بين المشير طنطاوى والجنرال قايد صالح تشابهت المسارات فهل تتشابه النتائج ؟

تقرير من أعداد عبدالله كمال

تدخل الحركة الاحتجاجيّة الواسعة التي تشهدها الجزائر أسبوعها الثامن، ورغم استقالة الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة في الثاني من أبريل (نيسان) الماضي بعد بيان من الجيش الجزائري، إلاّ أن الاحتجاجات لم تهدأ، وقد شهدت الجمعة الماضية، الخامس من أبريل تواصل توافد مئات الآلاف من المواطنين إلى العاصمة الجزائر لمواصلة المظاهرات احتجاجًا على الحكومة الحاليّة التي عيّنها بوتفليقة قبل رحيله.

دخول الجيش الجزائري على الساحة ممثّلًا في قائد أركانه الفريق أحمد قايد صالح أعاد إلى أذهان الكثيرين تفاصيل الثورة المصرية التي أطاحت الرئيس مبارك سنة 2011، واستلام المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة للسلطة خلال المرحلة الانتقاليّة التي سبقت وصول الرئيس مرسي للرئاسة. التشابهات بين الأوضاع في الجزائر ومصر لا تنتهي، بداية بـ«بخطاب التنحّي» شبه المتطابق بين بوتفليقة ومبارك، وصولًا إلى دخول الجيش على خطّ الأزمة والحديث عن «انحيازه للشعب» على حدّ تعبير كثيرين.

لكن تتبّع مسار كلّ من قائديْ الجيش في كل من مصر والجزائر قد يكشف لنا عن بعض التباين بين الحالتيْن وانعكاساتها على التعامل المؤسسة العسكرية مع الموجة الاحتجاجيّة الكبيرة التي شهدها البلدان.

حسين طنطاوي وقايد صالح.. قائدا المرحلة الانتقالية

تمامًا مثل المشير طنطاوي خلال المرحلة الانتقاليّة التي أعقبت رحيل مبارك عن السلطة سنة 2011، من المرجّح أن يكون قائد أركان الجيش الجزائري الفريق قايد صالح صاحب النفوذ الأكبر خلال المرحلة الانتقالية الحالية؛ بعد استقالة الرئيس بوتفليقة، والتي من المفترض أن لا تتجاوز 90 يومًا، حسبما ينصّ عليه الدستور الجزائري، الذي يؤكّد قايد صالح تمسّكه به.

يتشابه مشوار الرجليْن في مشاركتهما في حروب بلديْهما منذ سنّ حديثة، ثم تدرّجهما في سلّم المسؤوليّات العسكريّة، إذ شارك المشير طنطاوي خلال مسيرته في حروب سنة 1956 و1967 و1973، بينما شارك قايد صالح في من حرب التحرير سنة 1957 حين التحق بجيش التحرير الوطني وعمره 17 سنة.

وتتجاوز الفروقات بين الحالتيْن المصريّة والجزائريّة مجرّد شخصيّتي الجنرالين طنطاوي وقايد صالح؛ إلى التركيبة البشريّة للقيادة العسكرية في البلدين، ففي الحالة المصرية نجد أن المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة كان يتكوّن من شخصيّات عسكريّة لها هامش من الاستقلاليّة والتفرّد داخل المجلس. كما ظهر فيما بعد أن للكثير من أعضاء المجلس طموحات سياسيّة حقيقيّة، مثلما بدا ذلك مع الرئيس عبدالفتاح السيسي الذي وصل إلى كرسي الرئاسة سنة 2014 بعد الإطاحة بالرئيس مرسي بثورة، بالإضافة إلى سامي عنان الذي أعلن ترشّحه للرئاسة سنة 2018 ليودع السجن فيما بعد.

بينما في الحالة الجزائريّة، فإن الفارق الرئيسي أنّ الحدث المفصليّ الذي سبق الحراك الشعبي كان حملة الإقالات القويّة التي شنّها قايد صالح داخل المؤسّسة العسكرية، والتي وُصفت بأنها الأكبر منذ الاستقلال، والتي شهدت تغيير عدّة قيادات للنواحي العسكرية بالإضافة إلى قادة القوّات البرية والبحريّة وعدّة مسؤولين سامين آخرين، وهو ما يعني تحكّم قايد صالح في هذه المجموعة العسكرية التي تدين له بالولاء بحُكم أنّه كان السبب في وصولهم إلى مناصبهم الجديدة.

