علماء النفس – لا يمتلك شخصية قوية كما تتخيل.. لماذا يفزع الديكتاتور من المعارضة؟

على مر العقود استطاع الحاكم الديكتاتوري ابتكار وسائل متعددة للتخلص من معارضيه، ما بين الزج في السجون، أو النفي خارج البلاد، أو حتى تلفيق التهم والاغتيالات أحيانًا. قد تظن أن الديكتاتور لا يهمه رأي الآخرين، وأنه لا يرى رأيًا سديدًا في الكون سوى رأيه ولذلك يفرضه على الآخرين، ولكن من منظور علم النفس الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك، والديكتاتور ليس بالقوة التي يتخيلها عنه البعض. وفي ظل المظاهرات المعارضة في شوارع أمريكا الآن، وأعمال العنف من جانب الشرطة تجاه المتظاهرين، فضلًا عن استفحال أنظمة القمع والديكتاتورية في العالم، يمكننا إعادة النظر عبر علم النفس هذه المرة، في محاول للرد على سؤال: لماذا «يفزع» الدكتاتور من المعارضة؟

 عندما يخاف الديكتاتور

أسماء لها رائحة الدم: هتلر، وماو تسي تونج، وغيرهم من الطغاة الذين قتل كل واحد منهم ما يزيد عن مليون شخص في رحلة تحقيق أحلامهم الديكتاتورية، هؤلاء الرجال سعوا للحفاظ على السيطرة الكاملة على حكوماتهم وسكانهم من خلال الأساليب العنيفة والدموية في أغلب الأحيان، بما في ذلك القتل المنظم، أو سجن جميع من يعارضهم، ومن عاش من مواطنيهم عاش في ظل الرعب والفزع. بقبضة الخوف حكموا أعوامًا طويلة وخلدوا في كتب التاريخ تحت قوائم أبرز الديكتاتوريين.

تلك النوعية من الحكام يصفهم البعض بأنهم «التجسيد الحي لقدرة البشر على ارتكاب الشرور في أقسى صورها»، من جانبهم، علماء النفس وأطباء الطب النفسي أكدوا أن الخوف والفزع  الذي يصدرونه للعالم من حولهم ما هو إلا وسيلة دفاع في محاولة للسيطرة على مرضهم النفسي، ويؤكد أكثر من طبيب نفسي أن بالدراسة الموسعة لنفسية الديكتاتور، تأكد  أن نسبة كبيرة من الطغاة كانوا يعانون من «القلق المزمن»، وهو مرض نفسي منتشر بين البشر بنسب متفاوتة، ولكن حينما يكون المصاب بهذا المرض متحكمًا في مصير الملايين يكون الأمر خطيرًا.

في البداية يجب أن نشرح لكم سريعًا ما هو القلق المزمن: «الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات القلق غالبًا ما يكون لديهم مخاوف وخوف مفرط ومستمر من المواقف اليومية، وفي كثير من الأحيان تتضمن اضطرابات القلق نوبات متكررة من المشاعر المفاجئة للقلق الشديد والخوف أو الرعب، وتصل إلى ذروتها في غضون دقائق إلى نوبات الهلع»، بمعنى أن الشخص المصاب بمرض القلق المزمن قد يصاب بحالة من الفزع والهلع في موقف يومي عادي، مثل أن يُحرج في مكان عام لسقوطه على الأرض، أو عندما يطلب من أحدهم معروفًا ويرفض، فمريض القلق المزمن يصعب عليه التعامل مع الرفض.

تخيل معي الآن شخص يمر بنوبة فزع، لن يكون في يده شيء سوى البكاء ومحاولة التقاط أنفاسه المتسارعة، وربما البحث المحموم عن دوائه إذا كان يملك واحدًا، ولكن – تخيل أيضًا – أن من يصاب بنوبة الفزع رئيس دولة.

مع هتلر أنت خائف.. «ضعيف في مركز قوة»

نوبات الهلع أو الفزع تجعل من يتعرض لها يشعر بالضعف الشديد، ويظن أن كل الأمور قد خرجت عن سيطرته، ولذلك قد يقبل على ارتكاب أفعال راديكالية، مثل الاستقالة من العمل، أو الانفصال عن شريك حياته، ولكن رئيس الدولة عندما يصاب بالهلع؛ يقتل ويدمر دولة بأكملها.

حين يخرج المتظاهرون في الطرقات يهتفون باسمه وبجوراه السباب وعبارات الرفض؛ يفزع الديكتاتور، عندما تعرض وسائل الإعلام تلك المسيرات مشيرة إلى سياساته التي يراها البعض خاطئة؛ يصاب الديكتاتور بالهلع، وعندما يقول له أحد في وجهه لا، يخاف الديكتاتور، وكل تلك الضغوط النفسية على شخص مريض بالقلق المزمن لن يكون ثمارها في صالح أحد، فيصدر الأوامر بالقتل والسحل والتفجير وقلب الطاولة؛ لأن هذا ما يفعله «الضعيف حين يكون في مركز قوة».

