قضية الإسرائيليات
ـ تثير قضية الإسرائيليات في كتب التاريخ التي ألفّها المسلمون وكذلك في تفسير القرآن الكريم، لغطاً ومراجعات متزايدة في الآونة الأخيرة. ويبدو أنّ هناك اتجاهاً تصحيحياً يتبنّاه بعض العلماء والأكاديميين في العالم العربي والإسلامي في هذا الاتجاه. هل لديك ما تقول في هذا الشأن؟
هذا المصطلح (الإسرائيليات) يحمل انطباعاً سلبياً فقط لدى القارئ المسلم، بينما الإسرائيليات ساهمت في الجانب
* الصحيح منها في توسيع رقعة التفسير في زمن التابعين؛ حيث عمد الشرّاح والمفسِّرون إلى النقل عن مسلمة أهل الكتاب، من نصارى ويهود وغيرهم، لسدّ الثغرات الموجودة في التفسير وتقريب المعاني القرآنية. فالإسرائيليات قسّمها العلماء حسب صحتها إلى فئتين؛ فهي إما صحيحة وإما ضعيفة.
أما يقظة الباحثين تجاه الغثّ من الإسرائيليات فقد بدأت منذ عصر تابعي التابعين؛ حيث تصدّى علماء المسلمين للسيل الجارف من المرويّات الإسرائيلية، واستمر التصدي والتنقيح حتى عصرنا الحديث، ومن الروّاد هذا المجال الدكتور الذهبي، الذي وضع كتابه القيِّم “الإسرائيليات في التفسير والحديث”.
هذا التوجّه يستحق الدعم والمساندة المستمرة، وكذلك التعاون بين علماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم، والاجتماع على كلمة واحدة يمكن من خلالها تنقية المعتقد والتاريخ الإسلامي مما يشوبه من طقوس وأحداث دخيلة. وهذا الأمر له علماؤه وأهله الذين يعلمون أكثر من غيرهم كيفية التعامل معه.
ـ لنبقَ في الإطار اليهودي؛ هل يصادف المرء فوارق لافتة للنظر في المصطلح الديني اليهودي بحسب البيئة؟ بمعنى خصوصيات في المصطلح الديني لدى يهود العالم العربي والإسلامي من جانب، ويهود أوروبا من جانب آخر، مثلاً؟
* بلا شك أنّ مقولة الإنسان ابن بيئته، تنطوي على قدر كبير من الصحّة، ولعلي أذكر مثالاً بسيطاً على ذلك بما يتردّد على ألسنة المسيحيين في بلدي مصر من كلمات مثل: “الله أكبر”، “بسم الله ما شاء الله”؛ حيث تستخدم هذه الكلمات بعفوية
لتعبر عن ردّ فعل المتكلم على موقف ما. ورغم ذلك؛ فإنّ مثل هذه الكلمات ذات الطابع الديني لا تؤثر على العقيدة بقدر ما هي انعكاس للبيئة التي يعيش فيها المرء.
وينطبق ذلك أيضاً على اليهود السفارديم (الشرقيين) والاشكناز (الغربيين)، فلكلٍّ بيئته التي يعيش فيها أو هاجر منها، وحمل داخله ما في هذه البيئة من ألفاظ يعبِّر بها عن واقع حياته، دون أن يمسّ ذلك أصل العقيدة.
فهناك المصطلح الديني العام والمصطلح الخاص، فالأول يشتمل على كل ما يمسّ أمور العقيدة من مصطلحات مثل الصلاة والصيام وبقية العبادات التي لا تختلف باختلاف المكان، أما المصطلح الخاص فيكون مقصوراً على جماعة معينة تجمعها بيئة واحدة. ويحضرني مثال كلمة “پرديس” العبرية التي تعني “فردوس” بالعربية، ويقابلها في اللغة الألمانية كلمة Paradies، (بالإنجليزية برادايْس)، فالكلمة العبرية تعني بلغة اليهود في فلسطين اليوم بستان الموالح، أما مقابلتها الألمانية فتعني في أهم معانيها أيضاً لدى يهود أوروبا الجنّة العلوية أو جنّة عدن. فالمصطلح العبري يبعد عن الإطار الديني تماماً، بينما يلتصق مقابله الألماني بالمفهوم الديني، وإن كانت له تنويعات دنيوية.