مع اختلاف السياقات السياسيّة للبلديْن، يمكن القول بأن قايد صالح يبدو في وضعيّة أفضل، من تلك التي دخل بها طنطاوي والمجلس العسكريّ المرحلة الانتقاليّة بعد رحيل مبارك؛ ففي حين آثر الجيش الجزائري الحياد على أرض الواقع إلى حدّ كبير خلال الموجة الاحتجاجيّة، هنالك شواهد قويّة على أنّ قوّات الجيش المصري أثناء أيّام الثورة المصريّة واعتصام ميدان التحرير كانت لها تدخّلات ميدانيّة ضد الثورة، إذ تورّطت المخابرات العسكرية -بقيادة عبدالفتاح السيسي وقتها- في قضيّة «كشوف العذرية» حين جرى القبض على ناشطات ومتظاهرات من قبل الجيش، وضربهنّ وإجبارهنّ على الكشف قسرًا من طرف أطبّاء تابعين للقوّات المسلّحة

المشير محمد حسين طنطاوي

كما أنّ هنالك بعض المتظاهرين في ميدان التحرير أكّدوا حينها أن عناصر من الجيش كانت تمدّ الشرطة المصريّة بالذخيرة والوسائل اللوجيستيّة من أجل قمع المتظاهرين، وهو ما وثّقه حينها المدوّن المصري مايكل نبيل، الذي اعتقل بسبب تدوينة له عنونها بـ«الجيش والشعب عمرهم ما كانوا إيد واحدة»، والتي حكى فيها تفاصيل تورّط الجيش المصريّ في بدايات الثورة؛ في قمع المتظاهرين ومساندة للشرطة، واتخاذه عدّة إجراءات في محاولة وأد المسيرات الشعبيّة، عكس ما جرى تسويقه فيما بعد بأنّ «الجيش انحاز للثورة». هذه الفروقات بين توجّه الثورة المصرية ومطالب نشطائها، مقابل تعنّت المجلس العسكري أدّى إلى سقوط العديد من الضحايا برصاص الشرطة العسكريّة خلال المرحلة الانتقاليّة التي دامت لسنة ونصف.

في الحالة الجزائريّة، تبدو لحدّ الآن الصورة مختلفة، إذ لم تدخل مدرّعات الجيش الجزائري وعناصره البشريّة العاصمة، وبقي إلى حدّ كبير بعيدًا عن مراكز المدن وتجنّب الاحتكاك التام مع المتظاهرين، ما عدا بعض الحواجز الأمنية من طرف الشرطة العسكرية (الدرك) على حدود العاصمة الجزائر، قصد عرقلة تدفّق السيارات إلى العاصمة، لكن ذلك لم يؤدّ إلى أيّة اشتباكات عنيفة أو وقوع إصابات، وبالتالي فإن قوّات الجيش الجزائري بقيت إلى حدّ كبير بعيدة تمامًا عن مشهد الحراك الشعبيّ، إذ بقي التفاعل الوحيد بين المؤسسة العسكرية والحراك من خلال بيانات قائد الأركان الفريق أحمد قايد صالح.

ثنائيّة الولاء والاستقلاليّة.. كيف أبعد مبارك وبوتفليقة الجيش عن السياسة؟

في دراسة للباحث محمّد حسن بعنوان «الدولة والشعب في تصوّر الجيش المصري»، يرى أنّه بعد سنة 1991 سعى الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك إلى استراتيجيّة لتحييد الجيش عن الحياة السياسيّة؛ من خلال ما يسمّى بـ«بدل الولاء»، وهو مقابل ماديّ يحصل عليه كبار الضباط عند التقاعد، بالإضافة إلى امتيازات ماديّة أخرى قصد عزلهم عن الواقع الاجتماعي والسياسي المصري. ويرى الباحث أنّ عهد المشير طنطاوي تميّز بتمركز المكاسب لدى فئة قليلة من أصحاب الرتب العليا بالإضافة إلى المساعدات العسكرية الأمريكية التي يعتبرها بعض الباحثين -حسب الدراسة- «هبة لكبار الضباط».

احتجاجات ضد المجلس العسكري خلال المرحلة الانتقالية في مصر

ويضيف الباحث أنّ طنطاوي كان بالفعل أقوى رجل داخل الجيش المصري، رغم بعده التام عن الحياة السياسية وترك شؤونها للرئيس مقابل تمتّع طبقة الضباط بامتيازات مُجزية عن باقي طبقات المجتمع، في حين تبقى صورة الجيش بسبب هذه العزلة؛ محفوظة لدى الجماهير وبعيدة عن التجاذبات السياسية التي قد تؤثر على شعبيّته.

