لم تخلع وسائل الإعلام حتى الآن لقب «اليميني المتطرف» على الدالاي لاما، رغم أن موقف الرجل الذي يعتبره أتباعه «بوذا الحي» تجاه اللاجئين والمهاجرين يمكن أن يضعه في مصاف الزعماء السياسيين الموسومين بوصمة التطرُّف.
فزعيم البوذيين الروحي، والذي يعد لدى أتباعه «بوديساتفا» الرحمة، والتي تعني في المُعتقد البوذي، كائنات منيرة اختارت أن تولد ثانية لما فيه خير جميع الكائنات الأخرى؛ يطالب بـ«إعادة المهاجرين إلى أراضيهم الأصلية»، رغم أنه هو نفسه «أشهر لاجئ في العالم»؛ ويرفع شعار «أوروبا للأوروبيين» رغم انتقاده لشعار «أمريكا أولاً» الذي رفعه دونالد ترامب إبان حملته الانتخابية.
وبينما يحذر من أن أوروبا يمكن أن تصبح قارة «مسلمة أو أفريقية» إذا لم تُعد الدول الأوروبية المهاجرين الذين استقبلتهم إلى بلدانهم الأصلية؛ نراه يشيد بـ«إحدى مميزات عدم قدرته على العودة إلى بلده الأصلي في التبت، أن الهند (منفاه) بلد حر، يمكن التعبير فيه بحرية».
الرجل الذي يقول إن «الحديقة هي أحد الأماكن المفضلة في منزله؛ لأن مختلف أنواع النباتات تنمو فيها»، لم يع من هذا التجانس الطبيعيّ؛ أن البشر يمكن أن يتعلموا الكثير عن التعايش من النباتات، التي تُسقَى في الأصل بماءٍ واحدٍ، ويفضل بعضها على بعض في الأُكُل.
هذا التناقض الذي يتجلى في تحريضه الدول الأوروبية على «إبعاد المهاجرين الفارين من الشرق الأوسط»؛ لا لأنهم مهاجرون، بل «لأنهم مسلمون»، بالرغم من أنه القائل: «كل التقاليد الدينية الرئيسية تحمل الرسالة نفسها؛ رسالة حب وتعاطف ومغفرة وتسامح ورضا وانضباط ذاتي».
الأمر الذي يجعلنا نبحث عن الوجه الآخر لزعيم البوذيين الروحي، رجل السلام الذي من المفترض أن رسالته تُبشر بالتسامح والمحبة والمغفرة، وإذا ما كان لهذا التسامح وجهٌ آخر غليظ؛ يُحرض على الأبرياء ويتغاضى عن الانتهاكات التي تطال الآخرين، ويرى غيره في درجة أقل.
الشعارات اليمينية المتطرفة بـ«نكهة بوذية»
ما ذكرناه آنفًا ليس مجرد تصريح عابر، أدلى به الزعيم الروحي للبوذيين التبتيين، خلال المقابلة التي نشرتها هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) يوم 27 يونيو (حزيران) 2019؛ بل موقفٌ راسخ، سبق وأن أعلنه العام الماضي في مدينة مالمو السويدية، ومن قبلها في روتردام الهولندية.
حتى أنه لم يتورع عن القول في ذروة أزمة اللاجئين عام 2016، بأن: «هناك الكثير جدًا من اللاجئين في أوروبا»، وأضاف في المقابلة ذاتها: «أوروبا وألمانيا على سبيل المثال، لا يمكن أن تصبحا دولة عربية».
أدلى زعيم التبت بهذه التعليقات في السويد بعد ثلاثة أيام فقط، من الانتخابات العامة التي أحرز فيها «حزب الديمقراطيين السويديين»، المناهض للهجرة والذي تمتد جذوره إلى العنصريين البيض، أكبر مكاسب من بين جميع الأحزاب، وحصد نسبة 17.6% من الأصوات، بزيادة عن نسبة 12.9% التي حققها في الانتخابات السابقة.
