إن ظاهرة الإثنيات في المشهد العربي حقيقة قائمة، ومن السلبي تجاهلها إن المتأمل للنسق الديني والسياسي للمجتمعات العربية، يلاحظ هذه الفسيفساء، وهذه التشكيلات المجتمعية، من الإثنيات( اللغوية والعرقية…)، والمذهبية(الدينية)، والقبلية، والسياسية(ذات الإيديولوجيات المختلفة).
فالسياسي عندنا مرتبط بطبيعة بنيتنا الاجتماعية والثقافية التي لازال أغلبها تقليدي،ولم تتأثر بالنظم الحديثة إلا تأثيرظاهريا فقط وهذا أيضا له مزاياه ولكن له عيوب وأخطرها عدم التكيف ومسايرة العصر والمفاهيم التي تطرح علي كل الصعد ثقافية, دينية, سياسية ( قيم العقل والعلم والمواطنة …الخ).
لكن لماذا بقت البنية الاجتماعية(خاصة الاثنية والمذهبية والقبلية…) تقليدية، وتنتمي غالبا إلى زمن القرون الوسطى أوما قبلها وبعدها؟
ولماذا هذا الانفجار اللامتناهي والتفتيت والتجزيء في المنظومة المجتمعية العربية سواء كانت: مذهبيا وإثنيا وإيديولوجيا وقيميا…؟
هذا السؤال أجاب عليه الكثيرون من فقهاء علم الاجتماع والتحليل السياسي ويخلصون دائما إلي إجابة هامة جدا.
إن التحليل للأسباب الداخلية العميقة للصراع السياسي، ونتجاوز بذلك القشور السطحية للصراع العبثي والمستمرالذي لا ينتهي في مجتمعاتنا العربية :
يأتي من منطلقات بالأساس اجتماعية وتاريخية، نلاحظ أن هذه التشكيلات الإثنية المتواجدة بعالمنا العربي الإسلامي، جاءت نتيجة لحركة معينة لتاريخ المجتمعات التي سبقتنا، وتحكمت في تشكيلها معطيات جغرافية ، و ثقافية قيمية ،وصراعات سياسية واقتصادية(محلية وإقليمية ودولية)..
وكانت الإثنية(اللغوية والعرقية) كجزء من الهوية تحدد الإنتماء إلى جماعة ما (القبيلة، الأمة…الخ) وتميزها على الجماعات الأخرى، وما يتبع ذلك من تحديد لأحقية ملكية الأرض والخيرات والثروات، وتحديد الآخر( العدو أو الأجنبي…)
إنها كانت آلية من آليات التنظيم المجتمعي، وآلية من آليات الصراع مع الآخر…
هذه المعطيات التاريخية لازلنا نرثها كما هي،وتتحكم بشكل كبير في منظومة صراعاتنا ولم تنجح أي جهود أو أحزاب من تحويل بوصلة هذا الاتجاه لأنه وفي الغالب تكون التحولات شكلية.
الصراع المذهبي: المذاهب والطوائف الدينية التي نلاحظها الآن (الإسلامية تحديدا) هي الأخرى كانت نتيجة لصراع مجتمعي كان يستعمل الدين كأداة لإضفاء الشرعية على سلطة جماعة مذهبية أو طائفية ما،من خلال قراءتها التأويلية للنص الديني ،وادعائها ملكية الحقيقة الدينية المطلقة ،ولكل مذهب تبريراته وتأويلا ته الخاصة،والكل يعتمد على مرجعية واحدة:القرآن الكريم والأحاديث والسنة النبوية الشريفة!فكان السنة والشيعة…بل وداخل كل مذهب نجد طوائف وشعب وتيارات سياسية دينية…………….. فمن يملك الحقيقة الدينية ؟!!!
