“ليالي الأنس في فيينا نسيمها من هوا الجنّة.. نغم في الجوّ له رنّة سمع لها الطير بكى وغنّى”.. بهذه الكلمات تغنت الفنانة “أسمهان” بجمال وسحر مدينة فيينا النمساوية.
ففي المدينة القديمة، وسط فيينا، تتناثر المقاهي أو كما تسمى باللغة المحلية “بيوت القهوة” ذات التاريخ الطويل، وتدور حولها العديد من القصص المثيرة، إذ تحولت مع مرور الزمن إلى ثقافة شعبية راسخة في وجدان المجتمع ولاقت حفاوة دولية كبيرة.
ولا تعد مقاهي فيينا التاريخية مكانا لتناول المشروبات والطعام فحسب، بل مكانا للعمل وتبادل الأفكار والمناقشات السياسية، وتعمل من وقت مبكر صباحا إلى وقت متأخر ليلا طوال أيام الأسبوع، كما يمكن للرواد استقبال المكالمات الهاتفية على هاتف المقهى وتلقي الزيارات، خاصة زيارات العمل.
وطوال أيام الأسبوع، تكون عدة نسخ من الصحف والمجلات متاحة للزوار في هذه المقاهي، فضلا عن العديد من الدوريات الأجنبية والكتب الحديثة والقديمة وقواميس اللغات المختلفة.
وفي المساء، تنظم هذه المقاهي العديد من الحفلات الغنائية وموسيقى الجاز، فضلا عن حفلات إلقاء الشعر، والصالونات الأدبية لمناقشة الأعمال المنشورة حديثا، وتوفر أماكن للعب الشطرنج.
وتنقسم المقاهي التاريخية في فيينا إلى نوعين، الأول هو المقاهي مرتفعة التكلفة في وسط المدينة، والتي يقصدها أعضاء الطبقات المتوسطة والغنية، والثاني هو المقاهي المعروفة باسم “مقاهي الناس”، وهي مقاهي البسطاء والفقراء في الضواحي.
قال توماس شنايدر، وهو مواطن نمساوي يبلغ من العمر 40 عاما، في حديث لـ”العين الإخبارية”: المقاهي التاريخية في فيينا توازي ما يعرف حاليا بأماكن العمل “working space”، وليست مقهى للترفيه فقط بالمعنى التقليدي.
وتابع: اعتدت على ممارسة عملي أو القراءة في أحد أركان موزارت كافيه “نسبة إلى الموسيقي موزارت”، في وسط فيينا، لكن هذا لا يعني أن المقهى ليس للترفيه أيضا.
وأضاف: “كثير من الناس يقصدون مثل هذه المقاهي من قبيل السياحة، ويتفقدونها أو يجلسون فيها لأنها جزء من التاريخ، والبعض الآخر يأتي هنا للتسامر أو حضور فاعليات الشعر والنقاشات الثقافية أو الاستماع للموسيقى الكلاسيكية”.
تاريخ طويل
تتناثر الكثير من القصص حول كيفية نشأة ثقافة “بيوت القهوة” في النمسا، وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن هزيمة العثمانيين في حصار فيينا الثاني في عام 1683 كان نقطة انطلاق هذه الظاهرة، إذ ترك الجيش العثماني الذي كانت بلاده مشهورة بالقهوة وطرق تحضيرها في هذا الوقت، كميات كبيرة من حبوب القهوة بعد فراره، واسٌتخدمت هذه الحبوب في صناعة القهوة وتدشين الثقافة في الأراضي النمساوية.
وفي عام 1685، نشر كبير المهندسين في الإمبراطورية النمساوية المجرية السابقة، كونتي مارسيلي، أطروحة “المشروبات الآسيوية” في فيينا، والتي تناولت طرق تحضير القهوة وأنواعها، ما دفع رجل الأعمال فرانز كولتشيتسكي لتأسيس أول مقهى كبير في المدينة تحت اسم “الزجاجة الزرقاء”.
ووفق “بوابة فيينا”، وهو موقع حكومي متخصص في تاريخ المدينة، فإن التجار الأرمن كان لهم الفضل في السنوات اللاحقة في تطوير صناعة القهوة، وتأسيس عدد من المقاهي في العاصمة النمساوية.
تراث اليونسكو
يتواجد في فيينا في الوقت الحالي العديد من المقاهي التاريخية مثل مقهى شوارزنبرج في رينغ شتراسا، أهم شارع في المدينة، ويعد هذا المقهى أهم ملتقى للفنانين والموسيقين في الـ100 عام الأخيرة.
وفي 1980، كان المقهى على شفا التحول لمعرض سيارات، لكن عمدة فيينا هيلموت زيلك، تدخل ومنع الخطوة، واستمر المقهى الشهير في تقديم قهوته الفريدة والشاي التقليدي حتى اليوم.
وفي قلب المدينة القديمة، يتواجد “كافيه سنترال” أشهر المقاهي التاريخية الذي جذب أعمدة السياسة والفن والأدب منذ افتتاحه لأول مرة عام 1876.
وفي هذا الإطار، قالت ستيفاني بربيك، مسؤولة التسويق والعلاقات العامة في الشركة المالكة لمقهى “كافيه سنترال”، لـ”العين الإخبارية”: “كان المقهى نقطة تجمع رئيسية للطبقتين المثقفة والسياسية في الإمبراطورية النمساوية المجرية، وجذب أسماء كبيرة مثل ليون تروتسكي، أحد زعماء الثورة الروسية في 1917، والعالم سيغموند فرويد، والزعيم النازي أدولف هتلر، ورئيس يوغوسلافيا السابقة جوزيف تيتو”.
وتابعت: “يأتي مئات السياح كل يوم إلى المقهى يسألون أين كان يجلس فرويد، وأين كان يحتسي تروتسكي قهوته”، مضيفة “الإرث التاريخي للمكان جعله قبلة سياحية بخلاف طبيعته كنقطة تجمع ومقهى ومطعم”.
ومضت قائلة: “مشهد الطوابير التي تنتظر دورا للدخول أمام المقهى بات طبيعيا، ونعتز بالتاريخ السياسي والثقافي لكافيه سنترال”.
ومع مرور الوقت، تحول ارتياد بيوت القهوة في فيينا، إلى ثقافة مترسخة في المدينة، وعنصر أساسي في تكوين المواطن الفييناوي “نسبة إلى فيينا”، ونقطة جذب سياحي للآلاف من السياح سنويا.
وفي 10 نوفمبر 2011، أدرجت اليونسكو ثقافة المقاهي في فيينا، في قائمتها للتراث الثقافي، باعتبارها “ممارسة اجتماعية نموذجية”.