ولم ينأ الدالاي لاما بنفسه عن التصريحات المناهضة للهجرة في البلد «الذي كان من أكثر دول العالم ليبرالية، لكنه انزلق الآن إلى مستنقع سياسي بسبب صعود اليمين المتطرف»، على حد قول برهام جوبادي في مجلة «بوليتيكال كريتيك»، الذي اعتبر أيضًا أن «مثل هذه التعليقات التي أدلى بها الزعيم الروحي، الذي يبشر بالسلام والمقاومة اللاعنفية، يمكن أن تسفر فقط عن التعصب في قارة مستقطبة بالفعل بعد أزمة اللاجئين».
ولم يكن الدالاي لاما موفقًا حين اختار لتصريحاته المثيرة للجدل مدينة مالمو ليلقي فيها خطابًا حول «فن السعادة والسلام»، وهي المدينة التي لدى 53% من سكانها خلفية أجنبية، ويتحدثون 150 لغة على الأقل، وينتمون إلى 170 دولة.
وكأن رجل السلام لم ينتبه إلى تشابه تصريحاته حول «أوروبا التي تنتمي للأوروبيين»، مع الشعارات القومية اليمينية المتطرفة. ولم يُحِط خُبرًا بهتاف مجموعة «أو إن أر ONR» الفاشية اليمينية المتطرفة في بولندا «بولندا للبولنديين» خلال مسيراتهم، أو يعرف أن الجماعات اليمينية المتطرفة في السويد لطالما رفعت شعار «حافظوا على السويد سويدية»، أو لم يخبره أحد بأن جماعة المسيرة الجورجيية، المعادية للمسلمين والمهاجرين، ترفع شعار «جورجيا للجورجيين»، أو يسمع من قبل بالشعار الأكثر شهرة «ألمانيا للألمان فقط»؟
من منفاه في الهند.. «أشهر لاجئ في العالم» يحرِّض أوروبا ضد اللاجئين
عندما زار مراسل «بي بي سي»، راجيني فيدياناثان، الدالاي لاما في منفاه، ذكَّره بالتصريح الذي أدلى به العام الماضي، أن «اللاجئين في دول الاتحاد الأوروبي يجب أن يعودوا إلى ديارهم في نهاية المطاف»، وأن «أوروبا مخصصة للأوروبيين»، وسأله: مع وجود حوالي 70 مليون مشرد في أنحاء العالم، وفقًا لأحدث الإحصائيات، ماذا لو أراد الناس البقاء في دول المهجر؟
أجاب الدالاي لاما بأن «هناك عدد محدود على ما يرام، لكن أوروبا كلها ستصبح في النهاية دولة مسلمة، أو دولة أفريقية، مستحيل». مما دفع محاوره إلى الإعراب صراحة عن استغرابه من «وجهة النظر المثيرة للجدل، والتي تذكر بأنه على الرغم من أن الدالاي لاما شخصية روحية، إلا أنه أيضًا سياسي، له آراء مثل أي شخص آخر».
لكن حتى لو كان تحذير الدالاي لاما من «أسلمة» أوروبا أو «أفرَقَتها» يفتقر إلى الإنصاف، فإنه لا يتماهى مع المتطرفين المناهضين للمهاجرين حين يؤكد على أن «أوروبا ملزمة باستقبال من يحتاجون إلى المساعدة»، أو يطالب بـ«تزويد اللاجئين بالتعليم والتدريب، حتى يعودوا إلى بلادهم بمهارات محددة».
وموقف الراهب الثمانيني من قضية اللاجئين حساس؛ لأنه شخصيًا أشهر لاجئ في العالم، ويعيش في الهند منذ ستة عقود، ولا يخفي أنه بات يعتبرها «موطنه الروحي»، بعدما غادر موطنه الأصلي التبت سيرًا على الأقدام في عام 1959.
عندما هرب من القوات التي أرسلتها الصين إلى التبت، بينما كان لا يزال في منتصف العشرينيات، واستقر منذ ذلك الحين في دارامسالا، شمال الهند، التي أصبحت مقر حكومة التبت في المنفى، ولحق به حوالي 80 ألف تبتي، استقر معظمهم في المنطقة ذاتها.