أليس بداية الانقسام والتفرق كان مجرد صراع دنيوي لأغراض سياسية او اجتماعية مبطنة بتأويلات مصلحية خاصة لفرق وجماعات لاتجاهات معينة وتؤيد أحقية وسلطة هذه الجماعة أو تلك،وبالتالي الصحة المطلقة لقراءاتها وتفسيرها للمتن الديني؟! لكن هل تعدد المذاهب نتيجة فقط للصراع السياسي والمجتمعي المصلحي النفعي (البرجماتي والايدولوجي) أوهو كما يقول البعض انه نتيجة كذلك لطبيعة النص الديني،لان النص” حمال أوجه” وهذا لايعيب النص مطلقا والدليل علي ذك انه لايوجد تفسير للذي انزل عليه النص نفسه وهو الرسول(عليه الصلاة والسلام) والذي يبقى النص مفتوحاعلى التأويل في علاقته بالتاريخ وبالحاضر وبخصوصيات كل جماعة[ الجغرافية والسياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية]؟!
أوله علاقة بطبيعة المناهج (اللسانية والمعرفية) المعتمدة في قراءة النص الديني، وبطبيعة وخصوصية تلك اللغة واشتقاقاتها واتساعها لتفسير كل المعاني وما تحويها من مضامين ومفردات ثقافية مرتبطة بتلك اللغة وموروثاتها من عادات وتقاليد وفهم كامل للنص من واقعها المحلي. ويتأثر بها هذا العقل القارئ والمؤول للنص الديني؟
ومن التحليل التاريخي للطوائف والصراعات المسيحية أيضا نلاحظ في القرن الخامس الميلادي عندما حدث الانشقاق الكبيربين الكنيستين” الشرقية والغربية” بسبب مجمع” خلقيدونيا” (عام 451م)، فأصبحت كنائس الشرق تحت قيادة كنيسة الإسكندرية تعرف بالكنائس “الأرثوذكسية”، وكنائس الغرب تحت قيادة كنيسة روما وسميت بالكنائس الكاثوليكية. إلى أن جاء القرن الحادي عشر حيث إنفصلت كنائس القسطنطينية واليونانية وشقيقاتها عن الكنيسة اللاتينية وأصبحت هي الأخرى تعرف بالكنيسة الأرثوذكسية. إن حروب المسيحيين فيما بينهم، كمذاهب مسيحية، حروب كثيرة، وطويلة، منها حرب استمرت مائة عام، ومنها حرب الثلاثين المشهورة، والتي استمرت ثلاثين عام.
فمنذ اعتناق الإمبراطورالروماني للديانة المسيحية وبدأت الحرب تأخذ شكلا دينيا و تعتبر دعوة القديس( امبروز) أن البربر المتمردين على الإمبراطور المسيحي (جراسيان) هم أعداء الله في الأرض وكانت هذه أول شكل للحرب الدينية في المسيحية، وقامت بعد ذلك الحروب الصليبية لاستعادة فلسطين من أيدي المسلمين. و ظهرت الحروب الدينية الطاحنة بين المسيحيين في أوروبا بعضهم البعض حيث برزت الحروب بين البروتستانت والكاثوليك بعد انفصال الكنيستين عن بعض لنفس الأسباب الطائفية والمذهبية التي بدأت سياسية وانتهت دينية وكل طائفة تعتقد أنها تملك الحقيقة الدينية المطلقة!!!
ومصر واحدة من البلاد التي تأثرت تأثركبيرا بكل هذه الاثنيات والعرقيات والطوائف والاختلافات المذهبية [الإسلامية والمسيحية] وذلك لعمرها وتراثها وارثها الحضاري المتفرد وعمق تأثرها وتأثيرها الديني وموقعها الجغرافي الذي كان سببا رئيسيا في فتح شهية المستعمرين والطامعين في ثرواتها ونفوذها ومكانتها بين الأمم قديما وحديثا.
ان الإسلام حين دخل مصرحرر المسيحيين من الاضطهاد الروماني وكان لذلك أثره في تحسن العلاقة ين المسيحيين والمسلمين بالإضافة إلى عوامل أخرى في قبول المصريين مسلمين ومسيحيين لكل نظم الدولة العربية الجديدة بدينها وثقافتها وبالطبع للغتها العربية، التي أصبحت الوعاء الثقافي للجميع ولا شك أن هذا صنع نوع من التصور والوعي والتفكير المشترك.
