نشرت مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية مقالًا لـ نعومي كوهين، الصحفية المستقلة في إسطنبول والتي تغطي قضايا الأرض والعمل والأمن في المنطقة، حول تطور صناعة الدفاع في دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث بدأت سنوات من التطور الهادئ تؤتي أُكلها أخيرًا، وبات بمقدور صناعة الدفاع في أبوظبي الوقوف على قدميها إلى حد كبير.
استهلت الكاتبة تقريرها بالإشارة إلى معرض معدات الدفاع والأمن الدولي، وهو أكبر معارض الأسلحة في العالم، الذي أُقِيم العام الماضي في العاصمة البريطانية لندن، عندما أبلغ المنظمون عن طلب غير مسبوق على مساحات العرض. وكان قسم كبير من هذا الطلب من دولة الإمارات، التي كان لجناحها نصيب الأسد بأكبر حركة عملاء، ومع ذلك بدا هذا الجناح خاليًا بجوار النماذج الأصلية التي تحيط به، وكان مندوبها مشغولًا للدرجة التي جعلتْ من حديثه إلى الصحافة أمرًا صعب المنال.
ومع ذلك، كان مبتكرو معدات المراقبة غير البعيدة في أحد أروقة الجناح حريصين على تجاذب أطراف الحديث. لقد جاءوا من المملكة المتحدة والسويد وأستراليا، وقالوا إنهم سعداء بالمساحة التي منحها لهم رعاتهم الجدد لعرض منتجاتهم. وقد صمم أحدهم نظامًا للتعرف على الصوت يُفهرِس قواعد البيانات الدولية لاستجوابات الشرطة. وعرض آخر نظام رادار يعمل بإنترنت الأشياء (يُقصد به الجيل الجديد من الإنترنت الذي يتيح التفاهم بين الأجهزة المترابطة مع بعضها) وكان مثبتًا على سيارة شرطة ويتلقى الأوامر من ضباط المخابرات.
ميزانية دفاعية غير معلنة
ولفتت الكاتبة إلى أن الإمارات لم تصدر بيانات عن ميزانيتها الدفاعية منذ عام 2014، ولكنها في ذلك الوقت كانت تجاوزت بالفعل إنفاق الولايات المتحدة من حيث نصيب الفرد، وفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام. ويذهب أغلب هذه الأموال لشراء أكثر أنواع السلاح بهرجة في السوق. ولكن إذا لم تحظَ عملية البيع بالموافقة، فإن دولة الإمارات لم تخسر كثيرًا؛ ذلك أن قسمًا متناميًا من ميزانيتها يتجه نحو تطوير تقنياتها الخاصة.
وتنقل الكاتبة عن شانا مارشال، أستاذة الأبحاث المساعدة في جامعة جورج واشنطن، قولها إن الجدل حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ستبيع الدولة الخليجية الطائرة المقاتلة إف–35 لا يأخذ في الاعتبار الصورة الأكبر؛ وهي أن الإمارات إذا لم تتمكن من الحصول على الطائرة، فقد تتفاوض للانضمام إلى سلسلة إمداد طائرات إف – 16 واكتساب المهارات والاتصالات لمساعدتها في بناء أنظمة متطورة أخرى.
وعلى مدار العقد الماضي، اكتسبت الدولة الخليجية الصغيرة سمعة في استثمار أموالها البترولية في شراء فرق كرة القدم والمتاحف ومنتجات الألبان ومزارع الإنتاج والعقارات وشركات التكنولوجيا الناشئة والبنوك، سواء للمطالبة بحصة في الأسواق الناشئة، أو لتنويع اقتصادها، أو لشراء النفوذ السياسي. والواقع أن المنطق هو نفسه فيما يتعلق بالإنتاج الدفاعي، ولكن إلى جانب إضافة شعار والتركيز على تحقيق العائدات، إذ أنها تنقل كثيرًا من عملية التصنيع إلى الداخل.
وفي عالم لا تتمتع فيه الشركات المتعددة الجنسيات بالفعل بسلطة قضائية واضحة، لا يبدو ذلك الأمر ذو أهمية تُذكر. لكن في دولة تعيد فيها الدول الغنية ترتيب أولويات الإنفاق، وتتحول صوبها القوى الإقليمية، وتعطي الحربُ الأولويةَ للعقل على القوة، فإن أبوظبي هي «حلم منشود للمسؤولين التنفيذيين في مجال الدفاع»، على حد قول السيدة شانا. إنها تدفع بسرعة وبسخاء ودون إشراف بيروقراطي.
