كلمة اقرأ كلمة ممجدة منذ الأزل، لاسيما وأنها أول ما أنزل على الحبيب المصطفى من عند الله جل ثناؤه، إنها سنة إلهية أدركها غير المسلمين وأغفلها المسلمون، لتتحول إلى مجرد حبر على ورق، إلى كلمة يُتَباهى بها أكثر من كونها نسقًا يختزل المعرفة والرقي الفكري والأخلاقي، لقد أصبحت موضة مهمشة!
ففي الوقت الذي أثنى فيه المتنبي على الكتاب، وقال في بيته الشهير: أعز مكان في الدنا سرج سابح.. وخير جليس في الزمان كتاب، وكرمه الجاحظ الذي عده ذلك الجليس الذي لا يطري، والصديق الذي لا يغري، يطيل الإمتاع ويجحد الطباع. صرنا لا نرى إلا وسائل المعلومات جليسة، طاغية يعزها المرء أكثر من كيانه، ولا أحد منا يشكك في هذا الأمر.
إن وضع القراءة في العالم العربي يسير إلى الأسوأ، بحيث إن متوسط القراءة في البلدان العربية يوازي ست دقائق للفرد في السنة، نعم ست دقائق! ناهيك عن جمود طباعة الناشر العربي للكتب خوفًا من حصول فائض يعجزه أن يجد مشتريها.
فما الشيء الذي يقتل فينا حب القراءة، واستنشاق عبير الأفكار، والغوص في أعماق الآداب والعلوم لتحصيل ما ينمي ملكتنا اللغوية، والفكرية، والإبداعية؟ كيف لأمة اقرأ ألا تقرأ؟
كل ما في الأمر أننا أشغلنا أنفسنا بأمور أقل أهمية، وحجزنا للتفاهات أولى المقاعد وأعلاها، فتدنت لهفة المطالعة، وجوع البحث عن المعلومة، وشغف التعبير، لقد أصبنا بتخمة وسائل التواصل الاجتماعية، التي أخذت النصيب الأكبر من وقتنا، إن لم نقل الوقت بأسره؛ فلم يبق للقراءة مكان، ويا أسفاه !
فكيف نجعل للقراءة مكانًا في حياتنا؟ أو بالأحرى كيف نجعلها أسلوبًا حياتيًّا لا استغناء عنه؟ الجواب جد بسيط، فمثلما نخصص وقتًا للنوم، والأكل، والشراب وغير ذلك، يمكن أن نجعل للقراءة مكانًا في تلك المساحة، نجعلها عادة يومية.
فالعديد منا يتخذ قلة الوقت المتاح أو انعدامه ذريعة يختبئ وراءها، ويدلل بها عدم قراءته، مع العلم أن الذين يقرأون يمتلكون أيضًا 24 ساعة لا أقل ولا أكثر. فإذا أحببنا القراءة وعشقناها، جعلنا لها حيزًا في حياتنا رغم كل شيء.
إن القراءة وحدها الكفيلة بأن تجعلك تعيش حياة غير حياتك، وتنتقل إلى أماكن لم تزرها قط، وبها يتحول شعورك إلى شعورين، وحلمك إلى أحلام.
فابحث عن ساعتك الذهبية في مجمل ساعات يومك، وحين تجدها فعليك أن تحيطها بسياج من التقديس، وأن تمنع المشاغل والصوارف من الاستيلاء عليها، اجعلها للقراءة ولا شيء غير القراءة.
فحين سئل الفيلسوف الفرنسي «ڤولتير» عمن سيقود الجنس البشري أجاب: الذين يعرفون كيف يقرأون. ثم إن التكاسل عن ممارسة القراءة تجعل القارئ بعدها يحتاج إلى جهد كبير ووقت أطول ليعود إليها.
فمن علامات زيادة سرعة القراءة سلامة النظر، والقراءة بصوت منخفض؛ لأنها أكثر تثبيتًا للمعاني، وأفضل للفهم، إضافة إلى توسيع مجال النظر، أي أن يلتقط عدة كلمات بنظرة واحدة، وأهم شيء أن يهرب القارئ مع الكاتب، وأن يسافر صحبته، وأن يكون مستمتعًا بذلك الكتاب الذي يقرأ.
وكما أن لكل رسام طريقته في خلط الألوان وإمساك الفرشاة، وتحريكها على اللوحة، ولكل لاعب طريقته في مسك المضرب وضرب الكرة، فلكل قارئ كذلك طريقته التي تميزه في القراءة.
وخير القراء من يكرس القراءة لاكتساب أفكار جديدة إلى أفكار سابقة لديه، ليرى الأمور من زوايا جديدة وآفاق أكثر رحابة، ليس كمن يستعجل القراءة بحثًا عن زلات الكاتب، والأسوأ من يستسلم للأفكار التي تختزلها السطور، دون أن يدرك أن الكاتب ليس سوى كائن بشري معرض للنقص والخطأ، فقد يعبر هذا الكاتب عن رؤية محدودة، أو مشوهة، أو ناقصة؛ فيكون هذا القارئ عاجزًا عن المناقشة ونقد الكتاب.
صفوة الكلام، أن اقتران لفظة «اقرأ» بقوله تعالى «وربك الأكرم» في سورة العلق، دليل على أن القراء هم من سينالون كرم الله – عز وجل- في الدنيا، وهم من سيعلي شأنهم؛ فهذه سنة كونية أجراها الله في خلقه. ألا ترغب أن تكون منهم؟
فالعلم هدف وغاية، وبالقراءة يسعى الإنسان إليه ليزيل عن نفسه صفة الجهل التي ولد عليها، كما أن العلم يدفع إلى الخلق، والإبداع، والتفكر، والتدبر، وكل هذا يبني حضارة وينشئ أمة.