حياة السود في ألمانيا ـ مشروع “Afrozensus” يسعى للحد من التمييز ضدهم

السود هم أكبر أقلية يراها المرء في ألمانيا، لكن حجم معاناتهم من العنصرية والتمييز يبقى دائما مسكوتاً عنه. مشروع “Afrozensus” يريد تغيير هذا الواقع من خلال التحري لدى ذوي الأصول الإفريقية عن خبراتهم في هذا البلد.

بعد أن انهيت تبضعي في Arnimplatz بمدينة برلين، رأيت مشهداً ليس غير شائع في العاصمة الألمانية، فقد فارق الحياة أحد الأشخاص، وكان إثنان من رجال الشرطة يحاولان ابعاد رفاته عن الشارع، فقد فارق الحياة نتيجة تعاطيه المخدرات أو الكحول في عز النهار. اقتربت من موقع الحدث، فشاهدت رجل شرطة ثالث، كان أسود البشرة، فابتسمت له ولحسن حظي رد هو الآخر بابتسامة. إنها المرة الأولى التي أرى فيها ضابط شرطة أسود في برلين.

أرى كثير من السود في أرجاء العاصمة الألمانية، لكن من النادر أن أرى أحدهم يعمل في وظيفة تضعه وجهاً لوجه مع الآخرين، إذ أنّ أدوارهم في العمل غالباً تبقى غير ملحوظة وغير مرئية، وهي محصورة في مطابخ المطاعم أو غيرها. واتذكر أن أحد أصدقائي من كينيا سألني ذات مرة “لماذا يجب أن يكون مراقبو المرافق (الحمامات) العامة أفارقة؟”

يمثل هذا الوضع تجسيداً لعنصرية متعارف عليها (عرفية)، وبهذا الخصوص تقول باولينا باومغارتن وهي صانعة أفلام ألمانية من أصول أفرو برازيلية “هذا الوضع يكشف أن النساء السود لا حظوظ لهن بالحصول على أعمال تحفظ كرامتهن”.

غياب قاعدة معلومات يعيق الجهود المناوئة للتفرقة

تتفاقم مستويات التمييز في ألمانيا، وقد ارتفعت نسبة الهجمات العنصرية في عام 2018 بنسبة 20% عما كانت عليه في عام 2017، لكن الجهود المناوئة للتفرقة لا تجد قاعدة بيانات تدعم قضاياها، وبهذا السياق يعتقد الخبير في شؤون مكافحة التمييز دانيال جياميرا أن قاعدة البيانات المطلوبة يجب أن تكون واضحة التوجيه للمساعدة في مكافحة التمييز الذي يتعرض له المنحدرون من أصول أفريقية مشيراً بالقول “يراهم الناس سوداً ويعانون من التمييز بسبب لونهم، لكن لا توجد بحوث وإحصائيات حول ذلك”.

ويمضي جياميرا إلى القول” الساسة يهتمون بالأرقام” كاشفاً أن إقناع صناع القرار السياسي بالعمل يلزمه مزيد من الشواهد على العنصرية.

ويقدر عدد المتحدرين من أصول أفريقية الساكنين في ألمانيا أكثر من مليون شخص طبقاً لتقديرات غير رسمية، ويسعى الناشطون في مكافحة التفرقة العنصرية إلى الوصول لفهم أوسع لمعاناتهم بسبب العنصرية، وقد خرج جياميرا بمشروع Afrozensus أي “أحصاء الأفارقة”، وهو مسح سكاني قد يساعد في تسليط الضوء على واقع السود في ألمانيا اليوم.

هذا المشروع تموّله “الوكالة الاتحادية لمكافحة التمييز” ويسعى لتأسيس قاعدة معلومات تقوم على العمر والجنس والإعاقة وتجارب التفرقة والتمييز التي واجهت المشمولين بالمسح، ويقول سيباستيان بيكريش المتحدث باسم المشروع بهذا الخصوص “قاعدة المعلومات سوف تتيح لنا عرض قضية التمييز للنقاش على مستوى الرأي العام في ألمانيا، لأنّ القضية ستصبح أكثر وضوحاً”.

