نعلم جميعًا أن كل نتيجة يسبقها سبب، وأن السبب لابد أن يسبق النتيجة أو التأثير في الترتيب. تسير غالبية حياتنا من هذا المنظور المعروف باسم «السببية»، إلا أن ميكانيكا الكم ربما يكون لها رأي آخر.
جاحك في الاختبار يأتي نتيجة لإجاباتك الصحيحة، التلفاز يعمل لأنك ضغط على زر الفتح في جهاز التحكم، وأنت تشعر بألم في يدك لأنك أمسكت كوب شاي ساخن، أو أن البيضة نضجت لأنك وضعتها في المقلاة على النار، وهكذا.
ما ذكرناه مسبقًا يمثل حقائق بسيطة يمكننا أن نأخذها أمرًا مسلمًا به. الماضي هو الماضي، والحاضر يسبق المستقبل، والسبب يأتي قبل التأثير أو النتيجة. لا أحد يشك في هذه الأمور. لكن يبدو أن لكل قاعدة شواذها، والغريب أن الحالة الشاذة هنا تمثل أحد أعظم النظريات التي اكتشفها العالم، والتي غيرت من نظرتنا للكون من حولنا.
السبب والنتيجة في ميكانيكا الكم
بدأ علماء الفيزياء يدركون أن السببية قد لا تسير بهذا الشكل المباشر للأمام كما كنا نعتقد. فبدلًا عن أن السبب يسبق التأثير دائمًا، يمكن أن تعجل الآثار أحيانًا أسبابها. والأكثر إثارة للدهشة، يمكن أن يكون كلاهما سببًا للآخر في الوقت ذاته. ربما يبدو هذا الكلام غريبًا وغير مفهوم. إذا افترضنا صحة هذه الحالة، فهذا يعني أنك نجحت بالفعل قبل حتى أن تدخل للامتحان، وأن التلفاز يعمل قبل حتى أن تضغط على زر التشغيل في جهاز التحكم.
هذا التلاعب في ترتيب السبب والنتيجة لا يتعلق بمثل هذه الأمثلة البسيطة من حياتنا اليومية، بل يمكن أن يهز علم الفيزياء من أساساته. فعدم وجود ترتيب محدد للأحداث يتعارض مع صورة الكون الذي رسمته نظرية النسبية العامة، بل ربما يشير إلى وجود واقع يتجاوز ميكانيكا الكم ذاتها، التي تعد أفضل نموذج لدينا في عالم ما تحت الذرة.
السببية وتوحيد النسبية والكم
السماح للسببية بالعمل في كلا الاتجاهين يمكن أن يسمح لنا بدمج ميكانيكا الكم والنسبية العامة في إطار واحد يسمى «الجاذبية الكمية»، وهو هدف استعصى علينا على مدى أكثر من قرن.
منذ نشأة هاتين النظرتين، يعمل العالم يعمل جاهدًا من أجل الوصول لتلك النظرية الشاملة التي يمكنها أن تدمج مبادئ الكم والنسبية العامة من أجل رؤية واحدة للكون من الإلكترونات والبوزيترونات وحتى الكواكب والمجرات.
تكمن إحدى أهم المسائل العلمية المستعصية على علماء الفيزياء في فكرة توحيد القوى الأربعة الأساسية الموجودة في الكون: قوة الجاذبية، والقوة الكهرومغناطيسية، والقوة النووية الكبرى، والقوة النووية الصغرى. حتى نهاية فترة العشرينات من القرن العشرين، كانت النظرية النسبية العامة لأينشتاين هي الأوسع انتشارًا بعدما قدمت تفسيرًا مقبولًا لما يحدث على مستوى الكون الكبير أو الفضاء الخارجي، وذلك عبر وصفها لقوة الجاذبية في حركة الأجرام السماوية.
ومع بداية الثلاثينات ظهرت ميكانيكا الكم التي اهتمت بالكون الصغير، أو المستوى تحت الذري. تمكنت نظرية الكم من وصف عمل كل القوى الطبيعية في هذا العالم متناهي الصغر، وهي القوة النووية الكبرى والصغرى والكهرومغناطيسية، لكنها لم تقدم فهمًا ملائمًا لكيفية عمل الجاذبية على مستوى الذرات. من هنا فإن النظريتين تتكاملان كلًّا على حدة.
لكن الجمع بينهما يؤدي إلى نتائج توصف بالكارثية في فهم الكون كله بصفته نظامًا واحدًا؛ لأنه عند الجمع بين النظريتين تنفي كل منهما الأخرى، ولا بد أن تكون واحدة منهما فقط هي الصحيحة. لذلك بدأ العلماء يضعون نظريات، مثل نظرية «الأوتار الفائقة» حتى يكون هناك نظام واحد فقط يحكم الكون، وليس نظامين متعاكسين بشكل ما ، ومن هنا فإن نهاية السببية قد تكون سببًا للاحتفال؛ لأنها ستمكننا من توحيد النظريتين أخيرًا.
