أن «الفشل يتيمٌ بينما النجاح له ألف أبّ»؛ ظلَّت الأضواء الإعلامية مُسَلَّطة طيلة الأيام الماضية على العملية العسكرية الأمريكية التي نجحت في اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، أبو مهدي المهندس، بقصفٍ استهدف موكبهما في محيط مطار بغداد، بينما لم يَنْبِس مسؤولٌ أمريكيٌّ واحد طيلة 10 أيامٍ ببنت شفة عن عمليةٍ عسكريةٍ أخرى نفذتها القوات الخاصة الأمريكية في الليلة ذاتها ضد قياديّ إيرانيّ ثالث هو عبد الرضا شهلايي، لكنها فشلت في قتله.
تاه هذا الفشل في خضم احتفال ترامب بنجاح عملية العراق، وبعدما ارتوى البيت الأبيض حتى الثمالة من كأس النصر، خرجت المتحدثة باسم البنتاجون، ريبيكا ريبريتش، لتكشف اللثام عن عمليةٍ «سرية للغاية» نُفِّذَت في العاصمة اليمنية صنعاء، لكنها فشلت في اغتيال عبد الرضا شهلايي، وهو قائد رفيع المستوى في فيلق القدس.
كان المسؤولون في البنتاجون والقادة العسكريون في فلوريدا يتابعون العمليتين العسكريتين في الوقت ذاته، وودوا لو استطاعوا الإعلان عن نجاحهما سويًا، إذا سارت الأمور على ما يُرام، حسب المعلومات الأولية التي كان لصحيفة الواشنطن بوست السبق في نشرها.
وعلى الرغم من أن الضوء الأخضر مُنِح للهجومين معًا، فإن الولايات المتحدة لم تكشف عن عملية شهلايي؛ لأنها لم تؤت ثمارها المرجوة، كما أوضح مسؤول كبير، قائلًا: «إذا قتلناه؛ لكُنَّا تفاخرنا بذلك في الليلة نفسها».
حين قتلت القوات الخاصة الأمريكية «الرجل الخطأ» في صنعاء
رغم فشل عملية صنعاء، حسبما أكد أربعة مسؤولين أمريكيين، ومرور اليوم تلو الآخر منذ مطلع العام الجاري، لا يزال المسؤولون المُطَّلِعون يُحجِمون عن كشف المزيد من التفاصيل؛ لأن السرية لم تُرفَع بعد عن كافة ملابسات العملية، حتى أن وزارة الخارجية والبيت الأبيض امتنعت عن التعليق على الاستفسارات التي وجهت إليها.
حتى بيان المتحدثة باسم وزارة الدفاع الأمريكية اكتفى بالإشارة إلى أن «الولايات المتحدة نفذت بالفعل غارة في اليمن، مطلع شهر يناير (كانون الثاني)»، مع إشارة إلى أن اليمن «طالما كان ملاذًا آمنًا للإرهابيين وغيرهم من أعداء الولايات المتحدة»، بحسبها.
ومن المعلومات القليلة الأخرى التي استطاع موقع ذا إنترسبت الحصول عليها، نقلًا عن مسؤول أمريكي طلب عدم الكشف عن هويته، أن العملية الأمريكية قتلت الرجل الخطأ؛ إذ نجا شهلايي من الهجوم ونجح في الاختفاء، بينما قتل ضابط آخر أدنى مستوى في فيلق القدس.
بعدها بفترة وجيزة، ذكر أمير توماج، محلل أبحاث إيران في مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات، أن التلفزيون الحكومي الإيراني أعلن عن مقتل عضو في فيلق القدس يدعى مصطفى محمد مرزعي في «أحد ساحات جبهة المقاومة»، ونقل عن مسؤول لم يكشف عن هويته قوله: إن مقتل مرزعي غير مرتبط بالعملية التي استهدفت سليماني في العراق.
