف الدول وفق قدراتها العسكرية، يحتلّ الجيش الإثيوبي المرتبة رقم 60 عالميًا، ويحتل الجيش السوداني المرتبة رقم 76 بين أقوى 138 جيشًا حول العالم، ولكن المؤشر غير دقيق لإغفاله عوامل مهمة في ترتيبه، ولكنه يظل مؤشرًا هامًا.
اتهام إثيوبيا للسودان بالسعي لإشعال الموقف جاء بعد العملية التي قادها الجيش السوداني أوائل العام الحالي 2021، في المنطقة الشرقية المتاخمة للحدود مع إثيوبيا، والتي أعلن الجيش بموجبها استعادة 80% من الأراضي السودانية التي سيطرت عليها مجموعات إثيوبية، وسيطر الجيش السوداني أيضًا على الكثير من القرى التي سكنت فيها الميليشيات الإثيوبية، وهي التحركات التي تتهم إثيوبيا بموجبها السودان بالتوغل في أراضيه.
يمين الصورة رئيس حكومة السودان عبد الله حمدوك ونظيره الإثيوبي آبي أحمد
ويدور النزاع حاليًّا حول منطقة تعرف باسم «الفشقة» بولاية القضارف السودانية سابقة الذكر، وهي منطقة تبلغ مساحتها 251 كم مربعًا، وفيها أكثر من 600 ألف فدان تضم أخصب الأراضي الزراعية في السودان. ورغم أن إثيوبيا تعترف رسميًّا بسودانية تلك الأراضي، إلا أن الخرطوم تتهمها بدعم نشاط الجماعات المُسلحة الإثيوبية فيها لطرد المزارعين السودانيين واستبدالهم بإثيوبيين توفر لهم الحكومة الإثيوبية جميع الخدمات.
وتعزّز التوتر الأخير في المنطقة الحدودية باندلاع الصراع في إقليم تجراي شمالي إثيوبيا في نوفمبر (تشرين الثاني) العام الماضي، ووصول أكثر من 50 ألف لاجئ إلى شرق السودان، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، لتصبح الخلافات أكثر حدة مع إقامة مزارعين إثيوبيين داخل المناطق السودانية الخصبة.
أبعد من نزاع حدودي.. ما هي ملفات الخلاف بين البلدين؟
تواصل «ساسة بوست» سابقًا مع أنور إبراهيم، مدير القسم العربي بالتليفزيون الإثيوبي الرسمي، لمناقشته في البُعد الغائب في الصراع الحدودي المتكرر، وأجاب قائلًا: «في الوقت الحالي فيما يبدو أن هنالك حلقة مفقودة، خاصة في ظل التحركات السياسية بين الدولتين، والتغيير الذي طرأ على كل من إثيوبيا والسودان»، في إشارة لاختلاف وجهات النظر في القضايا المشتركة وأهمها سد النهضة، وقضية ترسيم الحدود، مع خلافات أخرى على شؤون داخلية للبلدين، ما صعّب التفاهم على ملفات الخلاف عبر القنوات الرسمية.
سد النهضة الإثيوبي
وتجمع صداقة آبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي بعبد الله حمدوك، رئيس الحكومة السودانية، ولآبي أحمد حضور سياسي لافت في السودان بنجاحه في تأمين توافق من قادة المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير على المبادرة الإثيوبية لحل الأزمة السودانية، بعد ثورة في نهاية 2018، وتُوجت الوساطة الإثيوبية بتوقيع «الاتفاق السياسي» الذي حدد ترتيبات المرحلة الانتقالية في السودان، وهو ملف الوساطة الذي فشلت فيه مصر الجارة العربية للسودان، وفشلت فيه دولة جنوب السودان.
دعم وحضور أديس أبابا في الأزمة السودانية حفز الخرطوم لتقدّم نفسها وسيطًا معقولًا لحل الأزمة الإثيوبية التي بدأت بإعلان آبي أحمد الحرب على «الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي» في الإقليم الذي يبعد 20 كم من الحدود السودانية، ولكنّ رفض رئيس الوزراء الإثيوبي الوساطة السودانية أثار تحفظات السودان الذي يتحمل جزءًا اقتصاديًا من تبعات الحرب، نتيجة لتوقف التجارة، وتحمله لوحده عبء اللاجئين.
للسودان أوراق قوة في الداخل الإثيوبي لقربها الجغرافي منها، وعلاقاتها مع قادة التمرد في الإقليم على ما يبدو كانت دافعًا قويًا لرفض أديس أبابا للوساطة، ويقول الصحافي السوداني إبراهيم ناصر في حديث مع «ساسة بوست»: «رفضت إثيوبيا مِن قَبل وساطة الحكومة السودانية، لأنها تشك في نوايا الخرطوم تجاه ما يجري من صراع، وخصوصًا بعد أن فتحت حدودها للفارين من أقلية التجراي».
قطع عبد الله حمدوك لزيارته لأديس أبابا أكّد عدم رضى السودان عن مواقف إثيوبيا، إذ قطع زيارته في ديسمبر (كانون الأول) 2020 بعد ثلاث ساعات وكان من المقرر أن تمتد ليومين تُحسم فيها ملفات شائكة بين البلدين تتعلق بالحرب في إقليم تيجراي، وسد النهضة، وملف الحدود بين البلدين.
