فيينا – الدكتور هادى التونسي
الشرف ، الامانة ، النزاهة ، الجدية ، الاخلاص ! . هل كان والده محقاًَ حينما غرس فيه تلك القيم ، وجعل من نفسه قدوة يطبقها ؟ الم يخلق ذلك داخله صراعاً وانطواء وهو يرى نفسه يجاهد نزواته ويلاحظ تناقضاته حين سعى للابقاء على احترامه لذاته ؟ ولماذا كان شاباً يانعاً متوتراً تستغرقه التساؤلات ، وكأن عليه ان يكون دوماً محارباً ينجز سلسلة لاتنتهى من الواجبات ويمتنع عن مثلها من النواهى ؟ واذا كانت هذه القيم وغيرها واجبة وحققت له نجاحاً دراسياً ، فلماذا لاتحقق له السعادة والصفاء ؟ ولماذا يرى نفسه وحيداً غالباً حينما يختلى الى ذاته ، أو يراجع مراراته حينما ينكشف له زيف علاقة ظنها صداقة أو حب ، أو حينما يتصارع مع أو يراقب سلوكيات شاعت تتناقض مع قيمه الاساسية لتحقيق مصالح ذاتية أو آنية أو سعياً للبقاء بغض النظر عن الثمن ؟ وهل من يتبنون تلك السلوكيات أكثر توافقاً وارتياحاً وبساطة ؟ وهل تكفل تصرفاتهم حياة عالية القيمة نفساً وروحاً وسعادة حتى وان حققت الاهداف المادية ؟ أين هى فطرته الحقيقية ؟ وما السبيل ؟
رغم ان نشأته على الجدية والاخلاص جعلت منه محاربا لايهدأ ودارساً متفانياً ، فقد لاحظ ان الصراع يستنفذ الطاقة ويستفز الضد داخل النفس وخارجها ، وان القيم ان لم تنبع من النفس لاتثبت ولا تحقق سلاماً داخلياً ، وان الفطرة تختنق ان لم تر النور وتعيش حرة ، وانها تشع سعادة وسلاماً يتزايدان كلما اكتسبت زمناً ومساحة اكبر للانطلاق .
ولكن ما الضمان ان تكون الفطرة صافية والا تتحول الحرية عبثاً وان يحتفظ بما حظى به احياناً من قبول ومصداقية مرجعهما قيم ارشدته وطمأنت آخرين ؟ وجد ان المبادئ التى صارع نفسه وغيرها لتطبيقها أصبحت جزءاً اصيلاً حراً من نفسه ، واضافت لحياته معنى وهدفاً يعينه على تحمل المشاق ويجلب له احترام الذات ، ربما بفضل التعود او الممارسة وملاحظة النتائج . وان الفطرة لهذا لم تعد مخاطرة مخيفة أو مقترنة بالافتقار للمسئولية ، فاتسعت تدريجياً مساحة الممارسة . وشجعته النتائج على المزيد .
اندهش حين وجد انه عندما تخلى عن مراقبة ذاته وتحليل تصرفاته ودوافعه وعن الانتباه الى ما اعتمل داخله من الآم وسلبيات اصبح اكثر تلقائية وابتكاراً ومرحاً وحدساً واوفر طاقة وعملاً واكثر احساساً بالناس والكائنات وقبولاً للحياة بما لها وما عليها ، وبات النجاح فى اى شئ فى المتناول ، بل اشعلت هذه الحالة النفسية مواهب لم يكن يعتقد بوجودها أو ظن انها تحتاج لذكاء من نوع معين وليس لاحساس صادق وعميق يتجلى بصور متعددة . وعرف اخيراً ان القيم التى شب عليها استحقت الدفاع عنها ومنحته مع الحالة الذهنية رؤية واضحة وبعيدة بعد ان تجلت روحه تراقب بنزاهة دون هوى منبعه الذات وسلبيات مشاعرها
اذا كان ذاك طريقاً للصفاء والسلام الداخلى ، واذا كان السلام هدفاً ينشده الجميع اليس غريباً ان تعلمه لنا حياة مبنية على التدافع والصراع لنحقق من خلالها أملاً يناقض اساسها ؟
طبيب وسفير سابق / د هادى التونسى