بيد أن التقارير التي ظهرت في الإعلام الإيراني أشارت إلى أن مقتل مرزعي مرتبط بالهجوم الأمريكي في العراق وليس صنعاء، كما وصفته النسخة الإنجليزية من وكالة أنباء فارس بأنه «شهيد المقاومة» مؤكدة مقتله في الغارة التي استهدفت سليماني، إلى جانب وحيد زمانينيا.
ماذا تخبرنا عملية شهلايي عن أهداف ترامب الحقيقية؟
الاستنتاج الأول الذي استخلصته صحيفة الواشنطن بوست من هذا الكشف هو أن اغتيال سليماني والمهندس الأسبوع الماضي كان على الأرجح جزءًا من عملية أوسع نطاقًا، على خلافِ ما تُصَدِّره الإدارة الأمريكية. وتلقي عملية عبد الرضا شهلايي بظلالٍ من الشكوك حول الأهداف الحقيقية للتحرك العسكري الأمريكي الأخير: هل كان يهدف إلى «منع هجومٍ وشيك ضد الأمريكيين» حسب الرواية التي يروّج لها البيت الأبيض، أم كان تحركًا أشمل يهدف إلى شلّ قيادة الحرس الثوري؟
السيناريو الثاني هو ما تميل إليه سوزان مالوني، الباحثة في الشأن الإيراني في معهد بروكينجز، إذ ترى أن مهمة اغتيال عبد الرضا شهلايي تتحدى الحجة التي نسجتها إدارة ترامب، وتشير إلى تخطيطٍ أطول مدى وأوسع أفقًا يهدف إلى تحقيق أهداف أكبر مما أعلن عنه من قبل.
الأكثر من ذلك، أن عملية عبد الرضا شهلايي لم تكن مجرد مهمة طارئة، بل فكرة ظلت تراود إدارة ترامب طيلة السنوات الثلاث الماضية؛ باعتبارها وسيلة لردع إيران عن تقديم مزيد من الدعم للحوثيين في اليمن، حسبما نقل أليكس إيمونز، مراسل ذا إنترسبت لشؤون الأمن القومي والسياسة الخارجية، عن مسؤول أمريكي.
وحتى إذا صدقت إدارة ترامب في مخاوفها بشأن «التهديد الوشيك» الذي كان يشكله سليماني على حياة جنودها في العراق، يستبعد «إيمونز» أن يكون شهلايي يشكل تهديدًا مماثلًا في صنعاء، حيث أخلت الولايات المتحدة مجمع سفارتها في عام 2013.
صحيحٌ أن الولايات المتحدة تشارك في عمليات عسكرية، وتشن هجمات بطائرات بدون طيار ضد تنظيم القاعدة في شبه اليمن، لكن ليس لديها أفراد في شمال اليمن، الذي يسيطر عليه الحوثيون، حيث نفذت عمليتها الأخيرة.
وإذا كان المسؤولون الأمريكيون يؤكدون أن سليماني مثل شهلايي كانا مُدرَجَيْن على قوائم استهداف عسكرية معتمدة، فإن هذا بحد ذاته- حسبما خلص تقرير نشره موقع شبكة إيه بي سي الأسترالية- يشير إلى «جهد مُتَعَمَّد تبذله الولايات المتحدة لشل قيادة فيلق القدس، الذي صنفته الولايات المتحدة منظمة إرهابية».
وإذا كانت التقارير الصحفية لا تعرف حتى الآن تفاصيل واضحة لنسج الحقيقة في ظل التعتيم المؤسسي على بعض الجوانب، إلا أن «الكونجرس يحتاج إلى إجابات» واضحة من الرئيس الذي أصدر أمرًا بالعمليتين، كما طالب عضو مجلس النواب الديمقراطي، رو خانا.
والنائب الأمريكي رو خانا يشارك المراقبين في التساؤل عن «المدى الكامل لخطط إدارة ترامب الرامية إلى قتل المسؤولين الإيرانيين؟ وكيف ترتبط محاولة قتل (شهلايي) في اليمن بأي تهديد وشيك؟».