وقد ساهم الأقباط والمسلمون المصريون في ذلك البناء العربي والإسلامي بقوة وتعايش سلمي متناهي.وكما عملت المسيحية علي التبشير والتنصير لكل من الأقاليم والبلاد التي استعمروها كان أيضا من حق المسلمين العمل علي نشر الإسلام في كل البلاد التي فتحوها وبالنظر إلي كتب التاريخ ودون الوقوع في فخ الكتابات الفاسدة المعادية للتاريخ والواقع والحقيقة نجد أن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر – طوال التاريخ – ما عدا الأربعين عاماً الأخيرة،تميزت بأنها علاقة متينة وقوية وسوية وكان ومازال ينظر إلي المسبحين علي أنهم شركاء الوطن جيراننا الذين في أحيانا كثيرة يكونون اقرب لنا من عائلاتنا وأهالينا في المناطق أو البلاد البعيدة، بل وجزءا لا يتجزأ من النسيج الوطني المصري والعربي والإسلامي ومن كل المستويات الاجتماعية .
فما الذي حدث في الأربعين سنة الماضية والذي أطاح بالعش الهادئ للوحدة الوطنية بين المصريين والذي يدمي قلوب كل المصريين؟!
الحقيقة التي أكدها المراقبون والغالبية العظمي من المصريين أن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر جيدة جدا وفي بعض المناطق تتراوح مابين المتوسطة أو المتوترة هذا يعني أن الخلافات التي تنشب بينهم أحيانا لها أبعاد اجتماعية واقتصادية وهي تحدث باستمرار وبين أصحاب الديانة الواحدة، وأن محاولات إشعال الفتنة الطائفية داخل مصر من وقت لآخر لايستفيد منها إلا أعداء مصر وحتى[ لا نتهم بإتباع نظرية المؤامرة] مع أنه لا ينكرها مراقب ذو عقل وقلم محايد وان هذا العدو ليس له إلا مصلحة واحدة وهي الضغط علي مصر بكل الأوراق المتناثرة للتأثير في القرار السياسي من أجل مصالح استعمارية كلاسيكية وحديثة!.إن ما يحدث الآن بين المسلمين والمسيحيين هو عبارة عن أورام خبيثة تنحر في داخل جسد يعاني من الفقر والتبعية السياسية والاقتصادية وأن لعبة إشعال الفتنة الطائفية لعبة قديمة كان يمارسها الاحتلال الإنجليزي والفرنسي في مصر منذ أيام الاستعمار لتحقيق مصالح خاصة علي مبدأ” فرق تسد”.
فالمواقع المسيحية علي الانترنت بالمئات وتعطي رؤية ومنطق واحد لقضيتهم وهو اضطهاد الدين الإسلامي نفسه ورسوله لهم!!!!! وتصور الدين الحنيف ورسوله” الرحمة المهداة” الدين الذي انتشر في العالم وفي عشرات سنين فقط وبني إمبراطورية وحضارة تشع علي العالم ولقرون عديدة نورا طاغيا من التسامح والتعايش والعلم والمعرفة في كل مكان تصوره بأنه جاء فقط ليضطهد المسيحية والمسيحيين! والغريب أنهم يسوقون الأمثلة والأحداث كما لو كان التاريخ يكتبه طائفة او جماعة أو اثنية.إن كتابة التاريخ واختلاق الأحداث التاريخية وكتابتها حتى تساير هوي فئات بعينها لا هوي الحقيقة يفقد الكاتبين كل مصداقيتهم بل ويلقيهم إلي سلال الزمن البائد والعنصرية الفجة التي يحاربونها.
فمن أراد أن يعرف فضل التسامح الإسلامي، ويعرف سماحة المسلمين على بصيرة، فليقرأ ما فعلته الأديان والعقائد والأخرى مع مخالفيها على مدى التاريخ ؟ “فالضدُّ يُظهر حسنَه الضدّ”ُ.
