طلاءٌ حديث على جدران «مسجد النور» بمدينة كريستشيرش في نيوزيلندا، وسجادةٌ جديدة مفروشة على أرضيته، فيما اختفت آثار بقع الدماء والثقوب التي أحدثها إطلاق النار يوم 15 مارس (آذار)؛ ما أسفر عن مقتل 51 مصليًا.
ظاهريًا زال الأثر الملموس لأسوأ حادثِ إطلاقِ نارٍ جماعيّ في تاريخ نيوزيلندا، لكن الأثر النفسي العالق بالأرواح لا يزال طازجًا مثل طلاء جدران المسجد. و«لا يمكن التظاهر بأن رمضان (هذا العام) سيكون مثل سابقيه»، تحت وطأة الحزن الهائل الذي يخيم على قلوب المجتمع المسلم، كما يقول المتحدث باسم المسجد.
بدأ الناجون يعودون إلى المسجد تباعًا، «ترى بعضهم يستند إلى عكازين، وأحدهم يربط ذراعه أو يعلقها في رقبته، وآخر يجلس على كرسي متحرك». ولا غروَ أن يجد المجتمع المسلم صعوبةُ في نسيان ما حدث، ناهيك عن ذوي الضحايا الذين اكتوت قلوبهم بلوعة الفراق.
«تحطّم الشعور بالأمن. والشفاء يستغرق بعض الوقت. واستعادة الشعور بالأمان تستغرق وقتًا». لكن روح شهر رمضان قد تتيح للمجتمع المسلم البالغ عدده 50 ألفًا في نيوزيلندا فرصة للتجمع والشفاء، تمهيدًا لاستعادة الحياة الطبيعية.
إلغاء فعاليات وتجمعات رمضانية
كان «اتحاد الجمعيات الإسلامية في نيوزيلندا (FIANZ)» يخطط لإطلاق فعالية «اليوم المفتوح» في مساجد نيوزيلندا أواخر شعبان؛ بادرة شكر على الدعم الذي تلقاه المسلمون من المجتمع الأوسع بعد المذبحة، لولا أنه اضطر إلى إلغاء خططه؛ لتخفيف الضغط على الشرطة مع اقتراب «يوم أنزاك الوطني».
تعليقًا على هذا القرار، قال المتحدث باسم اتحاد الجمعيات الإسلامية في نيوزيلندا الدكتور أنور غني: «أود أن أعرب عن امتناننا العميق للأمة بأسرها لتعاطفها ودعمها خلال هذه الفترة الصعبة. نتطلع إلى الترحيب (بالزوار) في مساجدنا حالما يكون ذلك مناسبًا».
قد تلغي القيادات المسلمة أيضًا أربعة تجمعات رمضانية كبيرة في كريستشيرش بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة، بحسب تقرير سيسيل ماير في موقع «ستاف» النيوزيلندي.
من المحتمل أيضًا أن تعدل الجالية المسلمة في كانتربري برنامجها الرمضاني هذا العام، بسبب المخاوف الأمنية بشأن التجمعات الكبيرة التي تضم أكثر من 500 شخص، حسبما أكده مفتش شرطة كانتربري، هيرون وارتيني.
لا يزال العديد من المسلمين في كريستشيرش يشعرون بالخوف من المشاركة في التجمعات الكبيرة. لذلك يقول إبراهيم عبد الحليم، إمام «مسجد لينوود»: «لا نريد المخاطرة بأطفالنا. هناك أسر توفيت أو أصيبت بالصدمة والخوف. من الصعب للغاية هذا العام أن نفعل الشيء ذاته مثلما كنا نفعل من قبل. أنا حزين للغاية».
في كل مساء خلال شهر رمضان، كان «مسجد لينوود» يمتلئ بالمصلين في صلاة الجمعة، لكن هذا العام يتوقع عبد الحليم تقلُّص العدد إلى النصف تقريبًا. ويردف: «يعتقد الناس أنه لا يوجد ما يكفي من الأمن لجميع المسلمين. منطقة لينوود غير آمنة في الليل».
