لن ينسى العالم مشهد القنصل السعودي بإسطنبول محمد العتيبي وهو يفتح الدواليب وأرفف الملفات أمام الصحافيين لإثبات أن جمال خاشقجي غير موجود في القنصلية، ولكن أين اختفى هذا الرجل الذي سرعان ما كذبته حكومته؟
عندما تجوَّل محمد العتيبي مع فريقٍ من الصحافيين عبر غرف مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول، الذي يتكون من 6 طوابق، تجنَّب التواصل بالعين وأخفى يديه في جيب بنطال حُلَّته. وقدم الرجل عرضاً كارتونياً ساخراً، حسب وصف تقرير لصحيفة The Washington Post الأميركية.
إذ فتح القنصل السعودي بإسطنبول خزانات وأرفف الملفات ليُظهر أن الصحافي السعودي جمال خاشقجي، الذي اختفى قبل 4 أيام من ذلك الوقت، لم يكن داخلها.
ولكن الآن هذا الرجل الذي حاول خداع العالم في قضية اختفاء خاشقجي، أصبح هو بدوره غائباً عن الأنظار.
هل تم اعتقال القنصل السعودي بإسطنبول مع باقي المتهمين في قضية خاشقجي؟
العتيبي، الذي عُيِّن قنصلاً عاماً للسعودية بإسطنبول أواخر 2016 بعد توليه مناصب في نيجيريا وإندونيسيا، برز باعتباره شخصيةً رئيسيةً في تقييم تركيا للقضية الذي يفيد بأن اغتيال خاشقجي كان متعمداً، وأنَّه جرى التخطيط لعملية تضليلٍ مفصلة.
ولم يسبق أن حظي العتيبي بشهرة إعلامية أو دبلوماسيةٍ واسعة. لكن ذلك تغيَّر في السادس من أكتوبر/تشرين الأول مع جولته الإرشادية التي اصطحب فيها صحافيي وكالة Reuters، فصار على الفور الوجه الذي يمثل الإنكار السعودي بأن خاشقجي اختُطِفَ أو قُتِلَ داخل القنصلية.
بل أصرَّ على أن خاشقجي غادر عبر إحدى بوابتي البناية.
ولكن في نهاية المطاف، اعترف المسؤولون السعوديون بأن خاشقجي قُتل داخل مبنى البعثة الدبلوماسية، لكنَّ القنصل السعودي بإسطنبول كان قد رحل بالفعل قُبيل ذلك الاعتراف، إذ عاد العتيبي إلى المملكة العربية السعودية.
ومع أنَّ المملكة اعتقلت لاحقاً أكثر من 20 شخصاً على علاقةٍ بعملية الاغتيال، أو صرفتهم من الخدمة، لم يكن العتيبي من بين هؤلاء. في واقع الأمر، لم يُسمع أي شيء منه منذ أسابيع.
غادر العتيبي، وهو كبير الدبلوماسيين السعوديين بإسطنبول، تركيا في 16 أكتوبر/تشرين الأول 2018، قبل يوم من تفتيش مقر إقامته الرسمي عن طريق المحققين الأتراك وقبل ثلاثة أيامٍ من اعتراف السعودية بأن خاشقجي قُتل داخل مبنى البعثة الدبلوماسية.
واستنتج المحققون الأتراك أن المسؤولين السعوديين بعثوا بفريق اغتيالٍ مُكَوَّنٍ من 15 رجلاً من الرياض، وهي المجموعة التي قتلت خاشقجي وقطَّعت جثته.
أُلقي القبض في السعودية على أعضاء هذا الفريق بالكامل، إضافة إلى 3 آخرين. وأُقيل من وظائفهم كذلك 5 آخرون، بمن فيهم 4 ضباط استخبارات ومستشارٌ كبيرٌ في الديوان الملكي.