تركة الرايخ الثالث

يعزو بعض الخبراء عجز ألمانيا عن التعامل مع العنصرية على مستوى الرأي العام إلى الفهم العنصري الذي ساد البلد في مرحلة الرايخ الثالث، وهو فهم مفاده “الاعتراف بالفروق العنصرية هو ترويج لها”، كما تقول سارا شاندر، وهي مدافعة عن العدالة الاجتماعية مقيمة في بروكسل، وترى أن على الساسة تبني المفاهيم التي تعرضها المنظمات المناهضة للعنصرية ليتاح لهم التعامل مع التمييز العنصري.

ولقي ألوف الأفارقة مصرعهم جوعى في معسكرات الاعتقال في  ناميبيا. وفي هذا السياق يرى الناشط دانيال جياميرا أن الاشتراكية الوطنية (النازية) والاستعمار(الكولونيالية) تمثل امتداداً للتفرقة العنصرية، كاشفاً أن العديد من الساسة الألمان قد اعترفوا بعمليات الإبادة تلك لكن لم يصدر عنهم أي اعتذار رسمي حتى الآن، ويشخص جياميرا ملامح المشكلة بالقول “لا مكان للحديث عن الكولونيالية وعن العنصرية ضد السود في حوارات الرأي العام في ألمانيا اليوم”

هل تغيرت لغة الخطاب الألماني حول العرق؟

واستخدمت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في قمة الاندماج المنعقدة في آذار/ مارس 2020 تعبير “السود” لوصف معاناة الألمان المتحدرين من أصول أفريقية في محاولاتهم لإثبات أنهم ألمان حتى إذا كانوا قد ولدوا وكبروا في هذا البلد.

وهذه هي المرة الأولى على مدار سنوات طويلة التي يستخدم فيها مسؤول حكومي رفيع المستوى هذا التعبير. وقرأ البعض عبارتها في ضوء الاعتداء الأخير الذي جرى في هاناو كإشارة واضحة إلى التفرقة التي تطال السود والملونين بشكل عام. وتعتبر ماورين مايشا آوما استاذة دراسات الطفولة والتنوع في جامعة ماغدابورغ أنه ” يبعث على الارتياح أن نرى مجاميع الناس الذين يعانون من التفرقة يشار إلى قضيتهم بوضوح”.

ما هي تجارب الأفارقة في الشتات الألماني؟

ما قالته المستشارة الألمانية مؤخراً يعزز ما ذهبت إليه آوما وأمثالها من الأكاديميين الذين ما برحوا يتحدثون عن التمييز العنصري ضد السود، وبهذا الخصوص تقول آوما “رؤيتنا للعالم مختلفة لأننا نراه من منظورنا كأناس سود، لكنّ في ألمانيا بدأ يتبلور معنى واضح لهذه الرؤية”.

وفيما اعترف الألمان بالعنصرية كقضية، فإن “تحفظاتهم حول كيفية التعامل مع مجاميع الناس الخاضعين لتبعات هذه القضية ما زالت قائمة” كما يقول سيباستيان بيكريش، معتبراً أن مشروع Afrozensus يتوخى الكشف عن أثر تلك التحفظات على السود الذين يعيشون في هذا البلد، ويؤمّل أن ينطلق المشروع في أيار/ مايو المقبل بثلاث لغات هي الألمانية والانكليزية والفرنسية، لكن بالنسبة للسود والملونين فإنّ الموضوع يتعدى كونه مجرد أرقام ليصبح فرصة لبلورة رؤى حول التعامل مع العنصرية كما يقول دانيال جياميرا.

شاهد أيضاً

“الإمبراطور الأبيض”.. مقاتلة الجيل السادس الصينية المصممة للهيمنة على السماء والفضاء

تشهد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة تصعيداً ملحوظاً في العديد من المجالات، من أبرزها التسابق …