هنالك الكثير من التشابهات بين هذه الاستراتيجيّة التي اتبعها مبارك؛ وتلك التي نظر من خلالها بوتفليقة إلى دور الجيش عند قدومه إلى الحكم سنة 1999، إذ كان منذ البداية صريحًا في رفضه لأيّة هيمنة من طرف الجنرالات على الحياة السياسيّة مثلما فعلوا مع الرؤساء قبله، ولم يجد أفضل من الفريق أحمد قايد صالح من أجل تفعيل هذه الاستراتيجية، إذ إن التحالف الذي جرى بين الرجلين سمح لقايد صالح في الصعود على سلّم الترتيب العسكري؛ ليصل إلى قيادة أركان الجيش من أجل تحييد الحرس القديم المتمثّل في جنرالات التسعينيّات الذين كانوا يتحكّمون في القرار السياسي طوال سنوات «العشريّة السوداء». وبموجب هذا الاتفاق، يحصل الجيش على ميزانيّة سنويّة سخيّة، قدّرت بـ25% من الموازنة العامة للدولة سنة 2018، بالإضافة إلى مزايا ماديّة كثيرة يحصل عليها كبار الضبّاط، خصوصًا أنّ الكثير منهم يتوجّه إلى المجال الصناعي والتجاري، ويحصلون على تسهيلات في هذه الميادين بحكم العلاقات التي يمتلكونها داخل دواليب السلطة.

لكن في المقابل جرى منعهم قانونيًّا من الحديث في الشؤون العسكريّة حتى بعد تقاعدهم، وذلك بعد أن أصبحت تصريحات بعض الجنرالات المتقاعدين تمثّل مصدر إزعاج للسلطة السياسيّة، من بينهم الجنرال بن حديد الذي انتقد أكثر من مرّة نظام الرئيس بوتفليقة.

هذا التحالف بين كل من مبارك / طنطاوي في التجربة المصرية، وبوتفليقة / قايد صالح في التجربة الجزائريّة لم يعكّر صفوه سوى دخول طرف مدنيّ ثالث، تمثّل في جمال مبارك وسعيد بوتفليقة، وأتباعهما من «أوليغارشية» الأثرياء الجدد، وأدّى في النهاية إلى «انقلاب» الجنراليْن على الاتفاق السابق والدفع لإزاحة الرئيسيْن مستغلّين الاحتجاجات الشعبيّة العارمة.

وبالتالي يمكن وصف الموقع الذي شغله كلّ من طنطاوي وقايد صالح، قبل الاحتجاجات التي أطاحت برأسيْ النظاميْن؛ بأنها «وظيفة الأحلام»، إذ يتمتّع الرجلان رفقة طبقة الضبّاط السامين داخل الجيش بعائدات سخيّة شرط الولاء المطلق للرئيس والابتعاد عن الشؤون السياسية المباشرة. وفي المقابل، تتجنّب قيادة الجيش أيّة انتقادات أو محاسبة وتتفادى الصدام مع الفئات الشعبيّة، وتتمتّع بشعبيّة واسعة وانطباع إيجابي لدى عموم الشعب، عكس ما يحدث في الأنظمة التي يحكم فيها الجيش مباشرة، ويكون دائمًا في الواجهة، فيضطرّ لاتخاذ إجراءات سياسيّة قد تألّب الشارع عليه، مثلما حدث في فترة إدارة المجلس العسكري بقيادة طنطاوي للمرحلة الانتقاليّة في مصر.

لعلّ العامل الأبرز الذي قد يصنع الاختلاف بين تجربتيْ الجزائر ومصر؛ ويحدّد دور الجيش الجزائري في المرحلة الانتقاليّة ويصوغ طبيعة علاقته مع الاحتجاجات، هو تجربة العشريّة السوداء الأليمة الذي خسر خلالها الجيش كثيرًا من الجانبيْن الماديّ والمعنويّ، وأثّرت كثيرًا على رمزيّته وشعبيّته لدى الشارع، كما أنّ هنالك شبه اتفاق غير معلن بين جميع الأطراف، سواء داخل الجيش أو في الأوساط الشعبيّة، على ضرورة تجنّب الصدام المباشر والاتجاه إلى العنف. وهو ما قد يفسّر عدم اقتحام الجيش للعاصمة وتجنّبه الاشتباك مع المتظاهرين أو قمعهم، بسبب الذكرى السيّئة التي تركتها مشاهد التسعينيات، عكس ما حصل في التجربة المصريّة.

ورغم ذلك فمن المستبعد حدوث تغييرات عميقة في ميزان القوى السياسي الذي تميل كفّته بصورة كبيرة لصالح الجيش الجزائري في هذه المرحلة، خصوصًا بعد دخول الجيش على خطّ الحراك الشعبي وإزاحته لعائلة بوتفليقة، ولكن عمّا إذا كانت قيادة الجيش في الجزائر ستستفيد من التجربة المصريّة وتتفادى أخطاءها، وعمّا إذا كان لقايد صالح أو محيطه المقرّب داخل المؤسّسة العسكرية، طموحات سياسيّة للوصول إلى السلطة؛ أو حتّى ترشيح شخصيّة مدعومة من الجيش كما حصل خلال فترة التسعينيّات، فإنّ الأيّام القادمة وحدها هي الكفيلة بهذه الأسئلة.

شاهد أيضاً

النمسا – حلول رقمية مبتكرة لتقليل انبعاثات قطاع التنقل

دشنت النمسا برنامجا جديدا للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة في مجال التنقل، يركز على تحقيق …