مادة «الكولين».. المادة الضرورية لبناء عقولنا التي ننساها في طعامنا

أصبح اتباع الأنظمة الغذائية أمرًا شائعًا بين الكثير من الناس في جميع أنحاء العالم، وفي الوطن العربي أيضًا، ويتنوع السبب وراء اتباع مثل هذه الأنظمة الغذائية بين الحاجة للوصول إلى الوزن المثالي، أو الوصول إلى شكل العضلات المميز. أيضًا هنا ظاهرة جديدة تنتشر بين العديدين، وهي التحول إلى الأنظمة الغذائية الصحية عبر تغيير العادات الغذائية، والاتجاه نحو الأنظمة النباتية أكثر من المنتجات الحيوانية.

دائمًا ما تتضمن النصائح القياسية في العديد من هذه الأنظمة الغذائية خفض كمية اللحوم ومنتجات الألبان من جهة، وفي المقابل تمتلئ هذه الأنظمة بالحبوب الكاملة للحصول على الألياف، وتناول الأسماك الزيتية للحصول على زيت السمك، والتمتع بالكثير من الفاكهة والخضار للحصول على الفيتامينات والمعادن.

لكن هذه الأنظمة الغذائية تؤثر على عنصر غذائي أساسي آخر ربما لم يسمع به معظمنا من قبل، وهذه النصائح القياسية قد تمنعنا من الحصول على ما يكفي منه. يسمى هذا العنصر «الكولين»، وقد كان مثار جدل الباحثين بعد أن كتب بعض المختصين مقالات علمية حديثة تقول إن نقصه قد يكون بمثابة «أزمة صحية عامة ناشئة».

الكولين.. مهم لكننا نعرف القليل عنه

لا يزال من غير الواضح بالضبط مقدار الكولين الذي تحتاج إليه أجسامنا بشكل دوري. ولكن نظرًا لأن البيض واللحوم الحمراء هي بعض من أفضل مصادر الكولين، فإن الاتجاه نحو تناول كميات أقل من المنتجات الحيوانية قد يعني أننا نفتقد أحد أبرز المغذيات الحيوية دون معرفة ذلك. حتى أولئك منا الذين يتناولون اللحوم قد لا يحصلون على ما يكفي.

في الماضي كان اكتشاف معظم الفيتامينات يحدث لأن بعض الأشخاص الذين يعانون من سوء التغذية قد أصيبوا بمرض مميز ما، ثم عولجوا منه عندما أكلوا بعض الأطعمة. على سبيل المثال، كان البحارة محرومون من الفاكهة الطازجة نتيجة بقائهم في البحر لأسابيع وأشهر طويلة، هؤلاء كان يصيبهم مرض الأسقربوط؛ لأنهم يفتقرون إلى فيتامين (ج). وعند العودة وتناول الفاكهة تختفي منهم أعراض المرض بشكل ملحوظ.

لكن تاريخ الكولين يبدو أقل وضوحًا. تمكن العلماء من عزله لأول مرة من العصارة الصفراوية عام 1862، وبعد ذلك وجدوا أنه يلعب العديد من الأدوار في جسم الإنسان. الكولين يدخل في تشكيل أغشية الخلايا، لذلك تحتاج جميع الخلايا النباتية والحيوانية إلى الكولين للحفاظ على سلامتها الهيكلية، وهو عنصر مهم في عملية التمثيل الغذائي للدهون في الكبد، كما أنه يساعد في صنع جزيء مهم في الجهاز العصبي للإنسان يسمى أستيل كولين، والموجود في الدماغ والعضلات.

والأسيتيل كولين (ACh) هو مادة كيميائية عضوية تعمل في المخ والجسم في أنواع كثيرة من الحيوانات والبشر، باعتبارها ناقلًا عصبيًا، بعبارة أخرى هو يمثل رسالة كيميائية تصدرها الخلايا العصبية لإرسال إشارات إلى خلايا أخرى، مثل الخلايا العصبية والخلايا العضلية وخلايا الغدة. والأسيتيل كولين هو الناقل العصبي المستخدم في الوصلات العصبية العضلية، أي أنه المادة الكيميائية التي تطلقها الخلايا العصبية الحركية من أجل تنشيط العضلات، والأسيتيل كولين هو الناقل العصبي الرئيس للجهاز العصبي السمبتاوي.

هل يصنع الجسم الكولين؟

في السابق كان يعتقد أن جسم الإنسان يمكنه صنع الكولين الخاص به، فالجسم البشري ينتج بالفعل الكثير من المواد الكيميائية الحيوية الأخرى، لكن لم يكن هناك مرض معروف بنقص الكولين، وهو ما رجح أن الجسم ينتجه بنفسه. كان هذا الأمر موضع تساؤل في الثمانينات، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الدراسات التي أظهرت أن بعض الحيوانات يصيبها المرض إذا ما سارت على نظام غذائي ينقصه الكولين.

