التطبيع الثقافي بين العرب وإسرائيل
غير ممكن لأنه غطاءً للتطبيع السياسي والاقتصادي
على العرب أن ينسوا جائزة نوبل للأدب لأنهم لا يستحقونها في ظل الوضع الراهن
أجرى الحوار : الزميل حسين عون
أعرب الشاعر اللبناني السوري الأصل على أحمد سعيد المعروف باسم “أدونيس” عن اعتقاده أن التطبيع الثقافي بين العرب وإسرائيل لا معنى له على الاطلاق، لأنه مجرّد غطاء للتطبيع السياسي والاقتصادي. وأكد أن المسؤولين السياسيين العرب هم الذين يتحدثون عن التطبيع الثقافي مع إسرائيل عبر ما يُسمى بـ “مثقفي السلطة والنظام الحاكم”. وشدّد على القول ان “التطبيع الثقافي غير قائم في ظل حالة التيارات المتناقضة، والاختلاف في المواقف حول استخدام
كلمة التطبيع وتطبيقها عملياً على الساحة العربية”. وتساءل بقوله “كيف يمكن أن يكون التطبيع الثقافي، ولا سيما عندما تكون الثقافة بشكل عام هي حركة دائمة في صلب دوامة الحروب والنزاعات والصراعات”. وفي هذا السياق، رأى أدونيس أنه “إذا كانت الثقافة الواحدة لا يمكن التطبيع بين تياراتها المختلفة، فكيف يمكن التطبيع بين ثقافة عربية وثقافة إسرائيلية؟ في اعتقادي أن هذا غير ممكن”. وأوضح قوله “ليس هناك تطبيع داخل الثقافة العربية الواحدة في ظل سلسلة من التناقضات والاختلافات، ولا سيما إذا أخذنا في الحسبان أن معنى التطبيع الثقافي هو أن تصبح الثقافة ذات طبيعة واحدة، وكأنها ثقافة واحدة، وهذا مستحيل”.
جاء ذلك في حديث شامل أدلى به أدونيس إلى الزميل حسين عون مراسل (آكي) الإيطالية للأنباء بعد انتهاء مؤتمر “كتاب في مجلة” الذي اختتم أعمال دورته التاسعة في فيينا حيث شارك فيه شخصياً إلى جانب نخبة من الأدباء والكتّاب والمفكرين والباحثين من مختلف الدول العربية. وقد تناول أدونيس في حديثه مختلف شؤون وشجون الثقافة وأسباب فشل العرب في صياغة مشروع ثقافي عربي وتراجع مستوى اللغة العربية الفصحى التي تواجه خطر الزوال، وطبيعة العلاقة بين الأدب والفن والشعر والسياسة. واعتبر أدونيس من يرشحونه لنيل جائزة نوبل للأدب والشعر أمراً لا يهمه ولا يعنيه على الاطلاق وقال “ولذلك لا أريد أن أتحدث فيه، لأنه ليس مشكلتي”. وتمنى على جميع العرب أن ينسوا جائزة نوبل، لأن أياً منهم لن يحصل عليها، لا في المرحلة الراهنة ولا في المستقبل المنظور. وتساءل قائلاً: لماذا؟ ورد بقوله “بمنتهى الصراحة، لأنهم لا يستحقونها بكل بساطة”.
ورداً على سؤال حول أسباب فشل العرب في صياغة مشروع ثقافي عربي موحد قال أدونيس “في الواقع، وحتى يكون لدى أي شعب من الشعوب بما فيها الشعر العربي مشروع ثقافي موحد، ينبغي أن يكون هناك دولة لديها رؤية للمستقبل، ولديها قضية، وعلى أساسهما تبادر تلك الدولة إلى صياغة مشروع ثقافي ومشروع سياسي واقتصادي”. وأشار إلى أن “العالم العربي يتألف من 22 دولة، ولدى كل دولة منها كمٌ هائلٌ من المشاكل والتحديات، والتي لا يجمع فيما بين شعوبها أية قواسم مشتركة سوى كلمة عروبة وأحياناً العواطف والمشاعر”.