استجابة لهذه المخاوف، أنشأت قيادات المجتمع المسلم مجموعة صغيرة من الأشخاص لاصطحاب الأسر الخائفة من الذهاب إلى المسجد. «سنزور الناس في منازلهم، ونمنحهم التعاطف والتضامن».
الصلاة في حراسة الشرطة المسلحة
يشكل المسلمون حوالي 1% من سكان نيوزيلندا البالغ عددهم 4.8 مليون نسمة، ولديهم حوالي 60 مسجدًا ومركزًا إسلاميًا، قالت الشرطة إنها ستعزز تأمينها خلال رمضان.
لم تكشف السلطات عن تفاصيل تدابير السلامة التي ستتخذها؛ ما يُقلِق البعض، مثل أديب سامي (52 عامًا) أحد الناجين من المذبحة، وهو مواطن نيوزيلندي من أصل عراقي، الذي يقول: «لا تخبرنا الشرطة بما يحدث، الأمر الذي يثير القلق. يجب أن تقدم لنا الشرطة معلومات حتى نشعر بمزيد من الأمان».
لكن القيادات المسلمة تؤكد أن الجهات الأمنية طمأنتهم بأن الضباط المسلحين سيحرسون المساجد في ربوع البلاد كل مساء حتى نهاية الشهر. ويتحدثون عن اجتماعات عُقِدَت بين القيادات المسلمة والشرطة والحراس المسلحين، وترتيبات لتكثيف فحص الحقائب، حسبما صرَّح شفيق الرحمن، إمام «مسجد بيت المقيت» في جنوب أوكلاند.
كانت الشرطة تحرس كافة المساجد في أنحاء نيوزيلندا بعد هجمات 15 مارس، لكنها استمرت فقط في مواقع كريستشيرش بعد خفض مستوى الإرهاب من «عالٍ» إلى «متوسط» في 17 أبريل .
يتمنى شفيق «أن يشعر المصلون بأمان أكبر مع وجود الشرطة المسلحة عند بوابات المسجد؛ حتى يمكنهم التركيز أكثر في الصلاة»، حسبما نقلته صحيفة «نيوزيلاند هيرالد»
كاميرات أمنية وأجهزة إنذار بآلاف الدولارات
يسحب رئيس «جمعية كولورادو سبرينجز» الإسلامية، كامل الوزير، هاتفه ويفتح تطبيقًا متصلًا بعدة كاميرات مراقبة حول مقر المركز، ويقول: «إنه أمر مزعج حقًا، ولكنه جزء من حياتنا. يجب أن نكون مستعدين في حالة الطوارئ». ويتابع بالقول: «إذا كانت هناك أي حركة مريبة في منتصف الليل أو خلال أوقات غير معتادة، فسوف نعرف بهذه الطريقة على الأقل. كما يقف بعض الأشخاص خارج المبنى أثناء الصلاة للتأمين».
بعد الهجوم وضعت قيادة الجالية المسلمة في نيوزيلندا خططًا تبلغ تكلفتها آلاف الدولارات لتثبيت كاميرات أمنية جديدة وأبواب خروج وإضاءة وأجهزة الإنذار، لضمان سلامة المصلين.
يقود هذه الجهود الأمنية رائد الجيش النيوزيلندي السابق، عبد اللطيف سميث، الذي كان يعمل مع الشرطة والمتطوعين لتقييم الأمن في أكثر من 40 موقعًا، وهو يؤكد فحص جميع الأبنية ونقاط الإخلاء ومخارج الطوارئ والمداخل والإضاءة والنوافذ.
لكن تلك التدابير لن تكون رخيصة، خاصة وأن المركز الإسلامي يعتمد على التبرعات. ويعرب سميث عن أمله في أن تساعد الحكومة في تغطية التكاليف الأمنية، إلى جانب التبرعات، وفق ما نقله «ردايو نيوزيلندا».
