باتت إثيوبيا واحدة من أسرع اقتصاديات القارة نموًا على مشارف أعتاب حربٍ أهليةٍ قادمة بين رئيس الرئيس الوزراء آبي أحمد، الحائز على جائزة نوبل للسلام، وبين خصمه اللدود إقليم تيجراي – شمال إثيوبيا – الذي قصف أمس مطار عاصمة إريتريا بالصواريخ ردًا على ما وصفه زعيم الإقليم في مقابلة مع وكالة «أسوشيتد برس» الأمريكية بتدخلها بـ16 فرقة مُسلحة من الجيش الإريتري في الإقليم لصالح النظام الإثيوبي.
زعيم الإقليم هدد أيضًا بامتلاكه صواريخ طويلة المدى، باستطاعتها الوصول إلى أديس أبابا، وهو التحذير الذي جاء بعد أسبوعين من إطلاق آبي أحمد حربًا شاملة على الإقليم رافضًا كل الحلول الدبلوماسية التي يراها تُضعف سلطة الحكومة المركزية في بلدٍ متعدد عرقيًا، ومنقسمٍ في عدة أقاليم، بالرغم من أنّ المخالفين له يرون أنّ الحرب تهدد فعليًا وحدة إثيوبيا، خاصة أنّه يواجه جيشًا صغيرًا يمتلك إمكانات ومقومات وحسابات إقليمية وجغرافية، وهو ما يصعب هزيمته بسهولة.
حكموا إثيوبيا 3 عقود.. هذه قصة إقليم تيجراي
هيمنت نخبة إقليم تيجراي على السلطة في إثيوبيا، منذ الإطاحة بزعيم المجلس العسكري «منجستو هيلا ميريام» عام 1991، وظلت قابعة في الحكم لنحو ثلاثة عقودٍ متتالية حتى مجيء آبي أحمد إلى السلطة في أبريل (نيسان) عام 2018، عقب احتجاجاتٍ شعبية أطاحت برأس السُلطة، قادتها بعض القوميات في مقدمتها قومية أورومو، التي ينحدر منها رئيس الوزراء الحالي الموصوف في بلاده بـ«نبي الديمقراطية».
تحول أبناء إقليم تيجراي من قوة مهيمنة في إثيوبيا إلى جبهة إقليمية ساخطة جيدة التسليح، خاصّة أنّه عند وصول آبي أحمد للحكم كانت جبهة تحرير تيجراي الشعبية الحزب ذا الأغلبية، لكنّ آبي أحمد قام بتفكيك الائتلاف الحزبي الحاكم القديم – «الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية» – وأسس حزب الازدهار، ضمن ائتلاف حزبي جديد، رفضت جبهة تيجراي الانضمام له، كونهم يشكلون 6% من السكان، وهي النسبة التي تمنحهم نفوذًا قليلًا، وتنزع عنهم النفوذ القديم الذين تمتعوا به. التغيير السياسي كان بمثابة انقلاب أدى إلى تحجيم نفوذ قومية تيجراي التي عارضت السياسة الاقتصادية لآبي أحمد القائمة على نزع يد الدولة من الاقتصاد، كما دعت للحفاظ على الحفاظ هيكل الحزب القديم وأيديولوجيته.
يُنسب لتلك القومية بأنها حاولت تغيير المشهد الجديد بقوة السلاح عبر محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها إثيوبيا في يونيو (حزيران) العام الماضي، وأدت إلى مقتل رئيس أركان الجيش الإثيوبي على يد أبناء قوميته من التيجراي، بعدما حظي بعداوات ممتدة مع أبناء طائفته الذين انتقدوا تقربه من القادة الجدد.
بعدها بأيامٍ أجرى آبي أحمد أول تغيير لرئيس الأركان ومدير جهاز الأمن والمخابرات الوطنية، في تعديلات هي الأولى من نوعها منذ 17 عامًا، وهي النقطة التي اعتبرها التيجراي استهدافًا لهم كقومية باعتبار أن رئيس الأركان ومدير جهاز الأمن والمخابرات منذ وصول جبهة شعوب إثيوبيا إلى الحكم عام 1991 ظل من نصيبهم.
اعتبرت التيجراي أنّ آبي أحمد يحاول استبدالها مقابل قومية الأورومو، التي ينتمي لها رئيس الوزراء الإثيوبي، والتي تعد أكبر قومية عرقية في البلاد، وتصاعدت حدة الخلاف إلى مستوى غير مسبوق بعدما وافق البرلمان الإثيوبي على خطة لإبقاء رئيس الوزراء آبي أحمد في منصبه بعد أن أجبرت جائحة كورونا السلطات على تأجيل الانتخابات المقررة في أغسطس (آب) الماضي.