ورأى أدونيس أن العرب، وفي مواجهة القضايا والتحديات المحورية، لا يشكلون دولة واحدة بل مجموعة دول مختلفة، وأعطى مثلاً على ذلك قضية فلسطين، وتساءل بقوله “ماذا فعل العرب من أجل قضية فلسطين وهي قضية مصيرية، وما هو موقفهم تجاهها”. ورد قائلاً “لا شيء، لأن العرب منقسمون في المرحلة الراهنة إلى دول ومحاور”. وفي هذا السياق، دعا أدونيس العرب إلى ضرورة إعادة النظر بالوحدة العربية، ما داموا لا يشكلون كياناً موحداً بالمعنى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وحالة الانقسام الراهنة لا يستطيعون أن يصوغوا مشروعاً ثقافياً، على حد وصفه.
كما حثّ أدونيس العرب إلى الخروج من دوامة سياقات العروبة القديمة والشعارات التقليدية لاعتقاده بأنها انتهت، مشيراً إلى أن السياقات الجديدة غير متوفرة الآن نظراً لعدم وجود أي إطار أو أفق سياسي أو اقتصادي أو ثقافي، مع الأخذ في الاعتبار أن العالم العربي يمر الآن في مرحلة عقم شديد، والعالم الجديد لم يبدأ، والمثير للدهشة أن العرب يرفضون الاعتراف بذلك وبالفشل في إنتاج أي عملٍ إبداعي في ميدان العلوم على حد تعبيره.
وبعدما أوضح أن صياغة السياق العربي الجديد ما زال موضع بحث ودراسة تساءل أدونيس بقوله “من هم العرب الذين سيقررون هذا السياق؟ لا أحد، لأنهم بدأوا ينفصلون عن بعضهم البعض ويتمزقون دولاً وشعوباً، حيث أصبح الجزء وكأنه الكل، ولم يعودوا كشجرة واحدة ذات أغصان وفروع، بل أشجار متعددة، ويجب علينا أن نقرّ بهذا الواقع، وحتى يعودوا إلى مرحلة الشجرة الواحدة يحتاجون إلى فترة زمنية طويلة”.
ورفض أدونيس الرد على سؤال حول الذين يتهمونه بالكفر والالحاد، واكتفى بالقول “لا يحق لأحد أياً كان أن يُطلق كلمة الكفر أو الالحاد على أي أحد كان، كما أنه ليس من حق أحد كان أن يعطي شهادة التقوى والإيمان إلى أي أحد كان”.
طبيعة العلاقة بين الشعر والسياسة
ورداً على سؤال حول طبيعة العلاقة بين الشعر والسياسة، ومدى تأثير الفن والأدب في السياسة قال أدونيس “في الحقيقة، علاقة الفن والأدب والشعر بالسياسة هي مشكلة قديمة، وقد سبق لبعض النقاد والمفكرين أن قدموا أجوبة وحلولاً، ولكن في اعتقادي لا بدّ من التمييز بين مستوين في السياسة: المستوى الأول، هو السياسة التي تتناول بناء المدينة والدولة والمجتمع على أسس ثابتة من مختلف النواحي، والمستوى الثاني، هو المستوى العملي أي السياسة المرتبطة بإدارة النظام العام ومتابعة الأوضاع الزمنية وتطوراتها. وإذا ميّزنا بين المستوين يمكننا أن نعتبر الفن والأدب والشعر سياسة، وكذلك الحب هو نمط من أنماط السياسة في المعنى الأول. ومن هذا المنطلق، أستطيع القول بأن كل الأشياء تندرج في إطار السياسة”.
وأضاف أدونيس قائلاً “أما في إطار المعنى الثاني للسياسة، فإن كل الإيديولوجيات الحديثة وخاصة اليسارية وتحديداً الشيوعية والنازية والقومية المتطرفة بشكل عام، والأدب والفن والشعر بشكل خاص جرى تسخيرها كوسيلة لخدمة النظام وسياسته”. وأكد أدونيس أنه شخصياً ضد هذا الاتجاه بمختلف اهدافه وأبعاده كلياً، لاعتقاده أنه “إذا تمّ تحويل الأدب والفن والشعر إلى وسيلة لخدمة غايات وأهداف سياسية للنظام، فعندها نخسر القيمة المعنوية للأدب والفن والشعر، والكثير من التجارب التاريخية تؤكد ذلك”. ورأى أن “كافة الأنظمة والإيديولوجيات التي وظّفت الأدب والفن والشعر اجمالاً من أجل خدمة سياستها قد مُنيت بالفشل الذريع، ولم تنتج أي نوع من الابداع الأدبي أو الفني أو الشعري الكبير المستوى”.
