يطلق المصريون على الخبز ” العيش ” . ولعله إيجاز ومجاز صاغته العبقرية الشعبية يفيد إعتماد الفقراء شبه التام على “رغيف العيش ” في ظل غياب “ما يسندون” به الطحين المخبوز في كل وجبة طعام . ولم تكن مصادفة ان يوجز مؤرخون وصحفيون و دارسون أجانب إنتفاضة 18 و19 يناير 1977 بتسمية ” إنتفاضة الخبز “. فقد تقدم “رغيف العيش ” قائمة السلع الاساسية التي قررت الحكومة المصرية قبل ثلاثين عاما بالتمام والكمال ، مفاجئة مواطنيها برفع الأسعار . فأعلنت زيادة سعر الرغيف
لواحد 5 مليمات ، ليصبح سعر”الرغيف الأبيض” قرشا كاملا ( 10 مليمات ) . ولم يعد لا” المليم ” أو ” القرش ” وحتى العشرة قروش عملات متداولة في مصر الآن . أما الخبز ذاته فيبدأ سعره الآن بخمسة قروش في حده الأدني ، ممثلا في ” الرغيف البلدي ” ، والذي لا يمكن العثور عليه الا بشق الأنفس ،وقد بات شراؤه و استهلاكه دليلا على الفقر المدقع . لكن مصر 2007 تعرف بفضل تحولات الانفتاح فاقتصاد السوق و العولمة اصنافا وألوانا من الخبز بكل أسماء اللغات والبلدان . و غالبية المصريين باتت تلجأ لشراء أنواع محددة من الخبز سعر رغيفه الواحد (ربع جنيه).. أي 250 مليما بأسعار زمان .
كان عدد سكان البلاد نحو الثلاثين مليونا عندما إندلعت “انتفاضة يناير” التي عرفت في الأدبيات الاكاديمية والسياسية بالانتفاضة الشعبية ،و وصمها الرئيس أنور السادات من جانبه وهو يكز على أسنانه غيظا ” إنتفاضة الحرامية “. و الآن تجاوز عدد المصريين السبعين مليونا . وشتان ايضا المقارنة بين خبز 77 و خبز 2007 ،. وكذا بين التاريخين في حماسة المسئولين تجاه الإلتزام بدعم السلع الأساسية و بخاصة ” رغيف الخبز” ، وإن بقيت متشابهات .
أضطر الرئيس السادات بعد يوم واحد من غضب المصريين في انتفاضة 77 الغاء قرارات رفع الدعم و زيادة الاسعار . وما من حكومة خلفت حكومة رئيس وزرائه المقال وكبش فداء اطفاء نيران الغضب “ممدوح سالم” الا وتعهدت بالابقاء على “الرغيف البلدي” وسعره . لكن هذا الرغيف ظل يتطور حجما ويتلون تسمية ويتدهور خامة ومكونات .فدخل متوالية نقص الوزن ، وظهرت اسماء الرغيف ” الفاخر” و”الممتاز “و”الطباقي ” و غيرها.
الحكومة المصرية مع مطلع العام الحالى قالت ان دعم الخبز وحده يكلفها سنويا تسعة مليارات جنيها مصريا ( الدولار 5,7 جنيه ) وهي في مسيس الحاجة لتقليصه . وبارقام 1977 فان كل الإجراءات القاسية التي اتخذتها الحكومة المصرية تجاه 12 سلعة أساسية من بينها الخبز كانت تستهدف توفير أقل من ربع المليار جنيه ، وتحديدا 227 مليونا. والأهم ان الإقتصاد المصري بقى عاجزا الى حينه عن كفاية مواطنيه من القمح اللازم لانتاج خبزه. وفي العام الماضي وحده انتجت مصر فقط نصف القمح المطلوب لخبز ابنائها ،و استوردت كمية مماثلة ( 6 ملايين طن قمح من الخارج) . ويعيب مسئولون على مواطنيهم لا زيادة السكان وحدها ، بل أيضا ارتفاع معدل استهلاك الخبز الى 160 كيلو جرام للفرد سنويا بزيادة 30 كيلو عن المعدلات العالمية. لكن خبراء وساسة طالما احتجوا بأنه ” ما باليد حيلة .. آتوا للناس بما يأكلوه لحما و خضروات وفواكه تعوضهم عن قتل الجوع بمزيد من العجين “.
مع مطلع العام الحالي 2007 أكدت الحكومة المصرية التزامها السنوي بتوفير “الرغيف البلدي “خبز محدودي الدخل معبرة عن هاجس 18 و 19 يناير رغم مرور كل هذه السنوات . لكن العام المنصرم اطلق مخاوف مع حديث معاد عن إختراع ” رغيف محسن ” في نوعين ” استثماري ” سعره 20 قرشا و ” طباقي” بعشرة قروش ، وبعدما انخرطت الحكومة في توقيع عقود مع مخابز ” الرغيف البلدي” لإنتاج ” الرغيف الجديد .. المحسن ” . و تحدث معارضون عن معركة الحصار الأخير على ” الرغيف البلدي” . علما بأن هذا “الرغيف أبو خمسة قروش ” ساء حاله. وهو بالأصل انقرض من أحياء بكاملها في مدن مصر وبات الحصول عليه يتكلف انتظارا طويلا و شاقا في صفوف عبثية أمام مخابز الفقراء.
لم تجرؤ حكومة مصرية بعد على اعلان وفاة “الرغيف البلدي” رغم ما لحق به من تحولات و ندرة حضوره على موائد عموم المصريين . وفي ذلك التزام بشعار ” لامساس ” بمحدودي الدخل الذي أكدته الحكومة ذاتها التي رفعت الأسعار في يناير 1977 بينما حرصت على اعلان استثناء رغيف الخمسة مليمات آنذاك. لكن رغيف الخمسة قروش الآن ـ و يحمل التسمية ذاتها “البلدي” ـ لا يزال يلفظ انفاسه ،ومع أنه يتغطى بالشعار نفسه ” لامساس ” و تضاعف سعره عشرة مرات في 30 عاما و قل وزنه الى اقل من النصف