نحن نسير إلى الأمام.. فقط
حتى الآن نحن نسير في اتجاه زمني واحد فقط إلى الأمام. يقول علماء الفيزياء: إن سهم الزمن له تأثير كبير على حياتنا. لذلك، فإننا ندين بالفضل للقانون الثاني للديناميكا الحرارية، الذي ينص على أن الكون يزداد اضطرابًا بمرور الوقت (تزداد الإنتروبيا)؛ مما يوفر اتجاهًا واضحًا لكل ما يحدث فيه.
يشرح هذا القانون لماذا لا يمكنك إعادة البيضة التي قليتها للتو لسابق وضعها، ويقترح أيضًا لماذا لا يمكننا أن نعكس الانفجار الكبير، واستحالة العودة إلى هذا الكون المبكر المنظم للغاية من موقعنا الحالي، فطالما انطلق سهم الوقت، يبدو أنه لا يوجد توقف أو عودة للوراء.
يُنظر إلى الإنتروبيا عادةً على أنها مقياس للاضطراب أو العشوائية، وهي مرتبطة بالديناميكا الحرارية (فرع الفيزياء الذي يتعامل مع الحرارة والقوى الميكانيكية). ميلها إلى الزيادة إلى الأبد قد منحها مكانة رفيعة؛ لكونها إجابة صريحة لبعض الأسئلة العميقة عن طبيعة الحياة، وكيفية تطور الكون، ولماذا يتحرك الزمن للأمام مثل السهم.
لكن هذا لا يعني أن مسار الوقت دائمًا سلس، إذ أضافت نظرية النسبية تعقيدًا إلى تصورنا للوقت.
تقول النظرية: إن الوقت يسير بشكل أبطأ للمراقبين الذين يسافرون بسرعات أعلى، وكذلك لأولئك الذين لديهم مجالات جاذبية هائلة. على سبيل المثال: إذا سافر واحد من توأمين في سفينة فضائية تسير بسرعة قريبة من سرعة الضوء لمدة خمس سنوات أرضية، فعند العودة إلى الأرض، سيكون عمره أقل كثيرًا من توأمه.
أيضًا فإن الأحداث التي تظهر متزامنة لمشاهد ما يمكن أن تظهر متعاقبة لآخر. ومع ذلك فهناك شرط واحد مهم؛ إذا ظهر حدثان في وقت واحد، فلا يمكن أن يكونا مرتبطين سببيًا، إلا إذا كان هناك وقت متاح يسمح بتأثير أحدهما على الآخر. فنظرًا لأن المعلومات لا يمكنها الانتقال بسرعة أكبر من سرعة الضوء، فإن ذلك يضع حدًا صارمًا للأحداث التي قد تتسبب في بعضها البعض.
لتبسيط الأمور، إليك هذا المثال: يستغرق الضوء نحو ثماني دقائق للتنقل بين الأرض والشمس، وبالتالي فإن أي انفجار مفاجئ للشمس سيستغرق ثماني دقائق ليكون له أي تأثير، أو عواقب على الأرض.
ميكانيكا الكم تغير المعادلة
بعد بضع سنوات من ظهور النسبية، جاءت ميكانيكا الكم. كان من أغرب تنبؤات هذه النظرية فكرة «التراكب الكمي»، أو فكرة أن الجسم يمكن أن يكون في حالتين مختلفتين في نفس الوقت.
يعني هذا أنه بإمكاننا القول أن أمرًا ما حدث ولم يحدث، أو أن قطة داخل صندوق يمكن أن تكون حية وميتة، حتى فتح الصندوق وملاحظتها. وبالرغم من غرابة الفكرة، كان يعتقد العلماء أن الترتيب الذي تحدث فيه الأحداث خارج هذه المعضلة الكمية. حتى وقت قريب افترض العلماء أن النظام الزمني محدد جيدًا.
لكن دراسة أجريت عام 2012 حطمت هذا الافتراض. إذ اقترح العلماء أن التسلسل الزمني لحدثين، مثل مواضع الجسيمات أو المسار الذي تسلكه، يمكن أن يوجد أيضًا في التراكب الكمي. يعني هذا أن سهم الوقت يمكن أن يكون له اختلافات مفاجئة في مساره.
هذه الفكرة الغريبة مدعومة بتجارب حقيقية. ففي عام 2015، شاهد علماء في جامعة فيينا فوتونًا يمر عبر بوابتين A وB، في ترتيب غير محدد، مما يعني أنه من المستحيل معرفة ما إذا كان الفوتون يمر عبر البوابة A ثم B، أو عبر البوابة B ثم A. بكلمات أخرى، كان مسارها متراكبًا
في عام 2019 نشرت ورقة بحثية أرادت بناء صورة للسببية تعكس التعقيد الكامل للعالم، ودمج مفاهيم التراكب الزمني من ميكانيكا الكم مع تنبؤ النسبية العامة بأن الوقت يبدو أنه يمر ببطء أكثر في مجالات الجاذبية الأقوى.
هذه التجربة تتضمن تخيل سيناريو تقوم فيه سفينتان فضائيتان، بمزامنة الساعات قبل تجهيز مدافع الفوتون الخاصة بهم لإطلاق النار. ثم يطلق كل منهم فوتونًا على سفينة الآخر في نفس اللحظة، الساعة الواحدة.
