أسفرت الانتخابات البلدية لمدينة فيينا النمساوية التي جرت يوم أمس الأحد 11.10.2020 ، عن نتائج متفاوتة بعضها كان متوقعاً وينتظره المراقبون وبعضها الآخر شكل مفاجأة لم تكن في الحسبان تماماً، حيث أن الأحزاب اليمينية المتشددة “حزب الحرية “FPÖ” و لائحة شتراخه “CH” قد منيت بهزيمة ثقيلة وموجعة وتراجعت إلى مراكز متأخرة في ترتيب الأحزاب على مستوى النمسا ، بسبب «فضيحة إيبيزا» المدوية التي ضربت هاينز إشتراخة زعيم حزب الحرية السابق ، وقائد قائمة إشراخة الحالي ، عندما كشفت استعداده لقبول تمويل من سيدة قالت أنها تمثل رجال أعمال روس لقاء تقديم تسهيلات استثمارية وضمان حصولهم على مناقصات وعطاءات.
ولقد كان متوقعاً أن أن حزب الحرية اليمينى يسقط إلى الحضيض ، بعد أن لاجظ المراقبون النتائج الهزيلة التي حصل عليها في انتخابات سابقة لـ مقاطعات نمساوية أخرى مثل ( تيرول و فورالبيرغ و بوركلاند و كيرنتن و شتايرمارك ) أو الانتخابات البرلمانية أو الانتخابات الأوربية ، وأظهرت أن شعبية حزب الحرية اليمينى قد تراجعت إلى الحضيض بشكل كبير
وكذلك انطوت هزيمة حزب الحرية أو قائمة إشتراخة على بعض المفاجأة لأن حجم العقاب الذي أنزله الناخب بهذا الحزب لم يكن يتناسب مع مؤشرات المناخ الشعبوي ومشكلات البطالة والموقف من الهجرة والأجانب، والتي كانت تشجع على اضطراد شعبية مثل تلك الأخزاب المتطرفة
ومن زاوية أخرى مكملة، نجح حزب الخضر «أنصار حماية البيئة» في تعزيز مكانته وحيازة على أكثر من 14٪ من الأصوات مقابل 4٪ فقط في الانتخابات البرلمانية لعموم النمسا 2017، مما يؤكد أيضاً تقدم تيارات الخضر على اليسار التقليدي الأوروبي.
و من أهم الملاحظات التي تم رصدها من خلال نتائج انتخابات بلدية فيينا هو التقدم الكبير الذي حققه حزب الشعب المحافظ على مستوى فيينا ، حيث استطاع أن يحصل على ما يقارب 19٪ من الأصوات ، و يعتبر هذا تقدم كبير مقارنة مع انتخابات 2015 التي حصل خلالها فقط على 9٪ من الأصوات ، و يمكن تفسير هذا التقدم بحصول هذا الحزب الذي يرأسه مستشار النمسا الحالي الشاب سيباستيان كورتس على أصوات الأشخاص الذين كانوا حتى الأمس القريب يصوتون لصالح حزب الحرية اليميني
و من أهم أسباب هزيمة الأحزاب اليمينية على مستوى فيينا هو غياب ورقة اللجوء و اللاجئين التي كان لها دور حاسم خلال سنة 2015 و جعلت حزب الحرية يحصل وقتها على المرتبة الثانية بفارق بسيط على الحزب الاجتماعي النمساوي الذي حصل وقتها على المرتبة الأولى
وبذلك فإن دلالات هذه النتائج المتفاوتة، المتوقع منها والمفاجئ، لا تقتصر على موقف الناخب النمساوي من مسائل السياسة والاقتصاد والحكم وأداء الأحزاب الكبيرة أو الصغيرة، وهي ليست قليلة في واقع الأمر لأن مجموعها يبلغ ما يقرب من 14 حزباً، بل تندرج أيضاً في ما يعتبره علماء الاجتماع «أزمة هوية» باتت المجتمعات الغربية تعاني منها أكثر فأكثر. وقد يصح القول إن اليمين المتطرف النمساوي يدفع اليوم ثمن الفضيحة التي تورط فيها زعيمه، ولكن الصحيح أيضاً هو أن هذا التيار يضرب بجذوره عميقاً في شرائح غير قليلة داخل المجتمع النمساوي، وقد ترسخ بقوة منذ صعود زعيمه التاريخي يورغ هايدر ودخوله في ائتلاف حكومي مع حزب «الشعب» أيضاً، في عام 2000.
ومن مفارقات «أزمة الهوية» أن غالبية ملحوظة من فئات العمال ومحدودي الدخل يلتفون حول أحزاب اليمين المتشدد ليس لأن برامجه السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية تستجيب لمطالبهم المعيشية، بل أساساً بسبب الانزلاق خلف الأفكار الشعبوية حول الهوية القومية والتقوقع على الذات ورهاب الأجانب ، وهذه وسواها مظاهر تعكس مآزق الديمقراطيات الغربية، وفيها الكثير من الدروس والعبر.