القصص الديني
ـ يستوقف المرء ما يتمايز به بعض القصص الديني في المصادر اليهودية عن نظيرتها في المصادر الإسلامية، من قبيل قصة الأمر الرباني للنبي إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه، فلدى اليهود كما هو معروف هذا الابن ليس سوى النبي إسحق عليه السلام، بينما هو في الإسلام النبي إسماعيل عليه السلام. أيضاً هناك ملاحظات تتعلق بمنح أوصاف دونيّة لإسماعيل عليه السلام وأمه هاجر في المصادر اليهودية .. ماذا تقرأ في هذا من جانبك؟
* دعني أولاً أشير إلى أنّ عدداً من علماء المسلمين، ومنهم ابن قتيبه (في “المعارف”)، وابن عبد ربه (في “العقد الفريد”) على سبيل المثال؛ لم يجدوا غضاضة في أن يكون الذبيح هو إسحاق وليس إسماعيل عليهما السلام. فمسألة الاختلاف بشأن الذبيح؛ اسماعيل كان أم إسحاق، بين المفسرين والعلماء المسلمين لم تكن من منطلق عنصري، ولكنها كانت من منطلق تفسيري بحت، وكان لكل مفسِّر حججه التي حاول أن يبرهن بها على صدق رؤيته. وهذا الاختلاف لا يسبِّب أي خلل في الاعتقاد، فالعبرة من القصة هي إظهار صبر الأنبياء على البلاء والطاعة الكاملة لله جل وعلا.
والأمر مختلف تماماً وفق المفهوم اليهودي. فالمتابع لسفر التكوين منذ بدايته وحتى نهايته يلاحظ عملية الانتقاء والتوجيه التي استخدمها النص التوراتي من أجل حصر البركة والاختيار الإلهي في نسل واحد فقط. وما أن يصل القارئ إلى إبراهيم ونسله يجد كاتب السفر يذكر أعاجيب وأفعالاً قام بها نسله من أجل الفوز بالبركة، وبالتالي الحفاظ على نقاء العنصر وفق النظرة الاستعلائية التي ينضح بها السِّفر في هذا الموضع. فالربّ قطع عهدا مع إبراهيم ونسله من بعده (سفر التكوين 17: 7). وكاتب السفر يريد أن يكون ذلك مقتصراً على بني إسرائيل فقط ليخرج “الغوييم” من تحت مظلة شعب الله المختار. فنرى إسحاق يحصل على عهد خاص من الربّ، كما يحظى بكونه الذبيح الذي باركه الله. حتى نصل ليعقوب الذي سرق البكورية من أخيه عيسو، ليبقى نسل يعقوب (إسرائيل) في النهاية هو النسل النقي المختار.
أما فيما يتعلّق بهاجر وابنها وما تعرّضا له من قدح من قبل المفسِّرين اليهود، فمردّ ذلك إلى أصل هاجر المصري. فسلوك الأم (هاجر) حسب وصف المفسِّرين اليهود وسلوكها غير المسؤول تجاه نفسها وابنها هما اللذين ساقاها وابنها إلى هذا القدر المحتوم، من هجرة خارج ديار الأب (إبراهيم). فهناك ثأر يهودي تجاه كل ما يتعلق بأرض مصر، بسبب سوء العذاب الذي شهدوه على يد فرعون وملئه. هذا الثأر يبدو أنّ المفسِّر اليهودي حمله بين جوانحه وهو يذكر هاجر المصرية، فصبّ ما بداخله من ذكريات مريرة على هذه الشخصية، فمن وجهة نظري أنّ تشويه صورة هاجر وإسماعيل تمثل انتقاماً يهودياً من فرعون في شخص هاجر وابنها، أكثر من كون إسماعيل قد خرج من نسله العرب.
