إذا سألك أحدهم عن أسوأ عام مر في تاريخ البشرية، فماذا سيكون تخمينك؟ بالتأكيد عام 1347 كان سيئًا جدًا، فهذا هو العام الذي ضرب فيه «الموت الأسود» أو الطاعون أوروبا بشدة ليقضي على ما بين 75– 200 مليون شخص. ربما سيقول آخرون إن أي عام من أعوام الحرب العالمية الثانية هو الأسوأ، خصوصًا مع ازدياد أعداد القتلى بين عامي 1941 و1945، ووصول إجمالي القتلى إلى 60 مليون شخص أو 3% من سكان العالم آنذاك.
وربما يقول ثالث إنه عام 1918، عام بداية وباء الأنفلونزا الذي أودى بحياة 100 مليون شخص، وهو ما يقارب 5% من إجمالي سكان العالم. هذه الأعوام كانت صعبة بكل تأكيد، هل تعلم ما يعنيه وفاة 5% من سكان العالم، يعني أن من كل 20 شخص حولك، كان هناك احتمال أن يموت أحدهم، وربما أنت. هذه الأعوام بالتأكيد لم يكن أحد ليتمنى أن يحيا فيها أو يمر عليها.
لكن الجديد أن العلماء لم تقنعهم هذه الأعوام الشهيرة في تاريخ الكوارث التي ضربت الأرض. ووجدوا عامًا غير مشهور بين الكثير من الناس، عدوه هو الأسوأ في تاريخ الأرض بالنسبة للأحياء من البشر. كما اتضح لهم، فقد كان أكثر الأعوام سوءًا من كل أعوام تاريخ البشر، والذي ربما لم يخطر ببال معظم الناس، عام 536م.
العام الأسوأ
قال عالم الآثار في جامعة هارفارد ومؤرخ القرون الوسطى مايكل ماكورميك لمجلة «Science» العلمية: إن عام 536 «كان بداية واحدة من أسوأ الفترات التي يمكن أن يتمنى فيها الإنسان أن يكون على قيد الحياة، إن لم يكن هو العام الأسوأ بالفعل». ما جعله يقول هذا هو أنه بعد كل كارثة تضرب الأرض، كان البشر يحتاجون إلى بضع سنوات حتى يستعيدوا عافيتهم وانتعاشهم الاقتصادي من جديد. لكن طبقًا للورقة العلمية التي قدمها ماكورميك وفريقه البحثي، فإنه لم تظهر ملامح الانتعاش الاقتصادي حتى عام 640م، أي بعد مرور أكثر من قرن كامل.
كان عام 536 هو العام العاشر من حكم الإمبراطور البيزنطي جستنيان العظيم، ولم يكن هناك أي شيء يحدث في المجال البشري باستثناء المناوشات العادية المملة بين الناس أو الشعوب والدول. لا أوبئة قاتلة، ولا إبادة جماعية كبيرة بشكل غير عادي، فقط بعض المعارك المعتادة.
لكن فجأة بدأ شيء غريب يحدث في السماء؛ إذ ظهر ضباب غامض ومغبر، حجب الشمس، مما أدى إلى انخفاض درجات الحرارة، لتدخل الأرض في سنوات من الفوضى في كافة أنحاء العالم، مثل الجفاف، ودمار المحاصيل، وهبوط ثلوج في الصيف بالصين، ومجاعة واسعة النطاق. كان الأمر أقرب إلى أفلام الكوارث والخيال العلمي التي نشاهدها في السينما.
وكتب المؤرخ البيزنطي بروكوبيوس: «ما حدث هذا العام كان فزعًا ورعبًا بلا حدود»، لأن الشمس أعطت نورها لكن دون سطوع، مثل القمر، خلال هذا العام كله، وبدت أشبه بالشمس في حالة الكسوف، كما كانت الأشعة التي تسلطها على الأرض غير واضحة، ولا تشبه أيًا مما اعتاد عليه البشر.
وأوضحت السجلات الأيرلندية الغيلية أبرز الأحداث التي وقعت في هذا العام المأساوي، مثل نقص الخبز منذ 536 وحتى 539م، وأوضحت عدد من المصادر المعاصرة المستقلة بعض الظواهر الأخرى، مثل درجات الحرارة المنخفضة، حتى إن الثلوج هطلت في فصل الصيف، إذ سجل المؤرخون هطول الثلوج في شهر أغسطس (آب) في الصين خلال فترة حكم السلالتين الشمالية والجنوبية، مما تسبب في تأخر الحصاد هناك.
دمرت المحاصيل الزراعية على نطاق واسع في معظم أنحاء العالم. وانتشر ضباب كثيف وجاف في الشرق الأوسط والصين وأوروبا، وفي بيرو، أثر الجفاف الكبير على حضارة «موتشي» وتسبب في انهيارها؛ فقد أكد بعض العلماء على دور التغيرات البيئية في ذلك. وتكشف الدراسات التي أجريت على العينات الجليدية من الأنهار الجليدية في جبال الأنديز الأحداث المناخية القاسية بين عامي 536 و594م. ويعتقد العلماء أنه ربما شهدت المنطقة 30 عامًا من الأمطار الغزيرة والفيضانات التي أعقبتها 30 عامًا من الجفاف. من الممكن أن هذه الأحداث المناخية عطلت طريقة حياة شعب «موتشي» وحطمت إيمانهم بدينهم، الذي كان قد وعد باستقرار الطقس من خلال التضحيات.