«إنهم يرون أنفسهم أشخاصًا مميزين للغاية، يستحقون الإعجاب، وبالتالي يجدون صعوبة في التعاطف مع مشاعر واحتياجات الآخرين، ويميلون للانتقام ممن يعارضهم». هكذا صرح الطبيب النفسي الأمريكي سيث دايفن، موضحًا في مقاله أن الرجال الطغاة على مر التاريخ سعوا للحكم بقبضة من حديد مدفوعين بخوف خفي ومتطرف، وأحيانًا غير منطقي من المصير الذي ينتظرهم، هذا على الرغم من شعورهم بالعظمة، والذي هو شعور زائف يختبئ خلف النرجسية.

هو مزيج نفسي فريد، الذي يتمتع به الديكتاتور، والذي أطلق عليه علم النفس مصطلح «العظمة غير الآمنة»، وهذا لأن شعورهم بالعظمة من السهل تهديدها مع أول كلمة رفض، أو أول لافتة ترفع في الطرقات، وتقول له لا على أي من سياساته أو قرارته، هذا الشعور بالأمان الزائف والجنة التي يعيش فيها، لن يرضى لشخص يراه تافهًا، وليس له وجود، أن يهدده، ومن هنا تأتي القرارات بقتل المتظاهرين، وسجن المعارضين، وإخفاء أية جهة معارضة ذات شأن.

دائمًا ما كان علماء النفس لديهم فضول حقيقي لسبر غور شخصية الديكتاتور، ولذلك في عام 1939 حظى عالم النفس كارل يونج بمقابلة مع هتلر، وكان كارل يونج يهدف إلى ملاحظة هتلر وتحليله، ولكن هتلر كان لديه هدف واحد من المقابلة هو إثارة الخوف في نفس كارل، ووصف كارل يونج هتلر بعد مقابلته قائلًا: «مع هتلر أنت خائف، فهو يختبئ عن عمد وراء قناع، وكأنه ليس إنسانًا، لا يمتلك روحًا للدعابة، ويريد أن يكون رمزًا لأمة بأكملها»، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل كان هتلر يصدّر الخوف لكارل حتى لا يستطيع بخبرته النفسية اكتشاف الخوف بداخله؟

تحليل شخصية هتلر ظلت مثيرة للاهتمام حتى لعلماء النفس في وقتنا هذا، وفريتز ريديليش، طبيب الأعصاب والطبيب النفسي، قدم شرحًا مفصلًا لشخصية هتلر بعنوان: «تشخيص نبي مدمر»، في هذه الأطروحة التحليلية كان الطبيب يحاول الإجابة على سؤال مهم: هل هتلر كان مجنونًا وغير مسؤول عن أفعاله؟ والإجابة كانت لا؛ فهتلر – وفق ما ذكر في التحليل – كان لديه الكثير من الاضطرابات النفسية، تلك الاضطرابات التي تندرج تحت بند الخوف من الرفض، والقلق المزمن، وجنون العظمة، تك الاضطرابات التي تجتمع في حاكم دولة أو قائد جيوش، تكون اضطرابات مدمرة وفق وصف الطبيب، فهذا الديكتاتور لن يلجأ للعلاج النفسي، ولن يعترف بكونه مريضًا نفسيًا، بل سيعكس كل اضطراباته على القرارات التي يتخذها بغرض فرض سلطته. ولكن ما أكده أن تلك الاضطرابات التي عانى منها هتلر، لا تندرج تحت بند الجنون الذي يعفي صاحبه من تصرفاته، بل إنه «اختار قراراته بكل فخر وحماس».

أما زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون، والذي يلقبه الكثير بالديكتاتور، كان له نصيب الأسد بين الرؤساء الحاليين بين صفحات التحليل النفسي للأطباء النفسيين. في محاولة لفهم نفسية ديكتاتور مثل هذا، وفي مقال له يحاول تفنيد شخصية كيم جونج وضح الطبيب النفسي إيان روبرتسون أنه يمكن وصف ديكتاتور كوريا الشمالية بكونه شخصًا: «الخسارةُ توتره، وتضعه تحت ضغط نفسي» موضحًا أنه منذ صغره يعد منافسًا شرسًا لكل من حوله، حتى في فترة الدراسة، وهو شخص لا يستطيع التعامل العقلاني والمنطقي مع الرفض أو الخسارة، والشعور باقتراب أي منهما قد يدفعه لارتكاب بعض الحماقات، أما في حالاته الطبيعية فهو يعد شخصًا ذكيًا ما لم تعارضه.

متلازمة الخوف الدائم من الاغتيال

كيم جونج إيل الزعيم السابق لكوريا الشمالية، ووالد الزعيم الحالي كيم جونج أون، كان واحدًا من الحكام الذين أطلق عليهم الكثير من المحللين السياسيين لقب ديكتاتور، وكان كيم جونج يعيش والخوف يحاصره طوال فترة حكمه، وعرف عنه أن لديه خوفًا مبالغًا فيه من الاغتيال.