بل ليقرأ ثم يقرأ موقف أصحاب العقائد اللادينية الحديثة،وكيف عاملوا ويعاملون مخالفيهم في المذهب والاتجاه؟! بل ماذا صنعوا ويصنعون بزملائهم في الفكرة، ورفقائهم في الكفاح ، إذا خالفوا عن رأيهم ، أو فكروا غير تفكيرهم؟!
ونقرأ وبكل حياد ماذا سجل التاريخ للمسلمين حينما فتحوا الأندلس ثم ماذا سجله لخصومهم الأسبان من النصارى، حينما قُدِّر لهم أن ينتصروا عليهم، بعد ثمانية قرون عمروا فيها بلاد الأندلس بالعلم والنور، وأقاموا فيها حضارة خالدة يباهى بها التاريخ وعلي مدار القرون ولا ينكرها إلا كل جاحد.
فرغم كل التعتيم والمغالطات علي اثر الحضارة العربية والإسلامية علي العالم اجمع ألا أن الكتابة الشريفة تحاكينا عن تاثيرمجد العلماء العرب والحضارة العربية الإسلامية علي كل البشرية وفي كل المجالات.
وعلي العكس فان الإحساس لدى المسلمين في مصر بأن الغالبية من المسيحيين المصريين تتعالي علي العرب والعربية والعروبة ولديهم شعور جارف بأنهم ينتمون إلي الغرب المسيحي وليس إلي الأمة العربية المصرية.
وحديثا استقواء المسيحيين بالخارج للضغط على الحكومة التي تستجيب لهم خوفا من الغضب الخارجي عليها،هذا يهدد النسيج الوطني تماما ويزيد الاحتقان بين الطرفين، ولا شك أن تراكم الإحساس لدى المسلمين 94 % بأن الطرف المسيحي يستقوي بالعدو الخارجي عليهم يجعل المشاعر مستنفرة خصوصا في زمن يشعر فيه المسلمون أن الحرب الدعائية عليهم مستعرة ومن متطرفي الغرب المسيحي.
الأحاديث والتحركات التي يقوم بها “أقباط المهجر” وهي منقولة بالطبع عن طريق الفضائيات والانترنت،تدور حول إمكانية الولاء للخارج واستمالة الغرب لأنهم مماثلون لهم في الدين على حساب مصر، أو أن مصر محتلة بالاحتلال العربي ‘الإسلامي’ ينظر إليه من كل المذاهب الفكرية والدينية علي أنه تحالف لكل القوي الاستعمارية على حساب العرب والمسلمين والذي يرفضه أي مصري شريف المسيحي قبل المسلم .
إن اخطر ما يفعله المسيحيون والمسلمون مشعلي الفتنة أنها تشي بفتنة طائفية
وشيكة وانه لن يساق إلي مصير يهلك الحرث والنسل إلا مصر المصريين.
وتضاف إلى هموم وأثقال هذا الوطن الطيّب التعس! الذي لم يعرف هذه الأوجاعَ والتصدعات والشروخات في هيكلِ مواطَنتِه، إلا حديثا، مع المد الديني المتطرف، وفقر الوعي الثقافي والفكري ، وتهدم المثل، وتصدّع مفهوم المواطَنة بعيدا عن حشر العقيدة حشرا بداخل الخلاف، وانهيار منظومة الجمال والفوضي التى تكرست وتغلغلت في أوصال مصر المصريين بالفتنة الطائفية………وإشاعة منظومة القبح.
وللحديث بقية
فاطمة حنفي
مقالات أخرى للكاتبه
إمبراطورية الأميين
في انتظار مالا يجئ
من يعلق الجرس؟
حديث الاتحاد! أم حديث الافك ؟!
عفوا سيادة السفير… فلابد للنادي المصري أن يكون ” ناديا ومصريا”!
الفتنة الطائفية………… وإشاعة منظومة القبح!