تبلغ تكلفة التغييرات المطلوب إدخالها على أنظمة الأمن في بعض المواقع الكبيرة قرابة 10 آلاف إلى 15 ألف دولار كحد أدنى، و3 آلاف دولار للتقيمات الأمنية. أما المواقع الأصغر فيرجح أن تكلف ما بين 5 آلاف و10 آلاف دولار للتغيرات الأمنية وما يصل إلى ألفي دولار للتقييمات.
إذا سار كل شيء كما هو مخطط له، فستكون بعض الأنظمة الجديدة جاهزة بحلول نهاية شهر رمضان. هذا ليس مبكرًا بما يكفي، لكن هذه التدابير لا تساعد فقط على تأمين المساجد والمراكز، بل تسهم أيضًا في تمهيد المجتمع نفسيًا لتقبُّل تقليص تواجد الشرطة في المستقبل.
وكما يؤكد السيد سميث «نحن لا ننشئ قلاعًا أو حصونًا، فنحن منفتحون طوال الوقت. نحن نشجع الناس على المجيء وقضاء بعض الوقت معنا».
«لن ننسى.. لكننا لن نتراجع»
لكن مساجد أخرى في أنحاء نيوزيلندا، بما في ذلك «مسجد النور» في كريستشيرش، تتوقع أعدادًا أكبر من المعتاد خلال الشهر، مع استمرار التجمعات المعتادة، وإن كانت تحت حماية الشرطة المسلحة هذه المرة. ويوضح المتحدث باسم «مسجد النور»، أن الناس ربما يكونون أكثر خوفًا من الذهاب إلى «مسجد لينوود»؛ لأنه مبنى أصغر، ويتواجد في حي يُعتقد أنه أقل أمانًا في الليل.
ويتوقع إمام «مسجد النور»، جمال فودة، تدفق عدد أكبر من المصلين هذا العام. ورغم خوف بعض الناس من الذهاب إلى المسجد، فإنه يؤكد أن أعداد الحضور في صلاة الجمعة كانت كبيرة. ويضيف: «آمل أن توفر الشرطة حماية قوية للمساجد في نيوزيلندا. الناس في كريستشيرش لا يشعرون بالأمان، لذلك تحتاج الشرطة إلى تقديم دعم قوي للمجتمع لطمأنتهم آمل أن يقضي الناس وقتًا سعيدًا، وأن يتخلصوا من التوتر والصدمة».
«بالنسبة لكثير من الناس، فإن ما حدث في كريستشيرش.. شيء لن ننساه أبدًا، لكنه لن يغير الطريقة التي نفعل بها الشيء، لن يمنعنا من التعبد في هذا الشهر كما اعتدنا دائمًا»، على حد قول رئيس اتحاد الجمعيات الإسلامية
الجانب المشرق.. زيادة الاهتمام بالإسلام
هناك أيضًا زيادة في الاهتمام بالإسلام، وزيادة في عدد الزوار من جميع أنحاء العالم؛ لذا فمن المتوقع أن تكون أعداد مرتادي المساجد أعلى من المعتاد هذا العام، كما يؤكد المتحدث باسم اتحاد الجمعيات الإسلامية الدكتور أنور غني.
وبالفعل شهد مسجد كيلبيرني في ولينجتون خلال الفترة الأخيرة زيادة في عدد الزوار المحليين والأجانب، من المسلمين وغير المسلمين، كما يرصد سلطان إيوسوف، الرئيس التنفيذي لاتحاد الجمعيات الإسلامية في نيوزيلند.
أثارت الهجمات اهتمام المزيد من الناس حول الإسلام، بينما أراد آخرون التفاعل لإظهار تضامنهم مع المسلمين. لذلك يستضيف «مسجد الأحمدية» الواقع في جنوب أوكلاند تجربة «إفطار» لغير المسلمين في رمضان يوم 18 مايو (أيار) الحالي.