خوفه المتواصل من الموت دفعه إلى توفير وسائل آمنة لنفسه، وكانت تلك الوسائل سببًا لنقد شديد من العديد من الكتاب بسبب المبالغ الطائلة التي صُرفت على تلك الإجراءات الأمنية، والتي كان أهمها تخصيص ستة قطارات مدرعة لتنقلاته، كل قطار يتكون من 90 عربة، وخصص لنفسه محطات لا يدخلها أحد سوى فريقه الأمني، والتي لا تبعد كثيرًا عن منازله الآمنة، وكان يخرج من القطار بالسيارة المصفحة لقطع تلك المسافة القصيرة ما بين محطة القطار والمنزل.

الملفت للانتباه فيما يخص علاقة المعارض والديكتاتور، أننا على مدار أكثر من ثورة في الوطن العربي، رأينا العديد من الصور والمقاطع المصورة لشباب يقفون أمام الدبابات، أو يفتحون صدورهم لبنادق الأمن، فهل تلك التصرفات تدل على شجاعة المعارض وجبن الديكتاتور، أم أن لها تفسيرًا آخر في علم النفس؟

«لا تجعل عدوك يخسر كل ما لديه»

الشجاعة هي أمر لم ينكره علماء النفس على الثوار أو المتظاهرين الذين يظهرون إقدامًا واضحًا أمام المخاوف في جميع وسائل الإعلام، سواء في أمريكا الآن، أو في الكثير من الدول العربية خلال العامين 2011 و2012 تحديدًا وحتى الآن، ولكن من أين تأتي هذه الشجاعة؟ ومن أين يأتي خوف الديكتاتور؟

يرى علماء النفس أن من يخرجون في الطرقات يصرخون ويرفضون شكل حياتهم الحالي، والسياسة التي تتبعها دولتهم، وعلى رأسها الديكتاتور، يكون لديهم على الأغلب شعور دفين، سواء بوعي أو لا وعي، أنه لم يعد لديهم شيء يخسرونه. ليس لديهم مال، ليس لديهم وظيفة، ليس لديهم منزل خاص، أو أسرة، ليس لديهم حياة كريمة بالمعنى المتعارف عليه، ولذلك يكون خروجهم بالصدور المفتوحة والغضب الذي لا يشوبه أي خوف، هو بسبب شعورهم بأن هذا الاعتراض إما أن يوفر لهم تلك الحياة التي يطمحون في عيشها، أو الموت في المقابل.

على الجانب الآخر، حاكم الدولة والذي ينطبق عليه تصنيف ديكتاتور لديه الكثير ليخسره، السلطة، والمال، والمنصب، وفريق عمل كامل من وزراء وخبراء ينفذون ما يأمر به دون مناقشة، ولذلك يشعر الديكتاتور أنه معرض للخطر دائمًا، فهو لا يريد أن يخسر مكانته، ولا الصورة الذهنية التي كونها عن نفسه، ولذلك يكون المعارض الذي يرفع لافتة مكتوب عليها «لا» مصدرًا للفزع.

القلق ليس الاضطراب الوحيد الذي يسطير على الديكتاتور ويجعله فزعًا في مواجهة المعارضة، ولكن ما أكده علم النفس أن شخصية الديكتاتور بشكل عام تجميع مزيج من الاضطرابات النفسية يعد أهمها اضطراب الشخصية النرجسية، هذا الاضطراب الذي يجعل صاحبه منشغلًا طوال الوقت بأوهام النجاح غير المحدود، والرغبة في امتلاك القوة والسيطرة على الآخرين، ويرون أنفسهم في مكانة أعلى من باقي البشر وفي تلك الحالة باقي البشر هم الشعوب والمواطنين، ولديهم إعجاب مفرط بالذات، ويملكون إحساسًا مبالغًا بالاستحقاق في كل شيء، وليس لديهم أي موانع في استغلال الآخرين، ولكن على الرغم من أن الشخصية النرجسية قد تظهر وكأن صاحبها يثق في نفسه، إلا أن كل تلك المشاعر التي لديه هشة وقابة للتدمير أمام أي معارضة، فكل تلك المشاعر التي لديه من قوة وثقة هي مجرد دفاعات نفسية يخفي وراءها أزمة ثقة في النفس وعدم شعور بالأمان، ولذلك قد تقبل الشخصية النرجسية على أي أفعال مدمرة إذا حاول أي شخص سرقة تلك الدفاعات النفسية منهم أو مواجهتهم بالحقيقة.

فرانسوا دوفالييه، الذي حكم هايتي من 1957 إلى 1971، أصدر قرارًا أثناء فترة حكمه بقتل كل الكلاب السوداء لاعتقاده أن واحدًا من خصومه السياسيين تحول إلى كلبًا أسود، إلى هذا الحد قد يخشى الديكتاتور من المعارضة، إلى الحد الذي يأخذه في طريق التفسيرات غير العقلانية، من وجهة نظر علم النفس، نوبات الخوف والفزع هي التي أدت إلى وصول فرانسوا لهذا التفكير، فنوبات الخوف المتكررة قد تصل بالعقل في لحظات بعينها إلى الخوف غير المبرر من الأشياء العادية في الحياة.

شاهد أيضاً

النمسا – حلول رقمية مبتكرة لتقليل انبعاثات قطاع التنقل

دشنت النمسا برنامجا جديدا للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة في مجال التنقل، يركز على تحقيق …