والأتراك غاضبون من إفلاته من العقاب، فهو شاهد رئيسي بل قد يكون مساعداً على القتل
ونظراً إلى أن القنصل السعودي بإسطنبول قد أفلت من العقاب على ما يبدو، أثار ذلك غضب المسؤولين الأتراك، الذين يرونه على الأقل مساعداً وشاهداً رئيسياً في عملية القتل، فضلاً عن أنه كاذب.
وقد خصَّه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالذكرِ في مناسبتين، مشيراً إلى أنَّ له دوراً في عملية التضليل.
وقال أردوغان في مقال رأي نُشر في صحيفة The Washington Post الأميركية إنَّ العتيبي «كذب كذباً صارخاً»، وفرَّ من البلاد.
وذكر الرئيس التركي في مقاله: «مع أنَّ الرياض اعتقلت 18 متهماً، من المقلق جداً عدم اتخاذ أي إجراءٍ ضد القنصل العام السعودي».
وخلال خطابٍ ألقاه أردوغان أمام أعضاء حزبه في البرلمان قبل أكثر من أسبوعٍ، اتهم الرئيسُ التركيُّ العتيبيَّ بإعاقة جهود المحققين الأتراك برفض دخولهم القنصلية في الأيام الأولى للتحقيقات. وقال أردوغان: «لقد أعربت عن بعض الأشياء المتعلقة بعدم كفاءته.. للملك (السعودي)».
وأضاف أن العتيبي استُدعي للعودة من إسطنبول إلى السعودية بعد المحادثة بين أردوغان والملك سلمان.
في حين أن السعوديين يرفضون الإفصاح عن مكانه
رفض المسؤولون السعوديون مناقشة المسألة مع العتيبي، ولم تردُّ وزارة الخارجية السعودية على طلباتٍ للتعليق والتوضيح بشأن الوضع الدبلوماسي للعتيبي. وباءت بالفشل جميع الجهود من أجل الوصول إلى العتيبي عبر الوزارة، حسب ما ورد في تقرير الصحيفة الأميركية.
وتؤكد تعليقات أردوغان حول القنصل العام على شعور تركيا بالإحباط من الطريقة التي تعاملت بها السعودية مع التحقيق في مقتل الصحافي السعودي، في ظل تكرار اتهام المسؤولين الأتراك للرياض بإعاقة المحققين وتدمير الأدلة.
إذ اتهم المسؤولون الأتراك السعوديين بالمماطلة في السماح بتفتيش مبنى القنصلية ومقر إقامة السفير العام، الذي زاره بعض أعضاء فريق الاغتيال بعد مغادرة مبنى القنصلية القريب منه.
كما أن الرياض كذبت القنصل بعد أن بدلت روايتها عدة مرات
وعندما سُمِحَ للمحققين الأتراك بالدخول إلى مبنى القنصلية ومقر الإقامة، كانا قد خضعا لعمليات تنظيفٍ وتطهيرٍ مكثفة.
وتضاعفت الإحباطات التركية بزيارة النائب العام السعودي إلى إسطنبول في الشهر الماضي، الذي قال عنه المسؤولون الأتراك إنه كان مُهتماً باكتشاف الأدلة التي تمتلكها تركيا على عملية القتل أكثر من اهتمامه بمشاركة أي معلومات عن الـ18 متهماً الذين احتُجزوا في السعودية.
بدَّلت المملكة روايتها عدة مراتٍ منذ الإنكار الأول الذي أبداه العتيبي وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي أخبر موقع Bloomberg News الإخباري بعد يومٍ واحدٍ من مقتل خاشقجي بأنَّه غادر القنصلية بعد مدةٍ وجيزةٍ من دخوله.
يبدو أنه متورِّط في عملية الاغتيال لأنه كان أمامه هذا الخيار إذا اعترض على الجريمة
ونظراً إلى دوره الدبلوماسي الكبير في القنصلية، أبدت السلطات التركية ريبةً من الفكرة التي تفيد بأن العتيبي كان جاهلاً بعملية الاغتيال وغير مشاركٍ فيها.
