لَطالما كان “إكسير الخلود” الذي يمنح شارِبَه حياةً أبديةً عنصراً أساسياً في القصص الخرافية والأساطير لدى معظم الشعوب، لكن ذلك الإكسير لم يبقَ حبيسَ الكتب والحكايات إلى الأبد، بل ظهر على أرض الواقع، وسعى الملوك والأباطرة الصينيون تحديداً لتصنيعه مهما كلف الأمر.
لكن السحر انقلب على الساحر، وبدلاً من أن يمنح “إكسير الخلود” الحياة الأبدية لأولئك الذين سعوا وراءه وتناولوه، قتلهم ذلك الشراب وهم لا يزالون في ريعان الصبا.. فلنتعرف معاً على القصة:
إكسير الخلود أو “رحيق الآلهة” عبر الثقافات والقرون
استخدمت معظم الثقافات قصة “إكسير الخلود” أو “إكسير الحياة” كمادة تشويقية أساسية في الأساطير عبر التاريخ.
في اليونان القديمة، على سبيل المثال، كانت هذه المادة تُعرف باسم “رحيق الآلهة”، فقد اعتقد الإغريق القدماء أن الآلهة قد وصلت إلى الخلود باستهلاك هذا الإكسير.
ولا تخلو الأساطير الهندوسية كذلك من إكسير الخلود الذي أشير إليه باسم “أمريتا”، وقد كان آخر الكنوز الأربعة عشر التي ظهرت في المحيط وفقاً للأسطورة.
وفي الميثولوجيا المسيحية، كان يعتقد أن الخلود يمنح لأولئك الذين يشربون من الكأس المقدسة التي استخدمها يسوع المسيح خلال العشاء الأخير.
وفي العصور الوسطى دأب الخيميائيون على صنع “إكسير الخلود”، وتقول إحدى الأساطير إن خيميائياً يدعى فلاميل قد نجح بالفعل في هذا المسعى. وبالرغم من أن فلاميل كان شخصاً حقيقياً عاش في العصور الوسطى، إلا أن المراجع التاريخية تشير إلى أنه لم يصنع إكسير الخلود قط ولم يكن خيميائياً حتى، وبدأت الأسطورة التي تقول إنه صنع ذلك الإكسير بالانتشار بعد قرون من وفاته.
وبالرغم من أن كل ما سبق لا يتعدى حدود الحكايات والأساطير فإن الأباطرة الصينيين قد دأبوا بالفعل على تصنيعه وشربه الكثيرون من الأباطرة والنبلاء، لكنه منحهم الموت بدلاً من الحياة الأبدية.
إكسير الموت الصيني
تقترن أسطورة “إكسير الخلود” بالخيمياء الطاوية، والطاوية هي مذهب ديني فلسفي صيني.
يوجد فرعان من الخيمياء الطاوية هما “نيدان” و”ويدان”، ووفقاً للفلسفة الطاوية من الممكن الوصول إلى الخلود والحياة الأبدية باستخدام تعاليم أحد الفرعين.
إذ يشمل “نيدان” ممارسات جسدية وعقلية وروحية يعتقد أنها توصل الإنسان إلى الخلود، بما في ذلك تمارين تأمُّل وتمارين فيسيولوجية، وأخرى خاصة بالتأمل إلى جانب نظام غذائي معين.
أما “ويدان” فيركز على صنع شراب مكون من مواد مختلفة، يعتقد أن شاربها سيحظى بالخلود الأبدي.
طرق تحضير “إكسير الخلود” تبعاً لتعاليم “ويدان“
الطريقة الأولى تتضمن استخدام الزئبق والرصاص، إذ يقال إنهما يمثلان مبادئ يين ويانغ (الأسود والأبيض) على التوالي.
ويعتقد ممارسو هذه الطريقة أنه بعد صقل هذين العنصرين والجمع بينهما، سيتم إنتاج مادة جديدة تمثل اليانغ الصافي الذي يمنح الحياة الأبدية.
أما الطريقة الثانية فتتمثل في استخدام الزنجفر، وهو معدن كبريتيد الزئبق الذي يعتبر “يانغ” أي ممثلاً عن (النور، النشاط، التمدد والقوة) في الفلسفة الطاوية.
نحن نعلم اليوم أن الزئبق والرصاص من المواد شديدة السمية، التي يؤدي تناولها إلى أعراض مثل صعوبات في السمع والنطق وضعف العضلات، وتغيرات في الرؤية، ونقص في التركيز، وتراجع في الذاكرة، وضرر في الكلى والجهاز العصبي، ومعاناة تنتهي بالوفاة.
لكن من سوء حظ الصينيين القدماء أنهم لم يكونوا مدركين لذلك، وتناولوا هذه العناصر السامة مخلوطة بمواد أخرى بكامل إرادتهم، ليكون الموت بانتظارهم بدلاً من الحياة الأبدية.
