إدريس السنوسي

لم تكن الحركة السنوسية مثل كثير من الطرق الصوفية تقصر اهتمامها على شئون العبادة غير ناظرة إلى أحوال الناس وقضاياهم، بل كانت حركة دين ودولة، وعلم وعمل، وتربية وجهاد. وكانت الزوايا التي أنشأتها في ليبيا وأفريقيا الغربية دور عبادة وتعليم ومراكز حياة واجتماع، ومقر حكم وسلطان.

وقد ترك السنوسيون منذ أن تأسست طريقتهم في النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري أثرا واضحا، جعل الدولة العثمانية صاحبة الأمر في ليبيا وقتذاك تعتمد على جهود السنوسيين في حكومة البلاد الداخلية، ثم في مكافحة الاستعمار الذي بدأ يتغلغل في أفريقية الغربية.

وحين أغار الطليان على ليبيا سنة (1329هـ 1911م) حملت السنوسية راية الجهاد المقدس ضد العدو الغاصب أكثر من 30 عاما.

وقد عرفت السنوسية منذ بدء الحركة حتى نهايتها أربعة زعماء وقادة مصلحين تولوا أمورها ونشروا تعليمها، وهم: السيد محمد بن علي السنوسي مؤسس الحركة، وابنه السيد المهدي، والسيد أحمد الشريف، أما الرابع فهو إدريس السنوسي.

المولد والنشأة

ولد محمد إدريس ابن السيد المهدي ابن محمد السنوسي في (20 من رجب 1307هـ= 12 من مارس 1890م) في منطقة الجبل الأخضر ببرقة، ونشأ في كنف أبيه الذي كان قائما على أمر الدعوة السنوسية في ليبيا، وعلى يديه وصلت إلى ذروة قوتها وانتشارها.

وقد التحق إدريس السنوسي بالكتاب، فأتم حفظ القرآن الكريم بزاوية “الكفرة”، مركز الدعوة السنوسية، ثم واصل تعليمه على يد العلماء السنوسيين، ثم رحل إلى برقة سنة (1320هـ=1902م)، وتشاء الأقدار أن يتوفى في هذا العام أبوه “السيد المهدي” بعد أن بلغت الدعوة في عهده الذروة والانتشار، ووصل عدد “الزوايا” إلى 146 زاوية موزعة في برقة وطرابلس وفزان والكفرة ومصر والسودان وبلاد العرب، وانتقلت رئاسة الدعوة إلى السيد أحمد الشريف السنوسي، وصار وصيا على ابن عمه إدريس وجعله تحت عنايته ورعايته.

الغزو الإيطالي لليبيا

وعندما تعرضت ليبيا للغزو لإيطالي سنة 1329هـ 1911م تحمل السنوسيون عبء الدفاع عن شرف البلاد ورد العدو الغاصب على الرغم من التباين الواضح في العدد والعتاد بين الغزاة الإيطاليين والسنوسيين. ولم تكن الحامية العثمانية المرابطة في ليبيا البالغ عددها نحو 2210 قادرة على مواجهة جيش يبلغ نحو 40 ألف جندي؛ وهو ما جعل مسئولية الدفاع تقع على عاتق أهالي البلاد.

تحمل ومنذ أن احتل الإيطاليون البلاد لم تنقطع أعمالهم الوحشية ضد أهالي البلاد، وتجرد سلوكهم سواء في أثناء عملياتهم العسكرية أو بعدها من كل شعور إنساني، فاقترنت أعمالهم بفظائع مخزية جعلت من احتلالهم صفحات سوداء ليس فقط في تاريخ إيطاليا بل في تاريخ الإنسانية.

ولعل أفظع تلك الجرائم التي ارتكبها الإيطاليون ما كان بعد سقوط مدينة طرابلس حيث ارتكبوا مذبحة وحشية في ناحية المنشية، وقتلوا من الأهالي عددا يتراوح بين 4 و7 آلاف نسمة، ومثلوا بالكثيرين، وهتكوا أعراض النساء، وأمعنوا في التنكيل فيمن نجا، فنفوا 900 وألقوا أعدادا عظيمة من الرجال والنساء في غياهب السجون، وتذرع الإيطاليون لقيامهم بهذا العمل الوحشي بأن ادعوا زورا وبهتانا أن أهالي هذه المنطقة كان يقومون بعمليات اغتيال للجنود الغزاة.