ناهيك عن التساؤلات المثارة عن مدى قانونية عملية شهلايي، باعتبارها عملًا عسكريًا ضد إيران، لم يصرح به الكونجرس، لذلك قدّم روخان بالتعاون مع السيناتور بيرني ساندرز مشروع قانون «يحظر تمويل أي أعمال أحادية الجانب يتخذها هذا الرئيس (دونالد ترامب)؛ لشن الحرب ضد إيران دون إذن من الكونجرس».
لماذا تعرض الخارجية الأمريكية 15 مليون دولار مقابل أي معلومة عن شهلايي؟
قبل قرابة شهر، وتحديدًا في السادس من ديسمبر (كانون الأول) 2019، عرضت الخارجية الأمريكية جائزة قدرها 15 مليون دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى تعطيل شبكات جمع الأموال التي يديرها شهلايي، الذي وصفته بأنه «رجل الحرس الثوري الإيراني في اليمن».
وقال المبعوث الأمريكي الخاص بإيران، براين هوك، في مؤتمر صحفي: إن الولايات المتحدة لا تزال «تشعر بقلق بالغ إزاء وجوده في اليمن، ودوره المحتمل في توفير أسلحة متطورة من النوع الذي سبق وأن اعترضناه أثناء تهريبه إلى الحوثيين».
والمعلومات التي يبحث عنها «برنامج المكافآت من أجل العدالة» التابع لوزارة الخارجية الأمريكية، تؤيد ما ذهبت إليه سوزان مالوني والنائب رو خانا وتغطيات صحفية كثيرة نشرت خلال الأيام الثلاثة الماضية، من أن الهدف ليس عملية محدودة بل مخططًا أوسع نطاقًا يهدف إلى شل قدرات الحرس الثوري عبر استهداف:
– خطط الحرس الثوري المالية، بما في ذلك مخططات «النفط مقابل المال».
– شركات الواجهة المرتبطة بالحرس الثوري، والتي تمارس أنشطة دولية بالنيابة عنه.
– الكيانات أو الأفراد الذين يساعدون الحرس الثوري في التهرب من العقوبات الأمريكية والدولية.
– المؤسسات المالية الرسمية التي تتعامل مع الحرس الثوري.
– طرق نقل الأموال والمعدات من الحرس الثوري إلى وكلائه من الميليشيات وشركائهم.
– الجهات المانحة للحرس الثوري أو الميسرين الماليين.
– الأعمال التجارية أو الاستثمارات التي يمتلكها الحرس الثوري أو مموليه أو من يديرونها.
– شركات الواجهة التي تتولى تدبير المشتريات الدولية للتكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج نيابة عن الحرس الثوري.
هل نسيت السعودية ثأرها من عبد الرضا شهلايي منذ أكثر من عَقد؟
فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على عبد الرضا شهلايي في سبتمبر (أيلول) 2008؛ بتهمة «تهديد السلام والاستقرار في العراق وحكومته»؛ لتحظر بذلك على أي شخص في الولايات المتحدة الاشتراك في معاملات معه، وتجميد أي أصول قد يمتلكها في الولايات المتحدة.
وعاودت وزارة الخزانة الكرّة مرة أخرى في العاشر من نوفمبر (تشرين الثاني) 2011؛ بتهمة تنسيق مؤامرة اغتيال السفير السعودي السابق لدى واشنطن، عادل الجبير، أثناء وجوده في مطعم بواشنطن، وتنفيذ هجمات ضد مصالح الدول الأخرى داخل الأراضي الأمريكية وفي دولة أخرى.
وقال البيان العقوبات التي شملت شمل أربعة إيرانيين آخرين من بينهم قاسم سليماني: إن شهلايي عمل من خلال ابن عمه، منصور أربابسيار، الذي ورد اسمه في شكوى جنائية بتهمة التآمر لإنجاح مؤامرة فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني.
ووافق شهلايي على تخصيص أموال لـ أربابسيار (الذي يقضي الآن عقوبة بالسجن لمدة 25 عامًا في سجن فيدرالي بولاية إلينوي) للمساعدة في تجنيد أفراد آخرين لتنفيذ المخطط، بقيمة خمسة ملايين دولار باعتبارها دفعة لجميع العمليات التي جرت مناقشتها.