اعرف عدوك
ـ لننتقل الآن إلى جانب آخر يتعلق بالدراسات اليهودية كحقل بشكل عام. ألم يكن الولوج في العالم العربي إلى هذا الحقل محكوماً بمنطق “اعرف عدوك”؟ فما تأثير ذلك على جودة الأداء الأكاديمي؟ وما الذي تغيّر لاحقاً على صعيد هذا المنطق؟
* الدراسات اليهودية بمفهومها الأكاديمي موجودة في العالم العربي منذ وجود اليهود في الدول العربية، فهناك على سبيل المثال الكاتب اليهودي المصري مراد فرج الذي له إسهامات كبيرة في التقريب بين اللغتين العبرية والعربية. كما أنّ الطوائف اليهودية كانت لها مؤلّفاتها الدينية باللغة العربية، وأذكر منها كتيب
“المرشد الأمين” الذي يقرِّب الديانة اليهودية للناطقين بالعربية من أبناء اليهود القرّائين (طائفة من طوائف اليهود نشأت أصلاً في بغداد) في مصر. وهذه الكتب وغيرها صدرت في وقت كان اليهود ينعمون فيه بحالة
من الاستقرار في البلدان العربية.
إذاً فالدراسات اليهودية، وإن كانت من يهود فهي موجودة في بلادنا قبيل تأجّج الصراع العربي ـ الإسرائيلي ابتداءا من عام 1948. فمنذ هذا التاريخ يمكن القول إنّ ما كان يصدر من دراسات تتعلّق بحياة اليهود أو تاريخهم كان محكوماً باللحظة التاريخية. فالأنظمة آنذاك لم ترغب أن يكون هناك أي جانب إيجابي لكل ما هو يهودي، حتى وإن كان صحيحاً. فبدا اليهودي إعلامياً في صورة ممسوخة؛ معقوف الأنف محدودب الظهر يبيع أهله من أجل الدرهم والدينار. وكانت الدراسات المتعلقة باليهود واليهودية تصبّ في تأصيل هذه الرؤية. أما ما يمتّ للعمل الأكاديمي البحت بصلة، بعيداً عن الأهواء السياسية أو المشاعر المتأججة ضد اليهود، فكانت تتم في أروقة المخابرات العربية، وكانت تُزيّن بختم “سري للغاية”. وقد أفرج عن كثير من هذه الكتابات عقب حرب رمضان (تشرين أول/ أكتوبر) 1973، فظهرت مذكرات موشيه ديان (وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق) وديفيد بن غوريون (أول رئيس وزراء إسرائيلي) وغيرها.
فما من شكّ أنّ ربط العمل الأكاديمي بالأحوال السياسية أو بانطباعات وقتية، من شأنه أن يلحق الضرر لدى القارئ الذي يبلور فكره في اتجاه معين، ثم يصطدم بالواقع في لحظة ما، تماماً كما حدث إبان حرب 1967. فتحرير الإبداع الأكاديمي من الهيمنة السياسية والاقتصادية، والبعد عن الأهواء الشخصية شرط أساسي للارتقاء به، بل والخروج بنتائج صحيحة يمكن أن تنبني عليها فرضيات سليمة. وقد تم ذلك بالفعل ابتداء من سبعينيات القرن الماضي؛ حيث ظهرت الدراسات الأكاديمية المعتبرة التي تكشف عن حقائق الشخصية اليهودية وارتباطاتها بالدين والسياسة.
ـ هل لاحظت فوارق في حقل الدراسات اليهودية بين الخبرة الأكاديمية العربية ونظيرتها الأوروبية، أو لنقل بين جامعة مصرية وأخرى نمساوية؟
* لا أكون مبالغاً إذا قلت إنّ الدراسات اليهودية في مصر على قدرٍ عالٍ من الخبرة الأكاديمية؛ بل إنّ علماء الدراسات اليهودية واللغة العبرية في مصر يتمتعون بفكر أكاديمي رصين يؤهلهم للتدريس في الجامعات الأوروبية. ولعلّ الاهتمام في مصر ينصب في المقام الأول على تعليم اللغة ويتلوه دراسة التاريخ والأدب والدين. وفي اعتقادي أنّ هذا أمر طبيعي ومطلوب في بلد كمصر أو في أي بلد عربي.