كيف حدث هذا؟
هناك أدلة تشير إلى أن انفجارات بركانية على مستوى ضخم وكارثي. هذه الأدلة لم تظهر فقط من العينات المأخوذةمن الغطاء الجليدي للقارة القطبية الجنوبية أو من حلقات الأشجار بمنطقة جرينلاند، ولكن ما ظهر من آثار لاحقة لأحداث البركانية تالية، والتي تسببت أيضًا في حدوث تبريد عالمي على المدى القصير ومجاعة مدمرة. الآن، قدم تحليل جليدي جديد مفصل لمجرى نهر جلييفتي الجليدي على الحدود بين سويسرا وإيطاليا، معلومات جديدة حول هذه الفترة الأكثر سوءًا في تاريخ البشرية والتي غرق فيه العالم لـ100 عام تالية.
العينات اللبية الجليدية» هي تلك العينات التي تؤخذ من غلاف جليدي معين حدث فيه تراكمات لتساقط الثلج لسنوات طويلة، مما جعل الجزء السفلي أكثر قدمًا من الجزء العلوي، وهو ما يعطي صورة جيولوجية جيدة، تشبه تلك التي يراها العلماء في طبقات الأرض. تعد هذه العينات موردًا أثريًا رائعًا، إذ إن تساقطات الجليد الدائمة تتراكم تدريجيًّا، من خلال تساقط الثلوج السنوي. هذا يعني أنه يمكنك العثور على وديعة الجليد لأي سنة معينة، وإلقاء نظرة على ما كان يحدث في الغلاف الجوي.
ثورانات بركانية تالية أزّمت الأمور
في عام 536م، اختلط الرماد والحطام البركاني – المسمى «تيفرا»- بالطبقة الجليدية لهذا العام، مما يشير إلى حدث بركاني كبير شهدته الأرض. وأظهرت العينات الجليدية في جرينلاند والقطب الجنوبي دليلًا على وقوع ثوران بركاني كبير آخر عام 540م، والذي كان من شأنه إطالة أمد البؤس والمعاناة على الكوكب.
ثم في عام 541، ظهر وباء جستينيان: وهو وباء الطاعون الذي ضرب الإمبراطورية الرومانية الشرقية أو الإمبراطورية البيزنطية، بما في ذلك العاصمة القسطنطينية، في السنوات 541 و542 الميلادي، والسبب الأكثر ترجيحًا عند المؤرخين هو مرض الطاعون الدملي، والذي سيتسبب في وباء آخر سيسبب الموت الأسود في القرن الرابع عشر، وأطلق المؤرخون المعاصرون على هذا الوباء اسم «الإمبراطور جستنيان الأول»، الذي كان يحكم الإمبراطورية البيزنطية أثناء حدوث الطاعون.
أخيرًا بدأت الأمور تتحسن
من هنا سار كل شيء من سيئ لأسوأ على كوكب الأرض. ولكن في حوالي عام 640م، لاحظ الفريق وجود علامة على حدوث التجديد في الجليد: الرصاص. نعم، فرغم أن حدوث تلوث بالرصاص هو ليس أفضل شيء على الإطلاق، لكن وجود تلوث بالرصاص في الطبقات الجليدية في صورة التلوث الرئيسي الموجود على الأرض، كان يعني أن البشر قد بدأوا في استخراج الفضة وصهرها من الرصاص الخام، ثم كان هناك ارتفاع آخر في نسب الرصاص عام 660م، وآخر في 695م. كان البشر يستخرجون العملات الفضية في ذلك الوقت، دليلًا على تنامي النشاط الاقتصادي.
وذكر الباحثون: «هذا يدل بشكل لا لبس فيه، جنبًا إلى جنب مع أي بقايا الذهب الروماني والمعادن المستوردة، أن عمليات التعدين الجديدة سهلت إنتاج العملات الذهبية في فترة ما بعد الدولة الرومانية مما قلل من قيمتها مع وجود كميات متزايدة من الفضة، وبالتالي حلت الفضة محل الذهب فيما يعرف بالعصر الفضي».
ويقدم سجل الجليد عالي الدقة نمطًا جديدًا ومستقلًا على إنتاج الفضة المتجدد في أوائل القرون الوسطى الغربية. باختصار، كان الاقتصاد يتعافى، وهو ما استغرق 100عام أو أكثر. وربما هذا ما جعل الكثير من الناس تشعر برعب بالغ من البراكين، وتخشى ثورانها من جديد.
ومن المثير للاهتمام، تظهر العينات اللبية الجليدية أيضًا، حدوث انهيار في التلوث بالرصاص في الفترة من عام 1349 إلى 1353. ويتزامن ذلك تمامًا مع التسلسل الزمني لظهور وباء الطاعون الأسود. واستخدم الباحثون هذا علامةً على دقة تقديرهم للسنوات الصحيحة التي وقع فيها النشاط البركاني والتلوث بالرصاص