ورغم توقيع السودان وإثيوبيا في مايو (أيار) 2020 لاتفاقية تقضي بتأمين الحدود المشتركة ضد أي أنشطة غير قانونية، وضمان أمن المدنيين على طول المنطقة الحدودية، إلا أنّ مفاوضات ترسيم الحدود بين البلدين وصلت لطريق مسدود بعد فشل المباحثات الشهر الماضي، وقبل أيامٍ فقط من التصعيد الذي تزامن معه إرسال السودان لرتل من التعزيزات العسكرية على الحدود بهدفٍ معلن وهو: «استعادة أراض مغتصبة» من إثيوبيا بحسب تعبير وكالة الأنباء السودانية الرسمية.
البُعد الغائب الحاضر في الصراع.. ملف سد النهضة
التوتر على الحدود وانعكاساته على العلاقات بين البلدين ليس آخر هموم الخرطوم وأديس أبابا ولا آخرها، فالخلاف على سدّ النهضة يشغل حيزًا أوسع. وقبل يومين فشل الاجتماع السداسي بين وزراء الخارجية والري من السودان ومصر وإثيوبيا في التوصل لصيغة نهائية لمواصلة التفاوض، وعدم تقديم إثيوبيا حلولًا نهائية متعلقة بشأن سلامة السدود وتبادل البيانات والقضايا الفنية الأخرى، إضافة إلى وضع حصة القاهرة والخرطوم المائية، ويتمسك السودان بشروطه غير القابلة للتغيير والمتمثلة في تكليف الخبراء المُعينين من قبل مفوضية الاتحاد الأفريقي بطرح حلول للقضايا الخلافية وبلورة اتفاق حول السد.
قدّمت السودان للاتحاد الأفريقي وإثيوبيا احتجاجًا على عزم الأخيرة متابعة تعبئة سد النهضة قبل الوصول لاتفاق نهائي شامل بينهما بالإضافة لمصر، في ظلّ هدوء رسمي من مصر تجاه آخر التطورات.
وقال وزير الري السوداني إن بلاده «لا يمكنها الاستمرار في هذه الدورة المفرغة من المباحثات بشأن سد النهضة إلى ما لا نهاية»، خاصةً مع الخطر الذي يفرضه ملء السد على «خزان الروصيرص».
ويرعى الاتحاد الأفريقي منذ يونيو (حزيران) 2020 مفاوضات بين مصر والسودان وإثيوبيا دون تقدّم على الرغم من أن المفاوضات تمّت بحضور خبراء ومراقبين من الاتحاد الأفريقي والولايات المتحدة والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي، ويرفض السودان أساليب التفاوض بين الدول الثلاث باعتبارها أثبتت عدم جدواها خلال الجولات الماضية، وتتحفظ أثيوبيا ومصر على طلب الخرطوم لمشاركة خبراء فنيين من الاتحاد الأفريقي.
وتقول إثيوبيا إنها ستلتزم برغبة الخرطوم إلا أن وزير الري السوداني يحتج بأنّ نظيره الإثيوبي بعث خطابًا للاتحاد الأفريقي ومصر والسودان أكد فيه عزم بلاده الاستمرار في الملء للعام الثاني في موسم الفيضان في شهر يوليو (تموز) القادم بمقدار 13.5 مليار متر مكعب بغض النظر عن التوصل لاتفاق أو عدمه.
وحتى الآن لم تتوصل البلدان الثلاثة لاتفاق نهائي ملزم بشأن السد الذي وضعت إثيوبيا حجر أساسه عام 2011 ليكون أكبر مشروعٍ قومي لإنتاج الطاقة في أفريقيا، والذي سيحل أزمة كهرباء إثيوبية يعيشها 70% من السكان، وستجني من ورائه ملياري دولارٍ سنويًا بتصدير فائض الكهرباء للدول المجاورة، وفتح السد باب الخلاف مع مصر والسودان لأنه يستمد طاقته المائية من نهر النيل الأزرق الذي يُغذي 85% من مياه النيل.
وتخشى مصر أن يؤثر السد في حصتها المائية البالغة 55 مليار مترٍ مكعب من المياه سنويًا، ولا يبدو السودان أكثر تخوفًا بشأن تلك النقطة وإن كان يميل في موقفه للجانب المصري، رغم أنّ السد نفسه ينقذ السودان من الجفاف السنوي والفيضانات، ولا يستهلك إلا 64% من حصته من النيل (12 مليار متر مكعب)، وللخرطوم مخاوف من معايير السلامة التي لم تحسمها إثيوبيا حتى الآن.
وفي حال تدمر السد نتيجة تصدعات في بنيته أو بضربةٍ عسكرية، فمن المحتمل أن يلحق الضرر بالمنطقة بأكملها بما في ذلك العاصمة السودانية الخرطوم، حيث يلتقي النيل الأبيض والأزرق، وعقب فشل المفاوضات الأخيرة، هدد وزير الري السوداني بأنّ الحل الأخير لحكومة بلاده سيكون باللجوء لمجلس الأمن وتدويل قضية السد إن لم تتوصل الأطراف إلى اتفاق ملزم وعادل بشأن قواعد الملء والتشغيل.