شهدت الأسابيع الماضية احتجاجاتٍ شعبية حاشدة مستمرة ضد قائدين عربيين يحكمان بلديهما منذ فترةٍ طويلة في شمال إفريقيا. ففي السودان، دفعت ثلاثة أشهر من المظاهرات الرئيس عمر البشير إلى إعلان حالة الطوارئ عاماً كاملاً وحلِّ حكومة الوفاق الوطني وحكومات الولايات سعياً لترسيخ حكمه، وفي الجزائر أيضاً لا تتوقف التظاهرات لرحيل بوتفليفة، أما في مصر فكان التعبير عن الغضب مختلفاً هذه المرة.
وقالت صحيفة The Washington Post الأمريكية إن الشرق الأوسط مرشح لأن يشهد الموجة الثانية من الربيع العربي الذي أطاح بعدد من الحكومات العربية المستبدة عام 2011، بسبب ما يحدث في الجزائر والسودان من تظاهرات تطالب برحيل بوتفليقة أو على الأقل عدم ترشحه، وأيضاً رحيل عمر البشير.
وبحسب الصحيفة الأمريكية فإن البشير رغم الإجراءات القوية التي أقدم عليها بوجه التظاهرات المستمرة ما زال موقفه يزداد ضعفاً على الأرجح. إذ يرى البعض أنَّ نهاية حُكمه القائم منذ ثلاثة عقود تلوح في الأفق. وكتب محمد عثمان وماكس بيراك بصحيفة The Washington Post: «يرى الكثيرون في شوارع السودان قرار البشير الذي اتخذه الأسبوع الماضي خطأً تقليدياً كرَّره زعماء عرب قبل 8 سنوات، وهذا يجعل المتظاهرين متفائلين بأنَّ أيامه في السُلطة صارت معدودة».
أمَّا في الجزائر، فقد تفاقمت الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد على مرِّ الأسبوعين الماضيين، مُطالبةً الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بعدم الترشُّح لولايةٍ رئاسية خامسة في الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في أبريل/نيسان المقبل. يُذكَر أنَّ بوتفليقة بلغ عامه الثاني والثمانين في نهاية الأسبوع الماضي، ويشغل منصب الرئاسة منذ عام 1999. وقد أصيب بجلطةٍ دماغية في عام 2013 جعلته يستخدم كرسياً متحركاً، ولم يتحدث على الملأ منذ سبع سنوات.
وتُُعبِّر الحالة الصحية السيئة لبوتفليقة عن حُكم الشيخوخة المترسخ في الجزائر. فمنذ نيل الجزائر استقلالاً دامياً من فرنسا في عام 1962، لم تتخلَّ جبهة التحرير الوطنية، التي كانت ثوريةً في الماضي، عن السلطة. والآن، بات بوتفليقة المريض على رأس ما يراه المنتقدون نظاماً بالياً يدعمه كبار ضباط الجيش، وأجهزة الاستخبارات، ومجموعة من رجال الأعمال الأثرياء.
كيف نجت الجزائر من الربيع العربي؟
وبحسب الصحيفة الأمريكية، في عام 2011، حين هزَّت الاضطرابات السياسية العالم العربي، ظلَّت حكومة بوتفليقة محتفظةً بمكانها في الوقت الذي سقطت فيه الحكومات الدكتاتورية الأخرى في مصر وجارتيها تونس وليبيا، وذلك بتقديم إعاناتٍ سخية للشعب الجزائري لتهدئة التوترات الاقتصادية، وفقاً لما ذكره بوبي غوش في موقع وكالة Bloomberg. لكنَّ الانخفاض في أسعار النفط العالمية أجبر الحكومة على تقليص إنفاقها الاجتماعي. وأضاف غوش: «بيد أنَّ الذكريات تتلاشى، والمساعدات الحكومية تفقد قيمتها مع مرور الوقت. لذا فبعد ثماني سنوات من الربيع العربي، قد يكون بعض الجزائريين مستعدين لثورة أخرى».
The moment Algerian and Sudanese protesters bumped into each other in London today pic.twitter.com/cmPue5rKz8
— A (@AhmedB100) March 2, 2019
ويُحذِّر بعض المحللين من التسرُّع في إعلان مجيء ربيعٍ عربي جديد، لا سيما وأنَّ الاضطرابات في السودان والجزائر تجري في سياقاتٍ مختلفة. ولكن في دول المغرب العربي والشرق الأوسط، ما زالت ظروف اندلاع اضطراباتٍ أكبر قائمة، بل قد تكون أسوأ.
