على الرغم من أن درجات الحرارة في فيينا، هذه الأيام، تصل تحت الصفر أو فوقه قليلا إلا أن فيينا جميلة تموج حيوية وتضج نشاطا، تشع أضواء وزينة وتسودها حركة لا تنقطع تتخللها أصوات ضحك ومرح تنطلق من حشود تنتقل من سوق لآخر بين أسواق أعياد الميلاد التي تغطي الميادين العامة وساحات القصور الإمبراطورية الفخمة ، ويكون أكبرها ساحة قصر بلدية فيينا «Rathaus» التاريخي الفسيح التي تصطف أمامها أتوبيسات السياح من من كل صوب وحدب تنقل المتسوقين في رحلات خاصة ومباشرة لا تنقطع منذ العاشرة صباحا وحتى العاشرة مساء مع انتهاء مواعيد الأفتتاح .
يزين شوارع وساحات فيينا هذا الموسم حوالى 971 كوخا خشبيا شيدت في 19 سوقا بالعاصمة فيينا.
الاحتفالات تبدأ رسمياّ بأعياد الميلاد في عموم أنحاء فيينا مع إنارة «الملكة» أو شجرة عيد الميلاد بساحة قصر بلدية فيينا «الراتهاوس».
وتعتبر «الملكة» أجمل شجرات عيد الميلاد ويتم اختيارها سنويا من فصيلة التنوب من أحد أقاليم النمسا التسع وفق إجراءات تصفية دقيقة تفوق تصفيات اختيار ملكات جمال العالم .
جاءت شجرة هذا العام من مقاطعة سالزبورج ولها من العمر نحو 130 عاما وتزن 8 أطنان ويصل طولها إلى 32 مترا، وصلت ساحة قصر بلدية فيينا في زفة يقودها حاكم مقاطعة سالزبورج السيد فلفريد هاسلاور “Wilfried Haslauer” بصحبة فرق موسيقية محلية وعدد من المسؤولين بالمقاطعة في حملة بيئية واسعة تكشف عن أشجار الإقليم وثروة غاباته.
إضاءت «الملكة» هذا العام بحوالي 2000 لمبة أضاءة من خلال حفل ضخم ضم حاكم ولاية فيينا الدكتور “ميخائيل لودفج” وحاكم مقاطعة سالزبورج ” فلفريد هاسلاور” يوم 16 من نوفمبر الماضى، ومن ثم افتتح أكبر أسواق عيد الميلاد ويستمر حتى نهار عيد الميلاد 26 ديسمبر .
المعروف أن أسواق أعياد الميلاد، هي أسواق موسمية تقليدية شعبية تفتح أبوابها بداية من النصف الأخير من نوفمبر وتستمر حتى نهار يوم الميلاد، وهي متخصصة في بيع أغراض الزينة والإضاءة والمأكولات والمشروبات وهدايا الميلاد ،
لا يقتصر وجود هذه الأسواق على فيينا العاصمة فحسب بل تنتشر في معظم كبريات المدن النمساوية والسياحية ويقدر عددها هذا العام بأكثر من 150 سوقا وبالطبع تمتاز أسواق العاصمة منها بأنها الأكثر شعبية والأوسع شهرة كحال كل ما هو يوحد فى العاصمة في كل أنحاء العالم على الرغم من أن النمسا تتبع النظام الفيدرالي ولها من الأقاليم تسعة أقاليم كل منها لا يستهان به له ميزانيته وثرواته وحكومته وبرلمانه وجمالياته وخصوصياته وبرامجه الثقافية والاجتماعية والسياحية. وهناك منافسة قوية بين فيينا ومدن نمساوية لا تقل عنها سمعة وقد تفوقها جمالا طبيعيا مثل سالزبورغ وبريجنز وكلاغفورت وايزن أشتاط هذه عواصم مقاطعات كما هناك مدن صغيرة لشدة جمالها تمت طباعة نسخة منها كمدينة هال اشتاط التي استنسخها الصينيون. وهكذا يسعى كل إقليم لتفوق ينصب مجمله في مصلحة النمسا كوطن جامع بدلا عن مركزية تمترس كل الاهتمام بالعاصمة وأطرافها في إهمال شامل ومتعمد للأقاليم مما يزرع البغضاء والكراهية ويؤدي لحروب تستنزف مال البلد ورجاله بل وتؤدي لانفصاله كما حدث في بلاد أخرى غاب عن سياسييها الوعي والحنكة.