الأدب والفن والشعر كوسيلة للدعاية
وشدّد الشاعر اللبناني السوري على القول “من هذا السياق، فإن الأدباء والفنانين والشعراء الذين رفضوا الانضمام إلى جوقة الإيديولوجيات هم الذين برزوا وتفوقوا وأبدعوا في إنتاجهم الأدبي أو الفني أو الشعري، في حين انحدر إنتاج الكتّاب والأدباء والمفكرين والفنانين والشعراء الذين كرّسوا حياتهم لخدمة الأنظمة الحاكمة وسياساتها، فقد صاروا جزءً من التاريخ”. كما أعرب أدونيس عن اعتقاده القوي بأنه “لا يمكن للفن الذي يجسّد الرؤية العظيمة للكون والوجود والإنسانية، وهي بالنسبة لي رؤية فنية، أن يكون وسيلة لخدمة السياسة، لأنه عندما يتحول الفن إلى وسيلة ينحدر مستواه، ولا يفيد القضية التي نزعم أنه يخدمها”. ورأى أن ما يقال عن هذه المسألة في بعض الايديولوجيات الاشتراكية يمكن أن يقال عن الإيديولوجيات القومية أو النازية، ويمكن أن ينسحب كذلك على الأدب العربي، على تعبيره.
وأشار أدونيس إلى أن “كل الكتابات العربية التي كانت مجرد دعاية للقضايا العربية المعاصرة، سواء أكانت قضية فلسطين أو قضية تأميم قناة السويس أو الثورة الفلسطينية، أو حتى الأنظمة التي سمّت نفسها ثورية، وكذلك كل الأدباء والفنانين والشعراء الذين حاولوا خدمة هذه القضايا العربية منفردة أو مجتمعة، تحوّل أدبهم وفنهم وشعرهم إلى مجرد دعاية، ثم انتهوا وصاروا جزءً من الإعلام الماضي، وهذا يندرج في إطار المعنى الأول، أي تكريس الفن من اجل خدمة السياسة”. واعتبر أن الأدب والفن والشعر الذي يناهض السياسة، هو الذي يلاقي رواجاً أقوى، لأنه جديدة يقدّم رؤية للإنسان، ونمطاً لعلاقات أفضل بين اللغة والأشياء وبين اللغة والإنسان، وبالتالي تقديم صورة جديدة للحياة تؤثر بالإنسان تاثيراً حراً، في حين أدى استخدام الفن لخدمة أهداف سياسة إلى اضمحلاله”.
انحدار مستوى اللغة العربية
ورداً على سؤال حول اسباب انحدار مستوى اللغة العربية الفصحى، استعرض أدونيس تاريخ اللغة العربية وقال ان “النبي محمد استخدم الشعر لخدمة الدين الإسلامي عندما ظهر في شبه الجزيرة العربية وتحديداً في مكة”. وأكد أن الكثير من الشعراء توقفوا عن نظم الشعر وأمامهم القرآن الذي هو الشعر الأكبر والأعظم، والكتاب الذي لا يمكن لأحد أن يتخطاه”. وأوضح قوله “ولكن حين بدأ الشعراء العرب يعملون من أجل خدمة الدين الإسلامي حاول الكثير منهم نظم الآيات القرآنية نظماً شعرياً، ولكن القراء فضلوا الآيات القرآنية مباشرة، ولذلك، لم تلق قصائد الشعراء العرب رواجاً، فانحدر مستوى الشعر خلال الفترة الإسلامية الأولى، وفي العصر الأموي استرد الشعر العربي أهميته الشعرية.