إذ أشار مارك لينش في مدونةٍ كتبها في صحيفة The Washington Post إلى أنَّ «التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجه كل نظامٍ شرق أوسطي تقريباً في الوقت الراهن أكبر بكثير ممَّا كانت عليه في عام 2011، والعوامل الهيكلية التي تسمح بانتقال العدوى الاحتجاجية ما زالت قوية». وأضاف لينش أنَّ الأحداث التي تشهدها الجزائر والسودان تُعَد جزءاً من «سلسلةٍ أوسع من احتجاجاتٍ شعبية اندلعت في أكثر من ثلث دول المنطقة على مرِّ العامين الماضيين»، من بينها الاحتجاجات الكبرى المناهضة للفساد والمناهضة للحكومة في الأردن والعراق وتونس وإيران، بحسب الصحيفة الأمريكية.
جديرٌ بالذكر أنَّ حكومتي الجزائر والسودان لديهما إرثٌ طويل من القمع. فوفقاً لما لمقال محمد عثمان وماكس بيراك «تقول بعض جماعات حقوق الإنسان إنَّ أكثر من 50 شخصاً قد قُتلوا على أيدي قوات الأمن (السودانية) منذ بدء الاحتجاجات في منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي. واحتُجِز آلاف الأشخاص الآخرين، من بينهم شخصياتٌ بارزة في المعارضة ومحامون وأطباء وصحفيون، إلى أجلٍ غير مسمى في مجموعة من مراكز الاحتجاز التي تديرها أجهزة الاستخبارات السودانية».
أمَّا الحكومة الجزائرية، فقد صوَّرت نفسها طوال عقودٍ زمنية على أنَّها حصنٌ ضد الجماعات الإسلامية المتشددة في شمال إفريقيا. وقد تغاضت الكثير من الدول الغربية عن القصور الديمقراطي في الجزائر وخنقها للمعارضة، بسبب ظهورها على أنَّها مُرسِّخٌ وهمي للاستقرار الإقليمي، وشراكتها في عمليات مكافحة الإرهاب مع الحكومات الأوروبية.
ماذا عن مصر؟
ومنذ ثورات عام 2011، تتحرَّك الأنظمة المَلَكية في شبه الجزيرة العربية -لا سيما في السعودية والإمارات- لقمع الحركات الإسلامية أو المناصرة للديمقراطية في أجزاء مختلفة من العالم العربي، بحجة ضرورة استعادة النظام. وتُقدِّم هذه الأنظمة دعماً مستمراً لبعض الزعماء، مثل البشير.
وبحسب الصحيفة الأمريكية، لكن بغض النظر عن القدرات الواقعية للغاية لدى هذه الأنظمة على سحق المعارضة، فإنَّ بقاءها لم يعد أمراً واقعاً. إذ كتب لينش قائلاً: «مع تزايد التحديات الاقتصادية والديموغرافية، وتجريد المؤسسات السياسية من الشرعية، فإن الأنظمة التي تمارس بالفعل القمع الأقصى لديها لا تملك سوى خيارات قليلة للتصعيد. وحتى إذا لم تنتشر الاحتجاجات بالسهولة نفسها التي انتشرت بها في عام 2011، فهناك دائماً أحداث مثيرة محتملة تلوح في الأفق، مثل موت رئيسٍ مُسِن، أو تعديلات دستورية مثيرة للجدل كما يحدث في مصر، أو تخفيضات يمكن تجنُّبها في الإعانات الحكومية، أو حتى نهاية بعض الحروب الأهلية».
وبالنسبة للوضع في القاهرة لم يكن التظاهر ضد الرئيس عبدالفتاح السيسي فعلياً، لكن ضجت منصات التواصل الاجتماعي بغضب شديد بعد حادثة مروعة وقعت في وسط القاهرة بعدما انفجر قطار في محطة القطارات الرئيسية وخلف أكثر من 20 قتيلاً وعدداً كبيراً من المصابين، بعدها وصلت المطالبات برحيل الرئيس المصري بسبب ما اعتبروه فشلاً كبيراً للسلطة الحاكمة.