الطريف في الأمر; أن الزائر لهذه الأسواق قد لا يتخيل مطلقا أنها تتعامل بملايين من اليورهات ، وذلك لبساطة مظهرها وأريحية أجوائها فالبضائع لا تزيد أسعار أغلاها عن بضعة يورهات، كما أن معظمها صناعة محلية، ولا تخرج عن كونها كور زينة خفيفة مطلية بجانب بعض الأشكال والمجسمات لتجميل الأشجار معظمها من مخبوزات وفاكهة مجففة خاصة البرتقال مع كميات ضخمة من القرفة والقرنفل اللائي تشع ريحتهما النفاذة وتعم حتى الطرقات بالجنب، خاصة أنها أساس مشروب كالشاي يحبونه ساخنا حتى يكسب الزائر شيئا من الدفء سيما وأن هذه الأسواق تقام في ساحات مفتوحة تخترقها الرياح من كل الاتجاهات وأحيانا تنهمر ولا تتوقف الثلوج والغريب أنه وكلما زادت كمية الثلوج زاد عدد الزوار تفاؤلا بعيد ميلاد أبيض. من أجمل وأهدأ أسواق فيينا ذلك الصغير الذي يقام في الميدان الفاصل بين متحفي التاريخ الطبيعي والفنون التاريخية الجميلة وهو ميدان يقع في قلب البلد يتوسطه تمثال ضخم للإمبراطورة ماريا تريزا مقابلا لسوق أخرى أكثر شبابا يقام بمجمع المتاحف الحديثة كما هناك سوق أخرى أكثر كلاسيكية تقام بمنطقة مايرهوف التجارية الفخمة لا تبعد بدورها كثيرا عن السوق التي تقام داخل قصر البلفدير بالحى الرابعة، أما السوق التي أعلن فوزها هذا العام سكان فيينا فهي السوق المقامة بقصر الشونبرون وهو القصر الصيفي للإمبراطورة ماريا تريزا التي كان لها 16 من الأبناء أشهرهم الإمبراطورة ماري أنطوانيت.
على الرغم من الإعجاب التي تحظى به سوق الشنوبرون التي لم يكتف بالبيع بل أضاف ورشا وبرامج للأطفال وألعابا موسيقية وأغاني وحكايات عن الكريسماس داخل القصر إلا أن كتب التاريخ تؤكد أن عادة الاحتفالات الضخمة الفخمة والبذخ والأشجار وتبادل الهدايا الغالية لم تكن عادة منتشرة كثيرا بالنمسا حتى داخل هذا القصر سيما في عهد آخر أباطرته الإمبراطور فرانز جوزيف وزوجه الإمبراطورة إليزابيث التي يناديها النمساويون باسم سيسي ويحلو لهم أن يشبهوها بالأميرة ديانا لجمال كل منهما وشقاء حياة كل منهما ونهايتها نهاية بشعة إذ تم اغتيال سيسي.
وكما جاء في مذكرات الأميرة فاليري فإن الاحتفال في حضرة والدها الإمبراطور فرانز جوزيف والإمبراطورة محفوفان بكبار المسؤولين بالدولة وحاشية القصر لم تكن ممتعة على الإطلاق وإنما رسمية متيبسة ومعقدة، شاكية أنها لم تستمتع باحتفال عيد الميلاد إلا بعد زواجها من الدوق فرانز سلفاتون وانتقالها بعيدا عن القصر، حيث نعمت احتفالاتها وأسرتها المباشرة بالكثير من المرح والفرح.
في سياق مواز كانت مصادر تاريخية قد أشارت لشح الإمبراطور فرانز جوزيف بشأن ميزانية الأعياد، وحتى ما كان يطلبه من هدايا كان بسيطا، ويقال إن طلبه اختصر مرة على علبة يحفظ فيها «البسكويت» توضع على مكتبه، كما أنه لم يتوسع في نطاق تقديم هدايا لحاشيته إلا بعد أن نصحته صديقة مقربة بذلك بعد أن وصلها علم أنه لا يفعل من جانبهم لم يبد بدورهم كثير من رجال الحاشية إعجابهم بتلك العادة الجديدة التي وصلت إلى فيينا من ألمانيا عام 1814 وكانت أول مرة تقام الاحتفالات حول شجرة مزدانة ومضيئة تحفها الهدايا والبذخ في أنواع الطعام. وفي تعليق قال الدوق يوهان إن الحرارة كانت لا تطاق بسبب كثرة الشموع كما أنه لم ير سرير المهد التقليدي بل شجرة وألعابا بعيدا عن أجواء التأمل والهدوء مما أشعره بأنه وحيد.