الأدب والشعر وثقافة المترو
ورداً على سؤال حول مدى إقبال الجمهور على الكتب الأدبية والشعرية في العالم العربي مقارنةً باقبال القراء في أوروبا على كتبه وشعره قال أدونيس “لا بدّ هنا من التأكيد أن وضع الأدب العربي هو جزء من وضع الأدب العالمي، ولكن هناك طبعاً فروقات بالدرجة وليس في النوع. فمشكلات الأدب في العالم العربي هي نفسها مشكلات الأدب في أوروبا والعالم، مع ضرورة ملاحظة اقبال القراء على الأدب السهل وخصوصاً الرواية السريعة على مستوى العالم كله ومنه العالم العربي، ولا سيما بعدما صار هناك كتابة تحمل اسم ثقافة المترو والترامواي والقطار”. وهنا أعرب أدونيس عن اعتقاده بأن “هذا النوع من الكتابات والروايات القصيرة لها جمهورها العريض، لأنها لا تطرح على القراء أسئلة فكرية صعبة أو قضايا إنسانية أو وجودية معقدة، بل تركز على أسلوب التسلية ونمط التشويق والسرد السينمائي أو التلفزيوني وأخبار الفنانين والعناصر الجديدة في الإعلام مثل شبكة الانترنت وأجهزة الاتصالات والكمبيوتر والألعاب الرياضية، وخصوصاً في أوروبا، وذلك في مؤشر اعتبره الكثير من الأدباء والفنانين والشعراء دليلاً مقلقاً للثقافة”.
وبعدما أشار إلى تراجع ثقافات قديمة مثل السومرية واليونانية والفرعونية التي نقلت حضارات تاريخية عريقة لصالح الثقافات والايديولوجيات الجديدة، أكد أدونيس أنه “على ضوء مستوى القرّاء صار نوع الثقافة والمثقفين أفقياً وكمياً أكثر منه عمودياً ونوعياً”، وأوضح قوله أن “أعظم مفكر فرنسي أو ألماني لا يبيع من كتبه سوى ألفي أو ثلاث آلاف نسخة يقرأها نخبة من المثقفين والمختصين وأساتذة الجامعات والمدعين، أي ربع ما تبيعه رواية من الدرجة العاشرة”. واعترف أدونيس أن مشكلة القراءة وانتشار الكتب هي مشكلة عامة، ولكن الفارق الكبير هو بالدرجة وليس بالنوعية، وهو ما ينطبق على العالم العربي وأوروبا على حد تعبيره.
دور أجهزة الرقابة العربية
وبعدما أكد أدونيس أن الشعراء المبدعين يريدون قرّاءً مثلهم مبدعون وليس قرّاءً مستهلكون، أكد أن كل الشعراء والأدباء والفنانين العرب، بمن فيهم هو شخصياً، يلاقون صعوبات جمّة فيما يتعلق بانتشار كتبهم في العالم العربي شأنهم شأن نظرائهم لأوروبيين الذين يجسّدون حركة الوعي الجديد ودعاة التغيير والتطوير. وشكا أدونيس من “الدور السلبي الذي تقوم به أجهزة الرقابة على الكتب والمطبوعات وقصائد الشعراء المبدعين، التي كثيراً ما تتعرض للمنع والحظر، بذريعة لأنها تحتوي على النقد وترفض ما هو قائم”.
ورداً على سؤال حول وجود مسلّمات معينة أو خطوط حُمر في العالم العربي لا تسمح أجهزة الرقابة بتجاوزها قال أدونيس “طبعاً هناك شعراء كثيرون يقبلون تلك المسلّمات، ولكن أنا شخصياً من الشعراء الذين يرفضون كافة المسلّمات سواء أكانت دينية أو فكرية. وفي اعتقادي أن أي أدب لا ينتقد المؤسسة الدينية في المجتمع هو أدب ثانوي لا يجابه المشكل الأساسية التي يواجهها المجتمع”. كما رأنى أدونيس أن “مهمة الأديب أو الشاعر أن لا يقبل المسلّمات، إذا كان بالفعل أديباً أو شاعراً مبدعاً أو خلاقاً، لأنه إذا خضع للمسلّمات يصبح جزءً منها، ويتخلى عن دور الرفض والعمل على الخروج إلى عالم أفضل”.
وتساءل أدونيس بقوله “من قال للمسؤولين عن أجهزة الرقابة على المطبوعات أن المجتمع لا يتقبل هذا الفكر أو الأدب أو الفن أو الشعر، ولا سيما إذا أخذنا في الاعتبار أن المجتمع ليس كتلة واحدة، بل مجموعة من البشر المتنوعين في الأفكار والثقافة والمواقف والتطلعات والتربية النفسية، ولو كانوا على نسق واحد لأصبحوا وكأنهم قبيلة”. وأشار إلى أن “من يقول بهذا الخطاب هم أصحاب السلطة الذين يتمسكون بوجهة نظرهم بأن المجتمع هو فقط الفئات التي تؤيد النظام القائم، ولا يعتبرون الفئات التي لا تؤيد النظام جزءً من المجتمع”.