قطب جديد
وترى الكاتبة أنه بفضل الاتفاق الأخير مع إسرائيل لتطبيع العلاقات الدبلوماسية، فقد تصبح الدولة الخليجية بمثابة القلب النابض لصناعة الدفاع الجامحة عاجلًا وليس آجلًا. وسوف يجد هؤلاء الذين يعملون على حظر نقل الأسلحة والتكنولوجيا إلى البلدان غير الصديقة أن جهودهم قد ذهبت سُدى. وسيتعرف أولئك الذين يتطلعون إلى الربح المادي من الصناعات العسكرية على قطب جديد خارج الولايات المتحدة والصين؛ قطب يرى نفسه في قلب العالم حرفيًّا.
وتشير الكاتبة إلى أن الطريق إلى هذه النقطة لم يكن طويلًا ولا تقليديًّا، لافتةً إلى أن أغلب البلدان التي تنتج الأسلحة اليوم، أو على الأقل أجزاء منها، بدأت صناعاتها أثناء الحرب الباردة، بمساعدة الشركات الأمريكية التي تسعى إلى شراء الولاء الاستهلاكي والسياسي.
ولم تتحرر الإمارات من الحماية البريطانية إلا في عام 1971، وقد استغرق الأمر من حكومة الإمارات وقتًا طويلًا حتى وقع الغزو العراقي للكويت في عام 1990، ثم الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، لكي تُولي هذه المسألة الاهتمام المناسب؛ إذ لفتت هذه الحروب انتباه الممالك الخليجية إلى ضرورة أن تكون دولًا قوية ومعتمدة على نفسها. ثم وقَّعت هذه الدول بعد ذلك على اتفاقيات مع شركات الدفاع الأجنبية للبدء في الاستثمار في صناعاتهم وتلقت الوعود بتعزيز الصناعة لصالح بعضهم البعض. وفي هذا الصدد صعَّدت المملكة العربية السعودية من وتيرتها، ولكن الصدارة الواضحة كانت لدولة الإمارات.
كان النهج الذي تبنَّته الإمارات في التعامل مع هذه الصفقات مختلفًا. وتنص الاتفاقية القياسية منذ الحرب الباردة، المعروفة باتفاقية «التعويض عن الضرر»، على أن مقاول الدفاع لا يبيع سلاحًا فحسب، بل يدفع أيضًا للبنية الأساسية المحيطة به. ويحق للدولة المُشترِية أن تطلب أن يكون الاستثمار مرتبطًا بعملية البيع مباشرةً، مثل مصنع لقطع الغيار الصغيرة أو التدريب على الصيانة، أو أن يكون الاستثمار في شيء غير مرتبط على الإطلاق بعملية البيع، مثل مصانع السلع المدنية أو العقارات أو الجامعات أو المجمعات الصناعية أو مزارع الجمبري.
وتنوه الكاتبة إلى أن كلا الجانبين يربحان؛ فأَحد الجانبين يوفر العمالة الرخيصة، بينما يدعم الآخر التنمية. وفي عام 1997، ومع زيادة بطاقات الأسعار، نصحت وزارة التجارة الأمريكية الحكومات بإدارة تعويضات الأضرار من خلال صناديق الاستثمار، وكانت الإمارات الدولة الوحيدة التي استجابت لتلك النصيحة. وقد ساعد مكتب التعويضات التابع لها في إنشاء صندوقين سياديين للثروة، توازن ومبادلة، حيث تُودَع أموال التعويضات قبل استثمارها. والواقع أن هذه الأموال، التي تديرها أسر تجارية لها اتصالات جيدة وكذلك مستشاروها الماليون، تفضل المَحافِظ الاستثمارية ذات العوائد المرتفعة مثل الخدمات المالية والبنية الأساسية المرتبطة بالنفط واليخوت والسفن الحربية.
ولكن مكتب الصناعة والأمن التابع لوزارة التجارة انقلب ضد النصيحة السابقة في أواخر تسعينيات القرن الماضي فيما يتعلق باستخدام صناديق الاستثمار، لأنه وجد أن هذه الممارسة عُرضَة للفساد. كما انتقد مكتب محاسبة الحكومة الأمريكية تعويضات الضرر باعتبارها شكلًا مبهمًا من أشكال نقل الأعمال إلى الخارج وحذَّر من مخاطر النقل التكنولوجي. ولكن كلماتهم لم تجد آذانًا مصغية.
ومع تلاشي سباق التسلح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، عملت الولايات المتحدة على تعزيز بيروقراطيتها العسكرية، وخفَّضت ميزانية هؤلاء الذين يراقبون مثل هذه الصفقات. كما أن محمد بن زايد، حاكم الإمارات الفعلي ونائب قائد قواتها المسلحة، لديه أيضًا أصدقاء في المراكز البحثية ودوائر الضغط لدفع الصفقات قدمًا.