ثم ابتكر ستيفن زيزل من جامعة نورث كارولينا اختبارًا نهائيًا لحسم الأمر عن طريق حث متطوعين على البقاء في المستشفى لعدة أسابيع يتناولون فيها الطعام المقدم لهم فقط، وابتكر فريقه البحثي نظامًا غذائيًا أساسيًا يحتوي على القليل جدًا من الكولين، يعتمد بشكل أساسي على السلطات، ومخفوق بروتين الصويا، ولفائف الخبز. حصل بعض الأشخاص على لفائف الخبز المضاف إليه الكولين، بينما البعض الآخر لم يحصل على تلك اللفائف.

في غضون أسابيع قليلة اكتشف الباحثون أن المتطوعين الذين حصلوا على لفائف الخبز بدون الكولين ظهرت لديهم المزيد من إنزيمات الكبد في دمهم، وتراكمت الدهون في الكبد. وعندما أعيد هؤلاء إلى الخبز الذي يحتوي على الكولين تعافوا من هذه الأعراض بشكل واضح، «لقد اكتشفت أول مغذٍ جديد منذ الفيتامينات الأساسية»، كما يقول زيزل.

وبسبب هذه التجربة الهامة وغيرها من عمليات البحث قام العلماء بإعادة تقييم الكولين. واتضح أن حليب الأم غني بالكولين، وأن المرأة الحامل تضخه للجنين عبر المشيمة. واكتشف العلماء أن مستويات الكولين في الأجنة أعلى بـ10 أضعاف من تلك الموجودة في دم الأم. وهذا بالطبع يجب أن يكون له سبب ما.

من المقبول الآن القول إن كبد الإنسان البالغ يمكنه صنع بعض الكولين، لكن معظمنا لا ينتج ما يكفي لتلبية متطلبات الجسم. في عام 1998 قدم معهد الولايات المتحدة للطب نصيحة أن الرجال يجب أن يستهلكوا 550 ملليجرام في اليوم، والنساء 425 ملليغرام. هذه النسبة عند النساء يجب أن تزداد في حالات الحمل والرضاعة.

معظم الناس لا تلبي حاجتها من الكولين

معظم الناس لا يصلون إلى هذا المستوى من الكولين الذي وصى به معهد الولايات المتحدة للطب. تشير الدراسات الاستقصائية إلى أن متوسط ​​المدخول اليومي من الكولين يتراوح من 260 إلى 470 ملليجرام. ربما تكون المستويات التي ذكرها المعهد مرتفعة. هذه التوصيات استندت إلى دراسة معينة، والتي قارنت حالتين فقط، واحدة أعطيت 500 ملليجرام من الكولين في اليوم وأخرى أعطيت 50 ملليجرام، وبالتالي من الممكن أن يكون المستوى الكافي هو رقم ما بين هذين الرقمين.

ومع ذلك ربما يحتاج بعض الناس إلى المزيد من الكولين أكثر من غيرهم. يعاني واحد من كل ثلاثة أشخاص في الولايات المتحدة – على سبيل المثال – من حالة خفيفة من «الكبد الدهني». هذا ناجم عادة عن الأكل غير الصحي، لكن باحثين يرون أن قلة الكولين قد تكون مسؤولة عن بعض الحالات. لقد أظهرت أبحاث أن الأشخاص الذين يعانون من الكبد الدهني هم أكثر عرضة لأنواع معينة من الجينات؛ مما يعني أنهم يصنعون كميات أقل من الكولين.

الكولين.. ضروري لبناء العقول

ومع ذلك، فإن أكبر قلق بشأن تناول الكولين يرتبط بأدمغة الجنين. تشير الأبحاث التي أجريت على الحيوانات إلى أن الكولين ضروري لبناء العقول، فحين تحرم الفئران الحامل من الكولين، فإن أطفالها يكونون أسوأ في المهام العقلية مثل القدرة على المرور عبر المتاهات. وكانت هناك أيضًا بعض التجارب الصغيرة لمعرفة ما إذا كان إعطاء النساء الحوامل جرعات أعلى من الكولين يساعد على نمو المخ لدى أجنتهن.

كانت النتائج مختلطة وغير حاسمة، ولكن أظهرت إحدى أطول التجارب أنه عندما تناولت النساء ضعف الجرعة الموصى بها من الكولين أثناء الحمل، كان أطفالهن أفضل في المهام المتعلقة بالذاكرة البسيطة عندما كان عمرهم سبع سنوات.

تقول ماري كوديل من جامعة كورنيل في نيويورك، التي ساعدت في إجراء التجربة: «هناك شيء مميز للغاية حول هذه المغذيات». والكولين قد لا يؤثر فقط على الدماغ أثناء نموه. تشير الدراسات التي أجريت على الفئران إلى أن تناول كميات أكبر من الكولين في مرحلة البلوغ يمنع آثار الخرف، على الرغم من أن التجارب التي أجريت على الإنسان لم تجر بعد.

بالنسبة للأطفال والأجنة على الأقل، هناك إجماع متزايد على أن الكولين ضروري. إذ يجب على مصنعي حليب الأطفال الآن ضمان مستوى أدنى في منتجاتهم، في كل من الولايات المتحدة وأوروبا. وفي عام 2018 دعت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال النساء الحوامل لضمان حصولهن على ما يكفي من الكولين.