وأكد أدونيس الممنوع من دخول السعودية أنه يوجد في السعودية أشخاص كثيرين يعارضون الأفكار الدينية المتزمتة والقيّم الدينية السائدة، ويؤكدون أنهم يؤيدون الحريات العامة، وخاصة حرية المرأة ضد ارتداء الحجاب.
كيف تحيا اللغة وكيف تموت
ورأى أدونيس أن “ما ينطبق على اللغة العربية ينطبق على اللغة الفرنسية، حيث تبيّن أن الكتّاب الجزائريين يجيدون اللغة الفرنسة أكثر من الفرنسيين”. كما أشار إلى أن “اللغة العربية تتألف من 28 حرفاً، وهي أسهل بكثير من اللغتين الصينية واليابانية”. ولكنه استدرك قائلاً “كل الصعوبات تهون عندما يتوفر منهج تعليمي صحيح، مع الأخذ في الحسبان أن اللغة ليست مجرد مفردات قائمة في المعاجم، بل هي حياة وسياسة واقتصاد وعلوم وتربية وثقافة وحب وعلاقات إنسانية واجتماعية”. كما أعرب أدونيس عن اعتقاده أن “غالبية العرب والإسلاميين لا يعرفون لغتهم، لأنهم من خلال تأويل خاطئ وضيِّق للدين يحصرون الفكر كله في نطاق محدود، وهو النطاق الفقهي والشرعي، ولكنهم لا يدركون أنهم بذلك يضيِّقون حدود اللغة، ويساهمون في إضعافها، واللغة تموت بقدر ما تضيق حدودها، وتحيا بقدر ما تتسع حدودها”.
وهنا تساءل بقوله “كيف لكاتب أو أديب أو شاعر عربي أن يكتب ويُبدع وفوق رأسه شرطي يراقبه ويُحدّد له المسلّمات والقيود التي ينبغي عليه أن لا يتخطاها”. وبعدما أكد أنه لا توجد في أوروبا مثل هذا الكاتب أو الأديب أو الشاعر العربي المكبوت، أوضح أدونيس قائلاً “أنا كشاعر عربي، لا أستطيع أن أكتب أو أتحدث عن أشياء كثيرة أو أنشرها بسبب الرقابة وتضييق حرية النشر. وفي اعتقادي أن مثل هذا الأسلوب هو الذي يقتل الفكر والأدب والثقافية ويضع اللغة في قالب معين وسجن، وعندها تضعف وتذبل ثم تموت في العالم العربي”. وشدد على القول “بقدر ما تمرض الحرية تمرض اللغة، وللأسف، الحرية عند العرب مريضة لأن الدول العربية مريضة”.
ورداً على سؤال عن احتمال وجود مخطط يستهدف قلب الثقافة العربية أي اللغة العربية نفى أدونيس ذلك، وقال “صحيح أن الله يحفظ الذكر بقدرته الالهية، ولكن ولكي يحفظه في العالم يجب أن يكون هناك بشر يحفظونه”. وهنا دعا أدونيس الإسلاميين لكي يتعلموا القرآن، لأنهم في اعتقاده أجهل العرب باللغة العربية، وشدّد على القول بأنه واثق من ذلك. وأشار إلى أنه قرأ عن وجود طالب يوناني يجيد 22 لغة أجنبية أي بعدد الدول العربية، وعبّر عن الأسف البالغ لوجود عرب يدافعون عن اللغة العربية الفصحى ولكنهم لا يجيدونها.
ولكنه استدرك قائلاً “لا أحد يستطيع أن يتنبأ بمستقبل لغته، كما أنه لا يستطيع أحد إحياء لغة أو يمحوها، لأن قوانين التاريخ والتطوّر هي التي تتحكم بذلك. وإذا قارنا تاريخياً بين مستوى اللغة العربية في عصر المأمون ومستوى اللغة العربية في عصر حسني مبارك، نجد فرقاً شاسعاً، بحيث نصل إلى قناعة بأن اللغة العربية الفصحى أي المسكنة والمحرّكة باتت معرّضة للفناء بحكم الطبيعة والقوانين التاريخية التي لا يمكن أن تستثني أية لغة، لأن اللغة هي مثل الإنسان، كائن حي يولد ثم ينمو ويكبر ثم يهرم ثم يموت، والموت لن يستثني أحداً، ولكن يمكن تطوير اللغة ومدّها بعناصر تطيل أمدها، ولكن مع الأسف هذا غير متوفر لدى العرب في المرحلة الراهنة”. وأكد أدونيس أنه ليس ضد اللغة العربية العامية أو الدارجة، بل وصفها بـ “اللغة العظيمة” لأنها لغة الناس.