ومع ذلك، هناك حدود لتعويضات الضرر، إذ من المعروف أنها بطيئة ونادرًا ما تكتمل، ومن شأنها أن تجعل من الدول التي تأخذها دولة اعتمادية. ولذلك، وضعت الإمارات قواعد صارمة لانتزاع أقصى استفادة منها، ولكنها كانت متلهفة جدًّا ولم يكن لديها الصبر لبناء بنية تحتية عسكرية محلية من الألف إلى الياء. وبدلًا من ذلك، ومن خلال تبسيط نطاق استثماراتها وتوسيعه، كانت تجمع الأموال لجلب المشاريع الأجنبية ومعها مهندسوها واختراعاتها إلى أبوظبي.
جهود إماراتية حثيثة من أجل السيادة في المجال الدفاعي
ويشير التقرير إلى أنه في عام 2014، جمعت الإمارات صندوقي «توازن» و«مبادلة» ليصبحا تحت إشراف شركة الإمارات للصناعات العسكرية، والتي اندمجت بعد ذلك مع أكثر من 20 فرعًا آخر للشركة العام الماضي لتشكل مجموعة «إيدج» للاستثمار في التكنولوجيا المتقدمة والدفاعية.
ويدير الرئيس التنفيذي للشركة ميزانية قدرها 5 مليارات دولار لتطوير ما يسميه «القدرة المهيمنة»، وهذا يعني من الناحية العملية الشراكة مع شركات دفاع أجنبية كبرى، وشراء شركات صغيرة، وتوظيف شركات متوسطة الحجم لفتح مكاتب في أبوظبي مسجلة تحت اسم محلي. وما دامت الملكية الفكرية مملوكة للإماراتيين، فضوابط التصدير للحد من تبادل المعرفة التكنولوجية لا تنطبق عليها في هذه الحالة.
وغالبًا، لن تبني الإمارات العربية المتحدة صناعة دفاعية كاملة أبدًا، ولا تحتاج إلى ذلك أيضًا، نظرًا لوجود سلاسل التوريد العالمية. ومن المحتمل أيضًا أنها لن تدير العملية برمتها، نظرًا لأن الدولة يسكنها عدد قليل من المواطنين وكثير من الأجانب. ولكن وفقًا للطريقة التي تعمل بها سلاسل التوريد العالمية، لا يتعلق الاكتفاء الذاتي بجنسية المطورين أو أصل كل جزء من القطع المستعملة، ما يهم أكثر هو أن الإمارات تمتلك حصة متزايدة من التقنيات التي تستخدمها وتركِّب أجزاءها وتنفق عليها وتعمل على صيانتها.
حرب اليمن وقدارت الإمارات الدفاعية
يلمح التقرير إلى أن ترسانة الإمارات الكاملة بقيت سرية، إلا أن الحرب على اليمن أعطت نظرة عامة عنها. وقِيل إن هذا الغزو تسبب في حدوث أسوأ كارثة إنسانية في العالم، وفُرِض حصار ميناء الحديدة عام 2015 باستخدام سفينة بينونة؛ وهي سفينة حربية صغيرة صنعتها شركة أبوظبي لبناء السفن.
كما رصد مراقبو الحرب أيضًا صواريخ وطائرات من دون طيار ومدافع رشاشة وعربات مدرعة تحمل علامة التصنيع الإماراتية. وربما لا تكون هذه الأسلحة هي الأفضل من حيث الجودة، ولكنها تؤدي المهمة في المعركة، وتُختبر الآن ويُعلن عنها وتُطرح في الأسواق للتصدير.
وبالطبع، ستكون دول الخليج التي لم تَقْدِر على محاكاة حملة الدفاع الإماراتية مثل الكويت والبحرين، عملاء مضمونين، سواء في مجال الأسلحة أو الخدمات. وحاولت المملكة العربية السعودية أن تحذو حذو الإمارات، لكنها لم تقترب حتى من الإمارات في التصدير أو الابتكار. وتهدف الإمارات إلى توطين ما يصل إلى النصف من صناعاتها العسكرية بحلول عام 2030، ولكن يبدو أنه مجرد كلام من المستبعد أن يتحول إلى فعل إذ لا تزال أبوظبي تضع معظم أموالها في مشاريع مشتركة بدلًا من إنفاقها على البحث والتدريب، الذي يعوِّل عليه الإماراتيون لتحقيق عوائد أكبر وطويلة الأجل.