الفرق الوحيد أن السفينة الأولى تتواجد بالقرب من كوكب كثيف بجاذبية عالية، وهو ما سيتسبب في إبطاء ساعة السفينة طبقًا للنظرية النسبية. لذا يجب أن يمر الوقت بشكل أبطأ للسفينة الأولى، وسيصطدم بها الفوتون القادم من السفينة الثانية قبل الساعة الواحدة أساسًا.
ماذا لو كان بإمكانك وضع هذا الكوكب الضخم في حالة تراكب كمومي، بحيث يكون قريبًا من كلتا السفينتين، ويؤثر على كل من ساعاتهما؟ في هذا السيناريو، يبدو أن المستحيل سوف يحدث، إذ ستنشأ حالة تراكب يصل فيها فوتون السفينة الثانية إلى السفينة الأولى قبل أن تطلق الأخيرة الفوتون الخاص بها، والعكس أيضًا.
المزيد من الغرابة تنتظرنا. ماذا لو كان لدى قائدي السفينتين القدرة على اختيار ما سيفعلون؟ هذا يعني أن الأوامر السببية لخياراتهم ستكون متشابكة أيضًا؛ إذا غير قائد السفينة الأولى شيئًا ما فستتأثر السفينة الثانية.
التوفيق بين الكم والنسبية
إذا كان يمكن تكرار هذه التجربة التخيلية في المختبر، فهذا يعني أن فكرة الترتيب السببي في التراكب يمكن التوفيق بينها وبين النسبية العامة. بافتراض أنه من الممكن وضع كتلة كبيرة بما فيه الكفاية في تراكب كمي، فإن التذبذب السببي سيمتد من النقاط في الزمكان التي قد يكون الجسم موجودًا بها. بكلمات أخرى، يمكن أن يتشابك الترتيب الزمني بين بعض الأحداث في منطقة واحدة من الفضاء مع الترتيب الزمني للأحداث في منطقة أخرى من الزمكان.
هذا يعني أن كل ما تفعله السفينتان الفضائيتان، وكذلك أي شيء آخر يحدث على متنهما، يحدث قبل وبعد أي شيء تقوم به السفينة الأخرى.
وهو ما يعني أننا لا نستطيع معرفة ترتيب الأحداث التي وقعت في عالمنا، بل إن الأحداث بشكل أساسي ليس لها نظام محدد على الإطلاق. هذا شيء مذهل حتى بالنسبة لأولئك الذين يعرفون جيدًا السمات الغريبة لنظرية الكم.
هنا تظهر الفوائد الحقيقية لهذه الخاصية الكمية، والتي ربما تمكن العلماء من وضع صورة جديدة للكون.
على مدى عقود، كانت ميكانيكا الكم والنسبية العامة أطرًا لا يمكن التوفيق بينها. ولا يوجد حتى الآن معالجة كمية لقوى الجاذبية، التي تظل من اختصاص النسبية العامة. وبالتالي فإن الجمع بين الاثنين في نظرية واحدة عن الجاذبية الكمية هو أحد التحديات البارزة في الفيزياء النظرية.
يتوقع هؤلاء الفيزيائيون أن تنهار السببية في ظل ظروف قاسية تتفكك فيها الفيزياء كما نفهمها حاليًا، كما هو الحال في اللحظات الأولى من الانفجار الكبير أو داخل الثقوب السوداء، والتي يعتقد أنها ذات كثافة لا نهائية.
يعني العمل على السببية الكمومية أنه يمكننا إعادة إنتاج مثل هذه التأثيرات الجاذبية الكمية في التجارب على الأرض؛ مما يجعل من السهل متابعتها. من خلال تطوير تقنيات جديدة، يمكننا التفكير في استكشاف الجاذبية الكمية في مختبراتنا.
ما الفائدة من التلاعب في السببية؟
اذا صمدت هذه الخاصية الكمومية الجديدة، فهناك احتمال أن نستخدمها لصالحنا. يمكن لأجهزة الكمبيوتر الكمومية من الناحية النظرية معالجة الحسابات الأكثر تعقيدًا من الحسابات الكلاسيكية، والعمل بشكل أسرع.
في حين أن أجهزة الكمبيوتر العادية تخزن الذاكرة من خلال البتات الثنائية «0 أو 1»، يمكن أن توجد البتات الكمومية في حالة تراكب؛ مما يسمح بمعالجتها بطريقة أكثر تعقيدًا. هناك أيضًا آمال بأن مثل هذه التراكبات يمكن أن تجعل قنوات الاتصال أكثر وضوحًا عن طريق تقليل الحساسية للضوضاء.
الأمر الأكثر إثارة بالنسبة للبعض هو أن العمل على السببية الكمية يدفع حدود ميكانيكا الكم نفسها. بالنسبة لبعض المنظرين الفيزيائيين، فإن نظرية الكم ليست بالضرورة هي الكلمة الأخيرة في فيزياء الصغائر. من أجل الانتقال إلى أبعد من ذلك، إلى مدرسة فكرية أحدث وأكثر لمعانًا، نحتاج إلى إيجاد طرق لتخفيف متطلبات السببية.