إذ قال أحد مستشاري أردوغان، تحدَّث بشرط عدم الإفصاح عن هويته: «إذا كانت هناك عملية اغتيال في القنصلية، فإنَّ (العتيبي) أُبلِغ بشأنها».
وقال مسؤولٌ تركيٌّ بارزٌ، تحدَّث هو الآخر بشرط عدم الإفصاح عن هويته: «إذا كان القنصل السعودي قد عارض الخطة، كانه يمكنه أن يهاتف السفير السعودي في أنقرة أو يسافر إليه في الرحلة الجوية التي تستغرق 45 دقيقة كي يقابله وجهاً لوجه».
وأضاف: «تقييمنا يشير إلى أن القنصل السعودي بإسطنبول كان بالتأكيد على درايةٍ بما حدث لجمال خاشقجي».
وقال المسؤولون الأتراك إن دور العتيبي في عملية القتل تأكَّد بقوةٍ عبر إنكاره المبكر ومزاعم رفضه السماح للمحققين بدخول القنصلية بعد اختفاء خاشقجي ما أعاق سير التحقيقات.
الأتراك حائرون .. ما الذي جعل السعودية تستثنيه من الاعتقالات؟
غير أن المسؤولين الأتراك يقولون إنهم مازالوا غير متيقنين من الدور الذي أداه القنصل السعودي بإسطنبول في عملية القتل الفعلية، في حال كان له أي دورٍ من الأساس.
وقال مهدي إيكر، وهو نائبٌ برلمانيٌّ وعضوٌ بارزٌ في حزب أردوغان، إن طبيعة تورط العتيبي يمكن تحديدها إذا سُمح للسلطات التركية بالتحقيق معه باعتباره شاهداً.
وأعرب إيكر عن حيرته من السبب الذي لا يجعل العتيبي ضمن السعوديين الذين أُلقي القبض عليهم أو الذين صُرفوا من وظائفهم.
وشهادات أصدقاء خاشقجي ترجح أن القنصل هو الذي طلب منه المجيء للسفارة يوم قتله
خاشقجي، المعارض السعودي الذي كان يكتب مقالات رأي في صحيفة The Washington Post، زار القنصلية السعودية في إسطنبول في 28 سبتمبر/أيلول ليطلب شهادة طلاقه ما يسمح له بإتمام زواجه من خطيبته التركية خديجة جنكيز.
وقال أصدقاء خاشقجي إنَّه أخبرهم بأنه التقى في ذلك اليوم بمسؤولين سعوديين بارزين رحَّبوا به بحرارةٍ وتعهَّدوا بمساعدته في الحصول على الوثيقة.
إذ قال عزام التميمي، وهو أكاديمي بريطاني من أصل فلسطيني: «إن المسؤول الأول في القنصلية قابل خاشقجي وحصل على التفاصيل منه، وقال له إنه سيقابل مسؤولاً آخر أكبر كان يفترض أن يتعامل مع الأمر».
وأضاف: «كنا قلقين، لكنَّه طمأننا بأنهم كانوا لطفاء».
وتذكَّر التميمي ما قاله خاشقجي له: «إنهم أشخاص عاديون من بلادي. ولا علاقة لهم بصُناع القرار».
وقال أصدقاء خاشقجي إنه لم يذكر العتيبي على وجه التحديد.
ويقول المسؤولون الأتراك، الذين يحاولون استيعاب مدى معرفة العتيبي بمؤامرة اغتيال خاشقجي، إنهم يحاولون تحديد ما إذا كان هو أحد المسؤولين البارزين الذين قابلهما خاشقجي في 28 سبتمبر/أيلول أم لا.
وأثناء تلك الزيارة الأولى في القنصلية، قيل لخاشقجي إنَّ يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول هو التاريخ الذي يمكنه فيه استلام الوثيقة.
وفي هذا اليوم الذي وعدوا فيه خاشقجي بمنحه الوثيقة، تم خنق الرجل في القنصلية السعودية، حسبما قال النائب العام التركي.