وبعد انسحاب القوات العثمانية من طرابلس تحمل السيد أحمد الشريف السنوسي قيادة المجاهدين في ليبيا، ومواجهة المحتل الغاصب بكل ما يملك، وعلى الرغم من قلة عددهم وعتادهم فإنهم كانوا يوقعون في العدو خسائر هائلة، وكان المجاهدون قد عمدوا ألا يقاتلوا الإيطاليين في وقائع منظمة، واتجهوا إلى حرب العصابات الخاطفة، وكانت هذه الطريقة شديدة الفتك بالإيطاليين.

وفي أثناء هذه الفترة كان السيد إدريس السنوسي قد بلغ السن التي تمكنه من تحمل أعباء الدعوة السنوسية، ورأى بعض القادة السنوسيين أن يتولى إدريس قيادة الدعوة لكنه رفض هذا الأمر؛ احتراما لابن عمه وتقديرا له.

السنوسيون يهاجمون بريطانيا

وبعد قيام الحرب العالمية الأولى سحبت إيطاليا كثيرا من قواتها بليبيا بسبب اشتراكها في هذا الحرب، وفي الوقت نفسه رأى السنوسيون أن يساعدوا الدولة العثمانية التي دخلت الحرب أيضا، فقام السيد أحمد الشريف بحملة عسكرية على مصر، كان الغرض منها إرغام بريطانيا على القتال في حدود مصر الغربية، ومن ثم شغلها عن الحملة التركية الألمانية على قناة السويس، غير أن هذا الحملة فشلت، وعاد السيد أحمد شريف إلى بلاده منهزما، تاركا مهمة قيادة الدعوة السنوسية إلى ابن عمه محمد إدريس السنوسي، فاستطاع أن يقبض على الأمور بيد قوية ويضرب على أيدي المفسدين، واتخذ من مدينة “أجدابية” مقرا لإمارته الناشئة، وأخذ يشن الغارات على معسكرات الإيطاليين.

مفاوضات بين إدريس وإيطاليا

ولما أوشكت الحرب العالمية الأولى على الانتهاء، ولم تكن المعارك بين الليبيين والإيطاليين حاسمة، لجأ الطرفان إلى مائدة المفاوضات، وعقدا هدنة في سنة (1336هـ= 1917م) يعلنان فيها أنهما راغبان في وقف القتال والامتناع عن الحرب. وتضمنت هذه الهدنة عدة بنود، منها أن يقف الإيطاليون عند النقط التي كانوا يحتلونها، وأن يبقى على المحاكم الشرعية، وأن تفتح المدارس العملية والمهنية في برقة، وأن تعيد إيطاليا الزوايا السنوسية والأراضي التابعة لها، وأن تعفى من الضرائب، وفي مقابل ذلك يتعهد السنوسيون بتسريح جنودهم وتجريد القبائل من السلاح.

غير أن بنود هذه الهدنة لم تجد من ينفذها، فعاود الطرفان المفاوضات من جديد وعقدا اتفاقا جديدا سنة (1339هـ=1920م) عرف باتفاق “الرجمة” بموجبه قسمت برقة إلى قسمين: شمالي، وفيه السواحل وبعض الجبل الأخضر، ويخضع للسيادة الإيطالية، وجنوبي، ويشمل: الجغبوب، وأوجيلة، وجالوا، والكفرة، ويكون إدارة مستقلة هي الإمارة السنوسية، ويتمتع السيد محمد إدريس بلقب “أمير” مع حفظ حقه في التجول في جميع أنحاء برقة، ويتدخل في إدارة المنطقة الإيطالية متى شعر أن مصلحة أهالي البلاد تتطلب ذلك، وفي الوقت نفسه تعهد الأمير بأن يحل قواته العسكرية، على أن يحتفظ بألف جندي فقط يستخدمهم في شئون الإدارة وحفظ النظام.