ومن اللافت أن السعودية التي استهدف سفيرها في 2011، لم تفرض عقوبات على عبد الرضا شهلايي سوى في عام 2018، إلى جانب البحرين والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، باعتباره «إرهابيًا عالميًا» بحسب وصفهم. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن السعودية نسيت محاولة اغتيال الجبير، التي أعادها للأذهان السفير السعودي الحالي حين أعاد نشر تغريدة وزارة الخارجية الأمريكية بالمكافأة الكبيرة لمن يدلي بمعلومات عن عبد الرضا شهلايي.
شهلايي لا يزال على قائمة الاغتيالات.. ماذا يعني ذلك لمستقبل التصعيد بين أمريكا وإيران؟
بعيدًا عن حسابات النجاح والفشل، والهدف الحقيقي وراء العملية الأمريكية المزدوجة التي استهدفت العراق واليمن في الوقت ذاته، تبقى الحقيقة التي يؤكدها المسؤولون الأمريكيون حتى الآن هي: أن شهلايي لا يزال مستهدفًا، على الرغم من أن كلا البلدين أبدى اهتمامًا بتخفيف حدة الأزمة التي اندلعت عقب مقتل سليماني.
والمعلومات المتوافرة عن رجل الحرس الثوري الإيراني القوي في صنعاء، الذي تضع أمريكا على رأسه ملايين الدولارات، توضح لماذا لن تتخلى الولايات المتحدة بسهولة عن طلب رأسه.
الرجل في نظر الأمريكيين هو «ممول رئيس للحرس الثوري الإيراني، وله باع طويل في استهداف الأمريكيين وحلفاء الولايات المتحدة على مستوى العالم، وخطط لاغتيالات متعددة لقوات التحالف في العراق، وزود الجماعات الشيعية المتطرفة بالأسلحة والمتفجرات».
وإن كانت معظم الاتهامات الموجهة لـ شهلاي مُرسَلَة، فهناك اتهامان خطيران ليس أبرزهما محاولة اغتيال السفير السعودي في واشنطن، بل التهمة الأخرى المرتبطة بالتخطيط لـكمين متطوِّر نصبه رجال المليشيات المدعومة من إيران في 20 يناير (كانون الثاني) عام 2007، وأسفر عن مقتل خمسة جنود أمريكيين، وجرح ثلاثة آخرين، في مدينة كربلاء.
وفي حين تشير العملية الأخيرة إلى أن عبد الرضا شهلايي موجود في اليمن، ما دفع توماس واريك، الزميل الأقدم غير المقيم في المجلس الأطلسي، إلى مطالبة السلطات اليمنية بطرده؛ لأن «تصرفاته، أيا كانت، لن تصب في مصلحة الشعب اليمني على المدى الطويل»، إلا أنه لا أحد على وجه اليقين يستطيع تحديد المكان الدقيق الذي يوجد فيه الشهلايي الآن.
على الجانب الآخر من تحليلات الباحثين، وتغطيات المراسلين، وتصريحات المراسلين؛ سخر بعض المتابعين لـصفحة «برنامج المكافآت من أجل العدالة» على تويتر من الجهود الفاشلة التي تبذلها «أكثر من تسعة أجهزة أمنية واستخباراتية متواجدة في الشرق الأوسط» لاقتناص الرجل المولود في عام 1957، والذي نجح طيلة سنوات في التخفي وراء أسماء مستعارة منها: الحاج يوسف، والحاج ياسر، ويوسف أبو الكرخ. وفي حين قال آخر إن لديه «معلومات دقيقة عن وجود الشهلايي في دبي» وليس صنعاء، ذهب ثالث إلى أنه «عاد إلى إيران منذ فترة طويلة، وحصل على بطاقة هوية جديدة»، متوقعًا ألا تستطيع أمريكا العثور عليه أبدًا.