هذه المفارقة حاول الدالاي لاما إزالة العجب حولها بالقول: «اتخذنا نحن التبتيون مأوى في الهند، لكن معظم التبتيين يريدون العودة إلى التبت عندما يتغير الوضع هناك. لكل دولة ثقافتها ولغتها وطريقة حياتها الخاصة، ومن الأفضل للناس أن يعيشوا في بلدهم».
مسلمون وبوذيون وكاثوليك.. فرقهم الدين وجمعهم «بعبع اللاجئين»
بيد أن ما يحذر منه الزعيم البوذي من منفاه في الهند، هو في الواقع ما يطمَح إليه زعيم سياسي آخر يعيش في قلب أوروبا؛ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يرى أن مصير «أوروبا مرتبط بأفريقيا»، ولا يرى مشكلة في زيادة تدفق الأفارقة إلى أوروبا من 9 مليون إلى 150 – 200 مليون خلال الثلاثين سنة القادمة.
بل أن السيناريو «الأكثر تفاؤلًا»، وفقًا لصحيفة «لوفيجارو» الفرنسية، هو «Eurafrica»، حيث تخلق الهجرة الجماعية من أفريقيا إلى أوروبا، قارة متعددة الثقافات ومرحبة بالمهاجرين.
بيدَ أن مجلة «نيو أمريكان» تلقفت تصريحات الدالاي لاما، لتوظفها في سياق الخوف من المهاجرين، فمزجتها بتصريحات أدلى بها لاجئ آخر، هو الدكتور مضر زهران، أمين سر «ائتلاف المعارضة الأردنية» المقيم حاليًا في المملكة المتحدة، في عام 2015، والتي قال فيها إن «معظم المهاجرين المسلمين الذين يدخلون أوروبا لم يكونوا في الواقع لاجئين فروا من الخطر، بل كانوا غالبًا انتهازيين يبحثون عن الفرص الاقتصادية، وأحيانًا جهاديين عنيفين».
احتفت المجلة بتحذير زهران، باعتباره مسلمًا يشهد على بني جلدته، من أن الهجرة تمثل «الفتح الإسلامي الناعم للغرب»، وإصراره -مثل الدالاي لاما- على إعادة المهاجرين إلى وطنهم، وانتقدت وسائل الإعلام السائدة لأنها لا تسلط الضوء على مثل هذه الآراء.
وراحت «نيو أمريكان» تحشد تحذيرات إضافية من «الغزو الديموجرافي الإسلامي (أو العالم الثالث)»، مثل تصريحات رجل الدين المسيحي الكاثوليكي كارلو ليبيراتي في يناير 2017: «سنصبح جميعًا مسلمون في غضون 10 سنوات بسبب حماقتنا».
خليفة الدالاي لاما لن تكون ذات نفع إن لم تكن «جميلة»!
تصريحات الدالاي لاما المثيرة للجدل والتي تناقض المعتقد البوذي الذي يدعو للتسامح والبحث عن الجمال الداخلي والثقة الداخلية، والخير في الكائنات؛ لم تنحصر فقط في نطاق التحريض على اللاجئين، بل امتدت أيضًا لما يُمكن أن يكون حديثًا عنصريًا ضد النساء. ففي عام 2015، صرح الدالاي لاما قائلا: «إذا خلفت امرأة الدالاي لاما، سيتعين عليها أن تكون جذابة».
حين واجهه راجيني فيدياناثان بهذا التصريح، أكّد الدالاي لاما على إيمانه بأن الجمال مهم بقدر أهمية العقول. وأضاف ضاحكًا: «إذا أصبحت هناك نسخة نسائية من الدالاي لاما، يجب أن تكون أكثر جاذبية».
وبحسب مراسل «بي بي سي» فقد تغيرت تعابير الزعيم الروحي، وقال: «إذا بدت الدالاي لاما الأنثى بطريقة معينة، إذًا الناس، على ما أعتقد، سيفضلون عدم رؤية هذا الوجه».