واليوم مع تفشي الجائحة وتغيُّر الأولويات الاقتصادية، ربما لا يكون هذا هو أفضل وقت لجلب صفقة أسلحة. والإنفاق العسكري العالمي بالنسبة للناتج الإجمالي المحلي-لا سيما في مجال البحث والتطوير- آخذ في الانخفاض بالفعل منذ عقد تقريبًا، وفقدت دول الخليج تحديدًا بريقها في العواصم الغربية. وبسبب تدخُّلها في اليمن، حُظِرت مبيعات الأسلحة للإمارات أو عُلِّقت؛ الأمر الذي دفعها لتقليل اعتمادها على الغرب في مجال الأسلحة. ولكن كل هذا يصب في النهاية في مصلحة الإمارات.
سوق إماراتية نامية في مجال صناعة الأسلحة وتصديرها
تواصل الكاتبة: في الوقت الذي تكافح فيه شركات الدفاع التقليدية العملاقة المشكلات داخل بلدانها، تتطلع الدول الأصغر إلى الشراء من مكان آخر. ومن بين أكبر عملاء الإمارات جمهورية الكونغو الديمقراطية ومالي ونيجيريا والأردن والجزائر وجنوب السودان ومصر، التي قد تواجه صعوبة في الحصول على أسلحة معينة من الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية.
وتتميز المنتجات الإماراتية بأنها تلبي احتياجات هذه الدول بأسعار أقل ومميزات أفضل كالقدرة على التكيف مع المناخ الصحراوي وحقول الألغام. وتبيع الإمارات بالفعل لما يقرب من 20 دولة، وفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، ولديها مشاريع مشتركة مع قوى دولية مثل: روسيا والسعودية. كما ترسل معدات بالمجان إلى الدول التي تحظر الأمم المتحدة عليها الأسلحة، بما فيها الصومال وليبيا.
يقول الرئيس التنفيذي لشركة «إيدج» مؤخرًا إنه على الرغم من تباطؤ الاقتصاد العالمي، فإن المجموعة تُجهز طلبًا لدولة الجزائر يتضمن مركبات مدرعة، وتناقش مشاريع جديدة مع عديد من البلدان الأخرى، وقال إن إسرائيل واحدة من هذه الدول. وحتى قبل تطبيع العلاقات بين البلدين، ذكرت التقارير أن البلدين تعاونا في مجال الدفاع، خاصة في طائرات المراقبة من دون طيار، فيما أعلن البلدان في يوليو (تمّوز) الماضي أن شركات الدفاع والاستخبارات الخاصة بهما ستتعاون لمكافحة جائحة كوفيد-19؛ التعاون الذي ربما يتضمن تقنيات الذكاء الاصطناعي.
توافق إسرائيلي إماراتي.. طموحات للهيمنة على المجال الدفاعي الجديد
يذكر التقرير أن التوافق بين إسرائيل والإمارات مثالي؛ فكلا البلدين صغيرين حجمًا ومتحضرين ومختصين في الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني. والآن وبعد أن أصبح لدى البلدين قناة اتصال مباشرة، يمكنهم بيع التقنيات التي حظرتها الولايات المتحدة ومشاركتها.
وعلى الأرجح لن تعترض وزارة الدفاع الإسرائيلية على هذه الشراكة الوثيقة، لأن هناك توافقًا في استراتيجيات البلدين التي تسعى لمواجهة إيران، وكبح جماح جماعة الإخوان المسلمين، وتحسين المراقبة الداخلية. وتطمح شركات الدفاع هذه لعقد صفقات غالية الثمن، والتي من شأنها أن تموِّل تجارب إسرائيل في التقنيات المتقدمة وتعزز مكانة الإمارات في السوق.
ووفقًا للطريقة التي تسير بها الأمور، تأمل الإمارات أن تصبح مركز ثقل هذه الصناعة التي تحتاج إلى استثمارات وأموال ضخمة. ولا تحتاج لتسلك طريق الولايات المتحدة نفسه لتثبت نجاحها. تقول فلورنس جوب، من معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية: «يجد الإماراتيون الأجواء ملائمة لأنهم يعرفون أنهم صغار، فإذا أرادوا أن يكتسبوا أهمية، يجب عليهم ألا يلعبوا اللعبة وفقًا لقواعد الآخرين».
وتختم الكاتبة تقريرها بالقول: تستهدف الصناعات الدفاعية التي تدعمها الإمارات قليلًا في مجال الحروب البرية والبحرية وكثيرًا في مجال الفضاء الإلكتروني والمجال الجوي الحضري. ومن المتوقع لهذا السوق أن ينمو وهو مجال يتعلق على نحو خاص بنظام ملكي عازم على التمسك بالسلطة. وهذا يعني أن نخبة المهندسين والضباط المتقاعدين والمرتزقة ومديري الأسهم الخاصة ومقاولي الدفاع ومستشاري العلامات التجارية من المرجح أن يواصلوا النزوح صوب أبوظبي.