الأرنب الأبيض الأسطوري يصنع إكسير الحياة على سطح القمر، من الأساطير الصينية
أباطرة قتلهم هوسهم بالخلود
هناك العديد من الملوك والأباطرة الصينيين الذين طلبوا من الخيميائيين صنع “إكسير الخلود” وتناولوه، وهؤلاء أبرزهم:
تشين شي هوانغ
واحدة من أشهر حالات الوفاة بالتسمم بالإكسير هي حالة تشين شي هوانغ، أول إمبراطور للصين، وهناك العديد من الحكايات المتعلقة بهوسه بالخلود.
في الآونة الأخيرة، في عام 2017، تم اكتشاف مجموعة من المخطوطات المحتوية على أوامر الإمبراطور، للبحث عن إكسير الخلود في جميع أنحاء البلاد، والردود الرسمية من الحكومات المحلية.
في النهاية، قام أحد الخيميائيين بصنع حبوب الزئبق للإمبراطور، وقدمها له على أنها إكسير الخلود، المصنوع وفقاً للطريقة الطاوية ليموت الإمبراطور عام 210 قبل الميلاد مسموماً من الإكسير الذي كان من المفترض أن يمنحه الحياة عن عمر يناهز 48 عاماً.
لم يردع موت تشين شي هوانغ عن السعي إلى الخلود بنفس الوسائل، وسجل التاريخ المزيد من الضحايا بعد ذلك، كان من بينهم الإمبراطور آي من جين، الذي حكم خلال عام 360 بعد الميلاد، وتناول إكسير الخلود الذي تسبب في وفاته عن عمر يناهز 24 عاماً.
أباطرة سلالة تانغ
كانت الطاوية منتشرة كنظام ديني قبل الميلاد، لكنها اتخذت صفة رسمية في عهد سلالة تانغ التي حكمت ما بين عامي 618 و907 للميلاد.
فقد ادعى مؤسس السلالة، الإمبراطور غاوزو أنه ينحدر من سلالة لاوزي، وهو شخصية شبه أسطورية يُنظر إليها على أنها أحد مؤسسي الطاوية.
نتيجة لذلك، ازدهرت الطاوية في عهد سلالة تانغ، بما في ذلك الخيمياء الطاوية التي تقدم طرقاً للوصول إلى إكسير الخلود.
ويُقال إن ستة أباطرة على الأقل من أسرة تانغ قد لقوا حتفهم بسبب تسمم الإكسير، بالإضافة إلى العديد من العلماء والمسؤولين، الأمر الذي أدى إلى تراجع شعبية تقليد “ويدان”، والاتجاه نحو ممارسات “نيدان” للحصول على الحياة الأبدية.
إكسير الخلود
الإمبراطور جياجينغ
يعتقد أن إمبراطوراً واحداً فقط من سلالة مينغ الذين حكموا الصين ما بين 1368-1644 قد مات تحت تأثير سمية إكسير الخلود، وهو الإمبراطور جياجينغ، أحد أتباع الطاوية الورعين، والذي أهمل واجباته كحاكم من أجل التركيز على مساعيه في الخلود.
وللإمبراطور جياجينغ قصة فريدة تميزه عن باقي الملوك والأباطرة، فقد تمادى بهوسه وجنونه بقصة إكسير الخلود، وكان يعتقد أنَّ جمعَ دم الحيض من الإناث العذارى وخلطه بالزئبق سيمنحه خلوداً أبدياً.
وكان يأمر بأسر العديد من الفتيات اللائي تتراوح أعمارهن بين 13 و14 عاماً لإنتاج هذا الخليط، وتمت تغذيتهن فقط بأوراق التوت ومياه الأمطار، حيث اعتقد الإمبراطور أن هذا سيُبقي خليطه نقياً، وفقاً لما ورد في موقع Ancient Origins الأيرلندي.
وكما هو متوقع لقي الإمبراطور حتفه مسموماً بالزئبق.
آخر ضحية من ضحايا الإكسير.. الإمبراطور يونغ تشنغ
أما الإمبراطور الوحيد الذي تسمم بالإكسير من سلالة تشنغ فقد كان الإمبراطور يونغ تشنغ، الذي حكم خلال القرن الثامن عشر، وهو آخر إمبراطور صيني يموت مسموماً بسبب تناول الإكسير.
العثور على إكسير الخلود في 2019
في عام 2019، عثر علماء الآثار في لويانغ، وهي مدينة في مقاطعة خنان بوسط الصين، على وعاء من البرونز بداخله سائل ذي رائحة كحولية.
تم اكتشاف هذا السائل في مقبرة لعائلة نبيلة من أسرة هان الغربية، التي استمرت من 202 قبل الميلاد إلى 8 بعد الميلاد.
كان الوعاء يحتوي على حوالي 3.5 لتر من السائل، والذي اعتقد علماء الآثار في البداية أنه نوع من المشروبات الكحولية، لكن بعد تحليل عينات من السائل في المختبر، وجد أنه يتكون أساساً من نترات البوتاسيوم والأونيت.
وقاد هذا العلماء إلى استنتاج أن السائل الموجود في الوعاء هو إكسير الخلود الأسطوري.