ويجتمع ما يصل إلى 400 شخص كل ليلة سبت خلال شهر رمضان المبارك في كريستشيرش لحضور إفطار جماعي. ويقول الإمام شفيق الرحمن: «عادة ما يكون لدينا من 100 إلى 150 شخصًا، لكن لدينا هذا العام بالفعل 200 شخص، وهذا كل ما يمكن أن تستوعبه قاعة المسجد».
السياحة الرمضانية.. فرصة للتعافي؟
بينما تصل ساعات النهار في أوروبا والشرق الأوسط إلى 16 ساعة، يصوم المسلمون في نيوزيلندا 10 ساعات فقط؛ ما يمنح هذا البلد فرصة لتسويق نفسه للسياح المسلمين خلال هذا الوقت من العام، خاصة في أوساط الأثرياء الذين يتطلعون إلى السفر إلى وجهات مريحة، حسبما يقترح زين علي، أستاذ الدراسات الدينية بجامعة أوكلاند.
«يفكر السائحون فيما إذا كانت الوجهة التي يقصدونها ستوفر لهم الأطعمة الحلال، وتقدم لهم طعام السحور قبل شروق الشمس، وسيستقبلون فيها بود ويشعرون أنهم مُرَحَّب بهم. ستحتاج نيوزيلندا إلى معالجة هذه القضايا للتنافس مع الوجهات الشعبية، مثل ماليزيا، ودبي، التي تضم أغلبية مسلمة».
ورغم عدم وجود خطط رسمية حالية لجذب السياح المسلمين إلى البلد الذي يحاول التعافي من أثر المذبحة، يشير المسؤولون إلى «وجود مجتمع إسلامي محلي نابض بالحياة، لديه تاريخ من الترحيب بالآخرين، والعديد من الخيارات التي توفرها المطاعم الحلال».
كما أصبح الوصول إلى أوكلاند أكثر سهولة للمسافرين القادمين من الشرق الأوسط والمناطق الأخرى ذات الأغلبية المسلمة المطلة على المحيط الهادئ بفضل الخدمات الجوية التي توافرت مؤخرًا، بحسب موقع «ستاف» النيوزلندي.
لكن المحامي عمر قدوس يشك في أن المسلمين سوف يتدفقون على نيوزيلندا خلال رمضان؛ ليس خوفًا من الوضع الأمني – وإن كان ذلك يؤخذ في الاعتبار – ولكن لأنه «ليس مجرد شهر للصيام وتناول الطعام بعد غروب الشمس، بل وقت للتأمل والصلاة وقضاء الوقت مع العائلة».
صحيح أن نيوزيلندا قد تكون جذابة للمسلمين، حيث لا يتجاوز عمر النهار لدينا 10 ساعات، لكني لا أعتقد أن الكثيرين سوف يتدفقون هنا من جميع أنحاء العالم. لكن إذا قرر المسلمون القدوم إلى نيوزيلندا خلال الشهر الكريم، سيجدون أن البلد قد أبلت بلاء حسنًا بتوفير الخيارات الحلال.
لا تقتصر الأطعمة الحلال على المطاعم التي يملكها المسلمون ويديرونها، بل أصبحت المطاعم العامة هي الأخرى تلبي احتياجات الحلال؛ سعيًا وراء حصة من الـمليارات التي تضخ سنويًا في قطاع السياحة الحلال حول العالم، ويتوقع أن تبلغ 220 مليارًا بحلول عام 2020، وقد تصل إلى 300 مليار دولار خلال العد المقبل.
يشكل المسلمون اليوم أحد أسرع الشرائح السكانية نموًا في صناعة السفر العالمية، بحسب تقرير ديربا كامين في «نيويورك تايمز»، فقد زاد عدد المسافرين المسلمين بنسبة 30% تقريبًا منذ عام 2016، من 121 مليونًا إلى 156 مليونًا.