اعتبرت التيجراي هذه الخطوة غير دستورية، وأعلنت رئيسة البرلمان المنتمية للتيجراي استقالتها من منصبها اعتراضًا على تأجيل الانتخابات، وقالت إنها ليست «مستعدة للعمل مع مجموعة تنتهك الدستور»، ووصفت وضع البلاد بأنه «ديكتاتورية في طور التكوين».
تحدت الجبهة بعدها آبي أحمد، وأعلنت تنظيم الانتخابات في الإقليم بصورة منفردة كما هو مقرر في أغسطس الماضي، وطالبت اللجنة المركزية للانتخابات بالإشراف على الانتخابات التي شارك فيها نحو 2.7 مليون ناخب؛ وبينما رفضت الحكومة المركزية الاعتراف بالانتخابات، واعتبرتها غير قانونية وغير دستورية، ردت حكومة الإقليم بأنها لا تعترف أيضًا بالحكومة المركزية باعتبار أنها جسم غير دستوري، على أساس أنّ آبي أحمد منتهية لايته.
وصلت الصراعات إلى ذروتها حين أغارت قوات جبهة تيجراي على قاعدة عسكرية للجيش الإثيوبي، وردّ آبي أحمد بضربات جوية على الإقليم إلى جانب وقف التحويلات المالية، وفي الوقت نفسه كان قد أصدر قرارًا بحلحكومة إقليم تيجراي، لتصل الأحداث إلى اصطدام محتدم بات فيه السلاح هو الحل الوحيد من جانب الطرفين.
250 ألف مقاتل.. ما هي القوة الحقيقة لجيش المتمردين؟
يضم إقليم تيجراي ما يقدر بنحو ربع مليون مقاتل مسلح بأسلحة متنوعة، ويتكدس الإقليم بالأسلحة الثقيلة، إلى جانب أربع فرق ميكانيكية تابعة للجيش من أصل ست في القيادة الشمالية على طول الحدود مع إريتريا، والتي جمعتها عداوة وحروب طويلة مع إثيوبيا، قبل أن يُنهي آبي أحمد الصراع عقب وصوله للسُلطة.
وبينما أغلق السودان رسميًا الحدود مع تيجراي إلى جانب إريتريا أصبحت الجبهة محاصرة من الخارج إلى جانب أن السُلطة منعت عنها وصول الوقود والذخيرة والغذاء، ولكن لم تزل الأمور خارجة عن السيطرة بعدما تمكنت الجبهة من الاستيلاء على القاعدة الشمالية بمساعدة منشقين من الداخل بهدف تحييد القاعدة ومصادرة أسلحتها، ليبدو الوضع حاليًا مقابلة شرسة بين جيشين، وكل منهما مدجج بالسلاح، ومدرب تدريبًا جيدًا.
يصف الباحث السوداني المتخصص في الشأن الإثيوبي إبراهيم ناصر لـ«ساسة بوست» وضع الميزان العسكري للتيجراي، ونفوذهم داخل الجيش قائلًا: «هذه القوى لفترات طويلة كانت تسيطر على المؤسسات الصلبة الإثيوبية، بما فيها القوات المسلحة، وشكلت المشهد العسكري في إثيوبيا، لذا فهي مجموعة متمرسة في خوض المعارك، ومن المؤكد أنهم سيحددون مصير آبي أحمد، ولن يكونوا لقمة سائغة، وبالتالي فتلك المجموعة ستجابه، وستظل تحارب مشروع آبي بقوة السلاح ما لم تجلس على طاولة المفاوضات».
الصحافي السوداني المتخصص في الشأن الأفريقي، عباس محمد، يعتقد أيضًا أنّ تلك القوات تتمتع بعناصر قوة حقيقة في أي صراع، ويقول لـ«ساسة بوست»: «جبهة تيجراي تتمتع بخبرة كبيرة متراكمة في العمل العسكري، كما أن تجربتها في حكم البلاد على مدي 27 سنة عززت تلك القدرات، كما أن الإقليم يحوز – بما في ذلك القيادة الشمالية – على أغلب التسليح المتقدم بحكم الحروب القديمة مع إريتريا؛ ما يجعله يتمتع بعناصر قوة حقيقية في أي صراع، علاوة على ذلك لدى الإقليم قوات خاصة مدربة تدريبًا كبيرًا ومتمرسة في القتال، وتتمتع بالدافعية للاستماتة في القتال»، ويتشابه ما قاله المصدر مع ما صرح به مسؤول دبلوماسي أثيوبي لمجلة «فورين بولسي» الأمريكية، بأنّ قوات الإقليم ربع مليون مسلح، بالإضافة إلى 20 ألف كوماندوز.