«بدت تصريحاته متناقضة مع رسالة رجلٍ يبشر بالتسامح والثقة الداخلية، لكنه يؤكد أن الجمال الخارجي مهم في الأدب البوذي مثل الجمال الداخلي. وأن الناس لا يرغبون في رؤية «وجه ميت». *مراسل «بي بي سي»
لأمر لم يتوقف عند ذلك، بل تخطاه إلى القول بأنه بجب على خليفته أن تستخدم «المكياج»، مما دفع براجيني أن يخبره بأن الكثير من النساء قد يعترضن على هذا النوع من التصريحات، على اعتبار أن شخصية المرء هي ما ينبغي أن تكون مقياس الحكم عليه.
لم يعترض الدالاي لاما لكنه استدرك: «في النهاية، كلاهما مهم. الجمال الحقيقي هو الجمال الداخلي، هذا صحيح. لكن أعتقد أن المظهر مهم أيضًا». لاحقًا قال محاوره في تغريدة هذا الرد كان «أكثر اللحظات إثارة للدهشة في المقابلة».
أدلى الدالاي لاما بتعليقات مماثلة في عام 2015، عندما أخبر «بي بي سي» أيضًا بأن الدالاي لاما القادم يمكن أن يكون امرأة بالتأكيد، لكن يجب أن تكون امرأة جميلة المظهر وإلا «لن تكون ذات نفع». وهو الرأي الذي أثار دهشة هارميت كور من شبكة «سي إن إن».
من الناحية النظرية، تبدو البوذية أكثر استنارة مقارنة بالكاثوليكية التي تستبعد النساء بشكل قاطع من منصب البابا. لكن في الممارسة العملية، لم تُمنح النساء الفرصة نفسها كالرجال، لذا فإن فكرة أن تحل امرأة محل الدالاي لاما تظل مجرد فكرة افتراضية.
موقف «ناعم» من فظائع عسكر ميانمار ضد الروهنجيا
رغم حصول الدالاي لاما على جائزة «نوبل» للسلام في عام 1989، تكريمًا لمعارضته المستمرة لاستخدام العنف في التبت، إلا أنه على عكس العديد من زملائه الحاصلين على «نوبل»، لم يرفع صوته ضد الفظائع التي ترتكبها الطغمة العسكرية في ميانمار ضد مسلمي الروهنجيا.
حتى حامل «نوبل» ديزموند توتو، الذي شارك في تأليف كتاب مع الدالاي لاما عن الفرح والسعادة، أدان بأقوى العبارات الحملة القمعية العسكرية في ميانمار، ووصفها بأنها «تطهير عرقي».
وزارت ثلاث نساء حاصلات على جائزة «نوبل» للسلام (الأيرلندية مايرد ماغواير واليمنية توكل كرمان والإيرانية شيرين عبادي) مخيمات اللاجئين الروهنجيا في فبراير (شباط) الماضي، وأدانت ملالا يوسفزاي، أصغر حاملة لجائزة «نوبل» للسلام، مرارًا وتكرارًا المعاملة «المخزية» لمسلمي الروهنجيا.
أما الدالاي لاما فاتخذ موقفًا «ناعمًا» مع البوذيين في ميانمار، رغم أنهم أحرقوا قرى المسلمين واغتصبوا نساءهم وارتكبوا جرائم قتل جماعية وصفتها الأمم المتحدة بأنها تطهير عرقي.
بيدَ أن هذه المواقف المثيرة للجدل والمناقضة لما يُبشّر به؛ ليست هي التي دفعت الصينيين إلى وصفه بأنه شيطان. تلك الحادثة التي يحكيها الدالاي لاما مبتسمًا: «وصفني مسؤول صيني ذات مرة بأنني شيطان. عندما سمعت ذلك أول مرة، كان ردي: نعم، أنا شيطان بقرون» وأضاف وهو يضحك: «أشفق على جهلهم، وتفكيرهم السياسي ضيق الأفق». إلا أن بكين لا تزال تعتبره «انفصاليًا»، حتى لو ظل يؤكد المرة تلو الأخرى أن هدفه ينحصر في الحكم الذاتي وليس الاستقلال.