ومن خلال تجربتي الشخصية؛ فقد تعلمت اللغة العبرية وأتقنتها من خلال التعليم الأكاديمي في مصر، وهو ما شكّل لي قاعدة قوية انطلقت منها لمواصلة الدراسة الأكاديمية بالنمسا.
أما في الجامعات النمساوية؛ فتعلّم الدراسات اليهودية يتم من خلال التعرّف على التراث الديني والثقافي اليهودي من وجهة نظر أوروبية بلا شكّ، ومغلفة بتأثيرات إسرائيلية في بعض الأحيان. ولذا تجد الاهتمام بالدراسات الكلاسيكية أكثر غنى وثراء في الجامعات النمساوية عن مثيلاتها المصرية، فيما يبقى الجانب اللغوي ناقصا لدى الطالب النمساوي، الذي يضطر إلى السفر لتلقي دورات إسرائيلية في اللغة العبرية (في فلسطين المحتلة).
أمر آخر لا يجب إغفاله، وهو الإمكانات المتاحة للباحثين العرب والباحثين الأوروبين. فلك أن تحدِّث بلا حرج عن الحالة المزرية التي يعيشها البحث العلمي في أوطاننا العربية والقدر القليل الذي يُخصّص له من الميزانيات الحكومية، مقارنة بما يتمتع به الباحث الأوروبي من تسهيلات وإمكانيات تجعل مسألة عدم قدرته على التحصيل العلمي نقيصة شخصية. فالجامعات الأوروبية تؤهل طلابها ليكونوا جميعهم باحثين، أما نظم التعليم العربية فتؤهل طلابها ليحصلوا على شهادات بالمؤهل فقط.
“المرشد الأمين” الذي يقرِّب الديانة اليهودية للناطقين بالعربية من أبناء اليهود القرّائين (طائفة من طوائف
ـ لو توقفنا ختاماً عند الشأن اللغوي .. فقد يلفت الانتباه أنّ كتب تعليم اللغة العبرية التي كانت تُباع للجمهور العربي على مدى عقود، كانت تفرد فصلاً خاصاً للمفردات والجمل العسكرية والأمنية. واضح أنّ ذلك تراجع نسبياً وربما اختفى، لصالح التوسّع في حقول المعاملات والمحادثات الوديّة. هل تتفق مع هذه الملاحظة؟ وما هي الدلالات التي تستوقفك بشأنها؟.
* كتب تعليم اللغات على اختلاف أنواعها هي كتب استهلاكية أكثر من كونها تعليمية، فمن الصعب أن يحصل القارئ على إفادة لغوية تمكنه بالفعل من ممارسة اللغة في أسبوع أو عشرة أيام، كما تشير بعض هذه الكتب. وبناء على هذه الفرضية؛ فإنّ السلعة وليدة السوق تتأثر به، فإذا كانت الأهواء السياسية، التي تحكم السوق دون شك، تميل ناحية العداوة فإنّ الكتب ستكون عامرة بما يدعم هذا الاتجاه، والعكس صحيح في حالة ميل الهوى السياسي ناحية التطبيع أو المهادنة.
وعلى صعيد آخر؛ فإنّ الكتب الأكاديمية التي يعتمد عليها الطلبة في الجامعات لتعلّم اللغة تمتاز بروحها التي تقفز فوق الهوى السياسي. فالعدو يبقى عدواً ولكن اللغة يجب أن تُتعلم من جميع جوانبها دون إغفال أي جانب على حساب آخر.
مواضيع ذات الصله
دكتور المتبولي في حوار عن الالتقاء والافتراق بين قصص القرآن والتوراة … الجزء الأول
تهنئة صادقة للصحفي أحمد المتبولي لحصوله على الدكتوراة
“مطبات فيينا” أون لاين!
السلّم مصيدة المسنين بالنمسا!
صور حفل بمناسبه حصول الدكتور أحمد المتبولى على درجه الدكتوراة