المشهد لم يقف في مصر عند هذا الحد، فميدان التحرير مهد الثورة المصرية التي أطاحت بحسني مبارك قبل 8 سنوات شهد واقعة أعادت إلى الأذهان التظاهرات التي خلعت الرئيس الأسبق، إذ أقدم شاب بمفرده على حمل لافتة كتب عليها ارحل يا سيسي، وبعدها بدقائق ألقي القبض عليه، ولكن تبعات هذا الموقف لم تنته حتى الآن.
فعقب ذلك أطلق ناشطون معارضون للسلطات المصرية هاشتاغاً يحمل اسم اطمن_أنت_مش_لوحدكغزا مواقع التواصل الاجتماعي ولجأ المصريون إلى حيلة كتابة هذا الشعار على النقود مما دفع البنك المركزي في البلاد لمنع التعامل بالنقود المدون عليها عبارات مما أثار موجة من السخرية على هذا القرار.
فالأوضاع السياسية في مصر وصلت إلى حالة كبيرة من انسداد الأفق لم تصل لها البلاد من قبل، فيما ما زالت الأوضاع الاقتصادية لم تظهر تحسناً يلمسه الفقراء بعكس ما يظهر في التقارير الاقتصادية الرسمية، مما قد ينذر بتكرار السيناريو الذي حدث عام 2011 مع فارق القبضة الأمنية الكبيرة التي تستخدمها الأجهزة الأمنية المصرية.
حلفاء بوتفليقة يماطلون لكسب الوقت
وبالعودة للجزائر ربما يأمل حلفاء بوتفليقة في كسب مزيدٍ الوقت بينما يستعدون لرحيله في نهاية المطاف. لكنَّ شرعيتهم تواجه تحدياً متمثلاً في جيل شاب غاضب مُحبَط وواعٍ تماماً بعجز بوتفليقة. إذ قال مصطفى بوشاشي، محامي حقوق الإنسان في الجزائر العاصمة لصحيفة The New York Times الأمريكية: «الرئيس غير قادر على إدارة الدولة وتعيين المسؤولين. لم يعد هذا الشخص قادراً على القراءة أو الكتابة. إنَّه رهينةٌ تتحكم فيه عصابة مافيا».
وفي يوم الأحد، بدا أنَّ الضغط الشعبي في الجزائر قد منح المحتجين نوعاً من الانتصار. ففي خطابٍ قرأه مدير حملة بوتفليقة، أكَّد الرئيس الجزائري ترشحه لولايةٍ خامسة في الانتخابات -التي من المرجَّح أن يفوز بها في ظل النظام السياسي الجزائري الذي يفتقر إلى الديمقراطية- لكنَّه أشار إلى أنَّه سيستخدم صلاحياته لقيادة «حوارٍ وطني» من شأنه أن يسفر عن انتخاباتٍ جديدة في العام المقبل لن يشارك فيها.
وقال أندرو ليبوفيتش، وهو خبيرٌ في شؤون شمال إفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: «هذا الخطاب هو رد بوتفليقة الأول على الاحتجاجات، واعترافٌ واضح بأنَّ أسبابها صحيحة». لكنَّه أضاف أنَّ الخطاب «لا يترك مجالاً للمناورة إذا استمرت الاحتجاجات».
وفي السودان، يُحذِّر خبراء من أنَّ البشير ربما يكتشف أنَّ قرار تسليم السلطة مؤقتاً إلى وكلاء عسكريين تابعين له سيؤدي إلى رحيله. إذ قال مجدي الغزولي، المحلل السياسي السوداني، لصحيفة The Washington Post: «الضباط المُكلّفون الآن بإدارة الحكومة هم تقريباً أولئك الذين قد تقلق عادةً من انقلابهم عليك».
وإذا لم يحدث ذلك، فإنَّ المتظاهرين ما زالوا يتعهدون بالعودة إلى الشوارع. إذ قال صلاح شعيب الناطق باسم المنظمة الرئيسية التي تقود الاحتجاجات: «إن الخطوة الأخيرة للبشير ليست سوى محاولة للبقاء في السلطة لتجنُّب المحاكمة على الجرائم التي ارتكبها. سنستمر في الكفاح من أجل التخلص من النظام وإعادة بناء البلاد بمؤسسات ديمقراطية جديدة».