هذا ليس أمرًا سهلًا. معظم أقراص الفيتامينات التي تتناولها الحامل في مرحلة ما قبل الولادة لا تحتوي على الكولين. وتشمل بعض الأنواع جرعة 100 ملليجرام من الكولين، وهو أقل بكثير من 425 ملليجرام الموصى بها للنساء الحوامل في الولايات المتحدة. والمشكلة هي أن تضمين هذه الكمية في قرص متعدد الفيتامينات سيجعله ضخمًا جدًا ويصعب بالتالي بلعه.

كيف يحصل النباتيون على الكولين؟

يقول بعض الباحثين إن الكولين يجب أن يكون مصدر قلق خاص لأولئك الذين يتناولون كميات أقل من المنتجات الحيوانية. هناك مصادر نباتية للكولين، مثل المكسرات وفول الصويا، ولكنها تحتوي على كميات أقل بكثير من تلك الموجودة في البيض واللحوم الحمراء. مثلًا 100 جرام من الفول تحتوي على 31 ملليجرام من الكولين، بينما 100 جرام من كبد الأبقار يحتوي على 431 ملليجرام تقريبًا من الكولين، وهي نسبة مساوية تقريبًا للمتوسط اليومي الموصى به للنساء.

نفس الكمية من الحليب تحتوي على 16.5 ملليجرام من الكولين، والبروكلي على 40 ملليجرام، والمكسرات على 52 ملليجرام، وصدور الدجاج على 62 ملليجرام، والسلمون 90 ملليجرام، واللحم الأحمر على 104 ملليجرام، والبيض المسلوق على 226 ملليجرام. النباتيون يمكنهم بالطبع تناول مكملات الكولين. لكن الكثيرين لا يعرفون أن عليهم القيام بذلك. وتقول الجمعية النباتية في المملكة المتحدة: «إن الكولين لا يدعو للقلق بالنسبة لأولئك الذين يتناولون نظامًا غذائيًا متنوعًا يعتمد أساسًا على الأطعمة النباتية المصنعة بأقل قدر ممكن».

الدراسات الموجهة.. الجدل الذي لا ينتهي

وربما يكون هذا هو الموضع الذي تتشابك فيه العلوم الناشئة حول الكولين مع النقاش الأوسع حول اللحوم. كما هو شائع في بحوث التغذية، بعض الدراسات تمول من شركات الصناعات الغذائية أو صناعات المكملات الغذائية، والتي يرى بعض الناس أنها دراسات مشبوهة وغير دقيقة وموجهة.

وفي الوقت الذي يسلط فيه المدافعون عن التغذية النباتية الضوء على أن بعض الباحثين المدافعين عن الكولين مثل إيما ديربيشاير الخبيرة في إحدى شركات الاستشارات الغذائية في بريطانيا، كانت عضوًا في اللجان الاستشارية للحوم والكولين الممولة من الشركات الصناعية. وديربيشاير تقول إنها نصحت بالفعل العديد من الهيئات التجارية، بما في ذلك شركة أغذية نباتية.

لكن في المقابل يحرص آخرون على توضيح أن تسليط الضوء على الكولين لا ينتقص من الفوائد الصحية المحتملة للأغذية النباتية. يقول والتر ويليت من كلية الطب بجامعة هارفارد: «من الواضح أن الكولين جزيء مهم، لكننا لا نزال لا نعرف حجم النسب اللازمة للصحة المثلى. هذا لا ينبغي أن يؤخرنا من التحول إلى نظام غذائي صحي ومستدام».

وأشار البعض إلى مفارقة غريبة: إذا كانت مادة موجودة بشكل رئيس في المنتجات الحيوانية وهي مفيدة للغاية، فلماذا تجد معظم الأبحاث أن الناس يعيشون حياة أطول عندما يتناولون كميات أقل من اللحوم الحمراء؟ لكن قد يكون الرد على هذا السؤال هو أن فوائد تناول كميات أقل من الدهون المشبعة يفوق أضرار تناول كميات أقل من الكولين. إذا كان الأمر كذلك فيمكنك الحصول على أفضل ما في العالمين عن طريق الابتعاد عن اللحوم وتناول المكملات الغذائية.

ولا ننسى أيضًا أن البعض جادل مؤخرًا بأن نصيحة تجنب اللحوم الحمراء كانت خاطئة؛ لأنها كانت تستند إلى دراسات سكانية معيبة محتملة بدلًا عن الاعتماد على تجارب عشوائية. عمومًا، لا يزال لدينا الكثير لنتعلمه عن الكولين. لكن هناك دلائل تشير إلى أنه أصبح مصدر اهتمام عدد أكبر من الناس. يتحدث المدونون النباتيون حول هذا الموضوع، وقد لفتت بعض الدراسات الحديثة الانتباه إليه.

شاهد أيضاً

برعاية ريد بول النمساوى.. تفاصيل رحلة ثنائي الأهلي محمد هاني وكريم فؤاد إلى النمسا

يستعد ثنائي الأهلي المصري، للسفر إلى دولة النمسا للخضوع لكشف طبي واستكمال مرحلة التأهيل من …