وبحسب ما كشفته المجلة الأمريكية، نقلًا عن مصادر من تيجراي والحكومة الإثيوبية، فقد انقسم الجنود في الإقليم إلى ثلاث مجموعات: نصفها متحالف مع جبهة تحرير تيجراي، وربعها موالٍ لآبي أحمد، ومعظم هذا الربع من ضباط أمهريين في إريتريا، فيما رفض الباقون القتال ضد الجيش الفيدرالي، وبقوا في الثكنات.
وحاليًا تفرض الحكومة المركزية حالة الطوارئ في الإقليم لمدة ستة أشهر، إلى جانب قطع خطوط الاتصال، مع استمرار عمليات القصف الجوي، وهي نقطة القوة التي لا يمتلك الإقليم آلية عسكرية للرد عليها، كما كان من ضمن القرارات التي اتخذها آبي أحمد، هي إعادة أربعة جنرالات متقاعدين إلى الخدمة العسكرية، ممن خدموا سابقًا في الإقليم، ويتوقع أن يكون هدف استدعائهم هو لإحلالهم مكان آخرين ممن انشقوا أو تم إعفاؤهم، ولم يُظهر أي طرفٍ حتى الآن رغبة في بدء الحوار السياسي، بالرغم من الوساطات الدولية.
هل يتحول صراع تيجراي الي حرب أهلية بأذرع إقليمية؟
فيما تستمر الحملة العسكرية في إقليم تيجراي، تتصاعد المخاوف من أن تمتد المواجهات إلى أقاليم أخرى جديدة تشهد اضطرابًا مع السُلطة المركزية، تزامنًا مع تحذيرات الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي من احتمال امتداد القتال إلى مناطق أخرى في إثيوبيا، وانتقالها إلى منطقة القرن الأفريقي، وهي التوقعات التي تحقق الشطر الأول منها حتى الآن بانتقال الفوضى خارج الإقليم.
قبل يومين أعلنت إثيوبيا أن جبهة تيجراي تهدد إقليم الأمهرة بهجمات انتقامية بسبب مساندته القوات الحكومية، وفي المقابل اتهمت جبهة تحرير تيجراي سلطات إقليم أمهرة المجاور بقتل مدنيين فارين من المعارك، ولم تكد أديس أبابا تحسم السيطرة على الإقليم، حتى امتدت الاضطرابات إلى إقليم إثيوبي جديد بإعلان الحكومة المركزية مقتل 36 مسلحًا من جماعة «أونق شني» المعارضة في إقليم أروميا، وهو من شأنه أن يخلق مواجهات طويلة الأمد قد تُطيح بالإصلاحات التي قام بها آبي أحمد.
ويستند محللون إلى احتمالية امتداد الصراع إلى أقاليم أخرى، وهو ما يهدد بنشوب حرب أهلية واسعة، في ظل عدم وجود قنوات اتصال مفتوحة بعدما رفض المجلس الفيدرالي في البرلمان الإثيوبي التفاوض مع الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، واعتبر ذلك خرقًا للدستور. تزامنًا مع إعلان رئيس وزراء إثيوبيا انتهاء مهلة مدتها ثلاثة أيام لاستسلام قوات إقليم تيجراي، في ظل تلميح رئيس إقلم تيجراي لاحتمالية استهداف أديس أبابا بالصواريخ طويلة المدى التي يمتلكونها.
وبينما هددت الجبهة الحكومة الإريترية بمزيد من الهجمات في حالت دعمت الحكومة المركزية، أطلقت الجبهة بيانًا عبر المتحدث باسم الإقليم قالت فيه إن الإمارات دعمت الحكومة الإثيوبية بالطائرات المسيرة في حربها، وأنّ الطائرات تنطلق من القاعدة الإماراتية العسكرية في إريتريا. وحتى الآن لم تعلن أية دولة موقفها رسميًا من الصراع الدائر، بينما تلتزم السودان الصمت كونها تتضرر في الحالتين في حالة دعم طرف على حساب الآخر، وحتى اللحظة هرب نحو 25 ألف لاجئٍ إثيوبي من الحدود، ويتخوف السودان من انتقال المواجهات داخل حدوده، في ظل إحكام الحصار على الإقليم من جانب إثيوبيا وإريتريا، وبالرغم من أنّ الخرطوم أغلق الحدود، إلا أنها لم تستطع منع وصول اللاجئين.
وتشير آخر التطورات الدبلوماسية التي ذكرتها «رويترز» نقلًا عن مصادر أنّ حكومة آبي أحمد تتعرض لضغوط من حكومات أفريقية وأوروبية تقف من وراء الكواليس لإجباره على الجلوس مع القادة المحليين في إقليم تيجراي من أجل إنهاء الصراع المستمر منذ نحو أسبوعين، وهي ورقة القوة التي يعوّل عليها قادة الإقليم للوصول لها بعد الصمود أمام المعارك إن استطاعوا.