إدريس زعيما للبلاد

لم تنجح هذه الاتفاقيات في تهدئة الأوضاع في البلاد وتوفير الاستقرار، وكانت أصابع إيطاليا وراء زرع بذور الشقاق في البلاد، وأدرك العقلاء أنه لا بد من توحيد الصف لمواجهة الغازي المحتل فعقد مؤتمر في “غربان” حضره زعماء الحركة الوطنية، وذلك في (ربيع الأول 1339هـ=نوفمبر 1920م)، واتخذ فيه القرار التالي: “إن الحالة التي آلت إليها البلاد لا يمكن تحسينها إلا بإقامة حكومة قادرة ومؤسسة على ما يحقق الشرع الإسلامي من الأصول بزعامة رجل مسلم منتخب من الأمة، لا يعزل إلا بحجة شرعية وإقرار مجلس النواب، وتكون له السلطة الدينية والمدنية والعسكرية بأكملها بموجب دستور تقره الأمة بواسطة نوابها، وأن يشمل حكمه جميع البلاد بحدودها المعروفة”.

وقد انبثق عن هذا المؤتمر هيئة الإصلاح المركزية، قامت سنة (1341هـ= 1922) بمبايعة إدريس السنوسي أميرا للقطرين طرابلس وبرقة، وذلك من أجل توحيد العمل في الدفاع عن البلاد، والجهاد ضد المحتلين.

وكان قبول السنوسي لهذه البيعة وتوحيد الجهود هو ما تخشاه إيطاليا، وأدرك السنوسي بقبوله هذا أن إيطاليا لا بد أن تضمر الشر، وأنه صار هدفا، فذهب إلى مصر لمواصلة الجهاد من هناك، تاركا عمر المختار يقود حركة المقاومة فوق الأراضي الليبية، وكانت القضية الليبية تلقى عونا وتعاطفا من جانب المصريين.

وبعد أن استولى الفاشيون على الحكم في إيطاليا سنة (1341هـ= 1922م) اشتدت وطأة الاحتلال في ليبيا، وعادت المذابح البشرية تطل من جديد، واستولى المحتلون على الزوايا السنوسية وأعلنوا إلغاء جميع الاتفاقات التي عقدتها الحكومة الإيطالية مع السنوسيين، وكان من نتيجة ذلك أن اشتعلت حركة الجهاد، وكلما عجز المحتلون على وقف المقاومة أمعنوا في أساليب الإبادة، والإفناء ومحاربة اللغة العربية والإسلام، والعمل على تنصير المسلمين وإضعاف الدين والأخلاق.

السنوسي في مصر

وبعد أن استقر إدريس السنوسي في القاهرة أصبحت حركته محدودة بعد أن فرض عليه الاحتلال البريطاني في مصر عدم الاشتغال بالسياسة، وكان من حين إلى آخر يكتب في الصحف المصرية حول قضية بلاده.

ولم اشتعلت الحرب العالمية الثانية نشط إدريس السنوسي وعقد اجتماعا في داره بالإسكندرية حضره ما يقرب من 40 شيخا من المهاجرين الليبيين، وذلك في (6 من رمضان 1359هـ= 20 من أكتوبر 1939م) وانتهى الحاضرون إلى تفويض الأمير في أن يقوم بمفاوضة الحكومة المصرية والحكومة البريطانية لتكوين جيش سنوسي، يشترك في استرجاع الوطن بمجرد دخول إيطاليا الحرب ضد الحلفاء.

وبدأ الأمير في إعداد الجيوش لمساندة الحلفاء في الحرب، وأقيم معسكر للتدريب في إمبابة بمصر بلغ المتطوعون فيه ما يزيد عن 4 آلاف ليبي، كانوا فيما بعد عونا كبيرا للحلفاء في حملاتهم ضد قوى “المحور” في شمال أفريقيا، وساهموا مساهمة فعلية في الحرب، بالإضافة إلى ما قدمه المدنيون في ليبيا من خدمات كبيرة للجيوش المحاربة ضد إيطاليا.

عودة إدريس إلى ليبيا

ولما انتهت الحرب بهزيمة إيطاليا، وخروجها من ليبيا، عاد إدريس السنوسي إلى ليبيا في (شعبان 1364هـ= يوليو 1944م) فاستقبله الشعب في برقة استقبالا حافلا.

