الخامسة مساءّ ، أخرج من المنزل كعادتي خلال أيام رمضان لأشتري بعض الحاجيات من السوق الذي يبعد عني مسافة 30 دقيقة بـ مترو الأنفاق، صادفت شابًا ملتحيًا، حييته دون أن ألقى منه ردًّا، واصلت السير وفي ذهني يبرز التعجب من تصرفه الذي تكرر أكثر من مرة، قلت في نفسي ساخرًا «ربما لم يصله من الإسلام إفشاء السلام»، بلغت السوق لأرى أمامي على سبيل العادة بعض الأمراض الاجتماعية السائدة في مجتمع صغير من الزبائن والبائعين داخل السوق قد يصفه البعيد بأننا متدينين بالفطرة «متدين جدًّا» كالتحرش الجنسي، غياب احترام الكبير النميمة أو التظاهر بالثراء ، أو رمي النفايات على أرض السوق برغم من وجود أماكن مخصصة لذلك
وصلت إلى وجهتي فرحت أتجول بحثًا عما أحتاجه، وجدت بائعًا مسلم عُرف عنه وجوده الدائم في الصفوف الأمامية للصلاة، وأداءه المتكرر للحج والعمرة، اقتنيت من عنده ما كنت أحتاجه وعدت إلى المنزل دون أن أدقق في ما أخذته بسبب الفكرة المسبقة التي كانت لدي عن تدين البائع – رغم أنه من الصعب اعتبار تحديد كيفية التعامل مع الآخر بالاعتماد على أفكار مسبقة أمرًا صحيًّا- و فور بلوغي المنزل، أخذت أضع مقتنياتي لأكتشف أنه غشني، ولا أعتقد أني في حاجة إلى ذكر التفاصيل؛ إذ لا بد أن أي قارئ ستمر أمام ذاكرته عشرات الحوادث المشابهة التي حصلت له كأي فرد آخر بفعل الأفكار المسبقة.
في تعاملاتنا اليومية تتكرر حوادث مشابهة لما سبق ذكره، والسبب الذي يجعل المرء منخدعًا بمظهر الآخر أكثر من مرة ربما قد يعود إلى أن من غير الممكن التفكير جيدًا أثناء أي تعامل اجتماعي نعيشه، لذلك تستحضر الأفكار المسبقة والتمثلات الاجتماعية التي تجعلنا نميز بين الأشخاص بناء على مظاهرهم، ومدى انعكاس الالتزام الديني عليها.
قد يختلف الناس حول المذاهب ومعاني الأمور، لكن من غير المعتاد أن يختلفوا حول رفض تنزيل الدين في الحياة العامة شكليًّا وتغييبه جوهريًّا، فما الدين إذا فرغناه من المبادئ الأخلاقية والقيم؟
وسط هذه السطحية التي صارت نسبة كبيرة منا تعيشها حين تمارس إيمانها بأي فكرة تضيع الكثير من المعاني، إلى الحد الذي يدفعنا للتساؤل حول ما ضاع منا نتاجًا لذلك.
فما الذي خسرناه إذن بسبب انتشار التدين الشكلي؟
1. خسرنا الوضوح، فما عدنا نستطيع التمييز بين متدين وغير متدين، صار سوء الظن ملازمًا لنا كآلية نحمي أنفسنا بها من أي تناقض قد تكشفه لنا المواقف في الآخر بين ما يعكسه مظهره وحقيقة جوهره.
2. خسرنا السؤال عن الأخلاق و القيم، وصرنا نغير الشكل في المناسبات الدينية، دون تغيير التعامل، ونتمسك بالطقوس دون البحث عن معانيها، دون أن يحب أحدنا لأخيه ما يحبه لنفسه.
3. خسرنا الاهتمام بقضايانا الكبرى التي سيفيدنا حلها كالأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي نعيشها في مقابل التركيز على مواضيع غير مؤثرة، كموقع الفنون بين الحرام والحلال، أو خوض نقاشات حول كيفية ارتداء الآخرين الثياب واستعمال العطور، وهلم جرا في هامش المواضيع.
4. خسرنا الدين في العمل، آلية لتحقيق التنمية، منظومة قيم ومبادئ تبعدنا عن الكسل وتزيد من إنتاجيتنا المعرفية، والاجتماعية، والاقتصادية.
5. فقدنا التدين المبني على الجرأة في تحديد الباطل والحق لمناصرة هذا الأخير، فصرنا نشاهد تطبيلاً دائمًا للقوي، ووقوف من يدعون التدين ضد الضعفاء أو على الحياد.
6. أمسينا نرى أشخاصًا يتحدثون ويتصرفون بتطاول على الآخر، كأنهم مبشرين بالجنة لمجرد إطالتهم للحى وحفهم للشوارب وتمسكهم بالطقوس، فتناسوا كيف أنهم قد يعيثون في الأرض فسادًا متوهمين أنهم المصلحين.
قد نبقى مع عد الخسائر دون توقف، لكن عدد الكلمات والوقت يضعان حدًّا لذلك، وقد يظهر أن من الأفضل التوقف للتذكير بضرورة النظر من زاوية أخرى، من زاوية الأمل لمجتمع أفضل ونهضة حقيقية، بعيدًا عن ضجيج الشعارات السياسية التي تنتهي فور نهاية الحملات الانتخابية، فالعالم لم ينته بعد، والمجتمعات دينامية تستطيع تجاوز الأزمات.
حاولوا إذن التوقف للحظات وفكروا، أين تدينكم أمام هذا الفساد السياسي المتعاظم؟ أمام كل هذا الكسل والفساد الذي يسود في تعاملاتنا الاقتصادية وأمام حضور الرشوة ضرورة لقضاء الحاجات؟ أين تدينكم حين يتعلق الأمر بنصرة الضعفاء؟
منقول مع بعض التدخل الذى لايخل بالمضمون