ورداً على سؤال حول فحوى رسالته أو نصيحته إلى العرب من أجل الخروج من حالة التردي الثقافي واللغوي قال أدونيس “ليست لديّ أية رسالة أو نصيحة معينة، لأنني ضد الرسائل والنصائح، وأنا أعاين الواقع، ويمكن أن أصيب أو أخطئ، وجميعنا لدينا أخطاء. وفي اعتقادي بأن كل شخص مسؤول عن بناء نفسه، وقبل أن أنتقد أي شخص عربي لأنه لا يعرف اللغة العربية، فيجب أن أنتقد نفسي أولاً. وحينما أقول أن غالبية المثقفين وخريجي الجامعات العرب لا يعرفون لغتهم العربية تماماً فأنا أقول ذلك عن خبرة في أعلى المستويات”. وهنا تساءل أدونيس قائلاً “ما هو حجم الأموال التي يملكها بعض العرب وليس كلّهم. لديهم كمٌ هائل من الأموال، ولكنهم وللأسف لا يعرفون كيف ينفقونها. وأنا من هنا أدعوهم لكي يستثمروا جزءً من تلك الأموال في التنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية في العالم العربي، وستعود بالنفع الكبير على الشعوب العربية”.
مشكلة الانتماء إلى العروبة
ورداً على سؤال عما إذا كان العربي يواجه مشكلات على خلفية انتمائه العربي قال أدونيس “بالمعنى الوجودي، أن يكون الإنسان إنساناً هو بحد ذاته مشكلة، وأن يكون الإنسان نمساوياً أو ألمانياً فسيواجه على سبيل المثال مشكلة العنصرية، أما أن يكون الإنسان عربياً فسيواجه مشكلات كثيرة ولا سيما في المرحلة الراهنة”. ورغم ذلك عبّر أدونيس عن سروره وقال “أنا شخصياً سعيد لأنني وُلدتُ عربياً، وبأن أكون عربياً، وسعادتي هذه تدفعني لكي أجابه كافة المشكلات”.
ورداً على سؤال أخير عما إذا كان يعتقد بأن أبناء المهاجرين العرب في أوروبا وأميركا من الجيل الثاني نادمون لأنهم لا يعرفون اللغة العربية الفصحى قال أدونيس “إن مثل هذه المشكلة تندرج في إطار نسيان اللغة الأصلية. وعدم معرفة اللغة العربية أو عدم اتقانها هي في الواقع مشكلة قائمة حتى في قلب العالم العربي أيضاً. فهناك حكام عرب يتولون قيادة بلدانهم ولكنهم لا يعرفون أن يلقوا خطاباً صحيحاً باللغة العربية، وهذا ينسحب على جميع القادة العرب بدون استثناء، بالإضافة إلى غالبية أئمة المساجد، وأنا على يقين وقناعة من ذلك”. ورأى أدونيس أنه من هذا المنطلق، يعتقد بان “اللغة العربية الفصحى تواجه خطر الزوال، لأنه لا يوجد قانون طبيعي أو تاريخي يجزم بأن اللغة ليست معرضة للانقراض، والدليل على ذلك اللغات القديمة التي انقرضت مع مرور الزمن”.
وأعطى أدونيس مثلاً على ذلك فقال “اللغة السومرية التي قرأناها في أول ملحمة في التاريخ وهي ملحمة جلجامش، فقد انقرضت، وكذلك اللغات البابلية والفينيقية والفرعونية التي من خلالها تم انجاز أعظم الحضارات البشرية، هذا بالإضافة إلى اللغة اليونانية التي تعلمنا منها فلسفة أفلاطون وأرسطو وهوميروس، فقد انقرضت”. وخلص إلى القول “ولذلك ليس هناك ما يمنع انقراض أي لغة من اللغات المتداولة في العالم المعاصر بما فيها اللغة العربية”.