وما إن استقر في برقة حتى أخذ يعد العدة لنقل الإدارة إلى حكومته، فأصدر قرارا بتعيبن حكومة ليبية تتولى إدارة البلاد، وأصدر دستور برقة، وهو يعد وثيقة مهمة من وثائق التاريخ العربي الحديث، وقد تكفل هذا الدستور حرية العقيدة والفكر، والمساواة بين الأهالي وحرية الملكية، واعتبر اللغة العربية لغة الدولة الرسمية، ونص الدستور على أن حكومة برقة حكومة دستورية قوامها مجلس نواب منتخب.

وفي عام (1366هـ= 1946م) اعترفت إيطاليا باستقلال ليبيا، وبحكم السيد محمد إدريس السنوسي لها، ولم تكن إمارته كاملة السيادة بسبب وجود قوات إنجليزية وفرنسية فوق الأراضي الليبية.

ميلاد دولة ليبيا

ونتيجة لمطالبة الليبيين بضرورة الاحتفاظ بوحدة الأقاليم الثلاثة (برقة- طرابلس- فزان) تحت زعامة الأمير إدريس أرسلت الأمم المتحدة مندوبها إلى ليبيا لاستطلاع الأمر، وأخذ رأي زعماء العشائر فيمن يتولى أمرهم، فاتجهت الآراء إلى قبول الأمير إدريس السنوسي حاكما على ليبيا.

اتجه الأمير بعد أن توحدت البلاد تحت قيادته إلى تقوية دولته، فأسس أول جمعية وطنية تمثل جميع الولايات الليبية في (13 من صفر 1370هـ= 25 من نوفمبر 1950)، وقد أخذت هذه الجمعية عدة قرارات في اتجاه قيام دولة ليبية دستورية، منها أن “تكون ليبيا دولة ديمقراطية اتحادية مستقلة ذات سيادة على أن تكون ملكية دستورية، وأن يكون سمو الأمير السيد محمد إدريس السنوسي أمير برقة ملك المملكة الليبية المتحدة”، كما انصرفت إلى وضع دستور للمملكة، وأصدرته في (6 من المحرم 1371هـ= 7 من أكتوبر 1951م) متضمنا 204 مواد دستورية.

وبعد أن أعلن الملك إدريس السنوسي أن ليبيا أصبحت دولة ذات سيادة عقب إصدار الدستور انضمت إلى جامعة الدول العربية سنة (1373هـ= 1953م) وإلى هيئة الأمم المتحدة سنة (1375هـ= 1955م).

نهاية الملكية ووفاة السنوسي

ظل السنوسي ملكا على ليبيا حتى قامت ثورة الفاتح في 16 من جمادي الآخر 1389 = 1 سبتمبر 1969م بزعامة العقيد معمر القذافي فأطاحت بحكم الملك إدريس السنوسي، الذي انتقل إلى مصر لاجئا سياسيا، وظل بها مقيما حتى توفي في (12 من شعبان 1404هـ= 25 من مايو 1983م).

 

مصادر الدراسة:

q أحمد صدقي الدجاني ـ الحركة السنوسية ـ مكتبة الأنجلو المصرية ـ القاهرة ـ 1988.

q جلال يحيى ـ المغرب العربي (الحديث والمعاصر) ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ الإسكندرية ـ 1982.

q محمد فؤاد شكري ـ ميلاد دولة ليبيا الحديثة ـ مطبعة الاعتماد ـ القاهرة ـ 1957.

q محمد فؤاد شكري – السنوسية دين ودولة ـ دار الفكر العربي ـ القاهرة ـ 1948.

q نقولا زيادة: ليبيا في العصور الحديثة – معهد البحوث والدراسات العربية – القاهرة – 1966م.

الرجوع للخلف

 

Check Also

تفاصيل نص العرض الذي سُلّم لحماس لوقف إطلاق النار في غزة – مكوّن من 3 مراحل

خلال ساعات، يتوقع أن تسلم حركة حماس ردّها على العرض الذي نقله إليها الجانب المصري …