كانوا يحضرون لجنازتها، فقد قرر زوجها أن ينثر رمادها في النهر، بينما هي سجينة لجسدها تستمع لما يدور حولها، وتتألم حين يحركونها، ولا أحد يدرك ذلك. بعد إصابتها بعدوى بكتيرية مميتة، استيقظت ريكيه شميدت كيجارغارد، ولكنها ظلت حبيسة جسدها، تستمع لمن حولها، ولكن لاتستطيع التحرك أو الحديث أو التعبير عما يجول في خاطرها. وبينما كان الجميع يقول إنها ماتت سريرياً ويستعدون لوفاتها الرسمية، فإنها عاشت لتضع كتاباً عن تجربتها المريرة مع الغيبوبة، ولتروي لصحيفة The Guardian البريطانية، قصتها الغريبة.
لن تستطيع أن تمرر أصابعها في خصلات شعرها أو على وجوه أطفالها
“ساعدتني في نزع سترتي، وشرعت في إعداد الشاي”. هل يمكن أن يصدق العقل أن هذه المرأة كانت قبل أشهر ميتة سريرياً، ثم دخلت في غيبوبة اعتقد الأطباء أنها لن تتعافى منها أبداً؟. هكذا تتساءل الكاتبة جوانا مورهيد في تقريرها بصحيفة The Guardian، وهي تروي كيف استقبلتها ريكيه شميدت كيجارغارد، في منزلها. هل هذه هي المرأة التي قيل لزوجها إنه في حال بقيت على قيد الحياة فإنه سيتم بتر كلتا يديها بالإضافة إلى قطع أنفها ومعظم أجزاء وجهها والعديد من أصابع قدميها؟ في كتابها الجديد بعنوان “The Blink of an Eye”، وصفت ريكيه في فقرة كيف كانت ترقد في سرير المستشفى، وكيف ترامى إلى مسامعها أن الغرغرينا قد دمرت يديها. عن تلك اللحظة، كتبت، “أدركت أنني كنت مسافرة في حياتي، ولم أعد قادرة على اتخاذ القرارات، وأني فقدت السيطرة على كل شيء. ولن أتمكن من تمرير أصابعي بين خصلات شعري مرة أخرى، ولن أتمكن من فرقعة أصابعي لسماع ذاك الصوت الجذاب، ولن أشعر أبداً بملامح أطفالي بين أطراف أصابعي”. كان رد ريكيه جريئاً وقوياً، فقد رمشت بعينيها لتظهر عزمها على إلحاق الهزيمة بالعدوى البكتيرية التي تنهش جسدها، وجعلتها سجينة داخله. وبالنسبة لها، إن رمشة واحدة كانت تعني بكل بساطة “لا”. لم تكن ريكيه مستعدة لقبول حياة غير مكتملة بسبب مرضها المدمر.
رغم نجاتها فإنها خرجت ببعض الخسائر المؤلمة ولكنها أقل كثيراً من توقعات الأطباء
كان الأطباء مخطئين بشأن بتر يديها وأنفها وأجزاء من وجهها وأصابع قدميها، بيد أنهم أصابوا فيما يتعلق ببتر أصابعها، حيث أن ريكيه فقدت جميع أصابعها إلا إبهامها الأيسر. وهي تقول نحن لا ندرك قيمة الأصابع حتى نفقدها، كما أنها عملياً لم تعد ترى بعينها اليسرى. بعد كل تلك الأحداث، مازالت ريكيه تتحلى بالروح الإيجابية، مؤكدة أن الجيد في الموضوع أنها مازالت تستطيع استخدام ما تبقى من ثلاثة من أصابعها المبتورة في الكتابة. وبصرف النظر عن أنها في مرحلة ما أثناء تأليف كتابها، نزفت تلك الأصابع وتشقق جلدها، فإن المهم هو أنها كانت قادرة على الكتابة، ليس لإيصال مشاعر الانحباس داخل غيبوبة فحسب، بل أيضاً لنقل هذه العبرة، وكيف أن حياتها قد تغيرت إلى الأبد نتيجة تلك التجربة القاسية.
كيف وقعت فريسة لهذه البكتيريا القاتلة؟.. الأمر بدأ كأنفلونزا
حدث هذا التغيير الجذري في حياتها أو الكارثة إذا صح التعبير، في يوم رأس السنة الجديدة لعام 2013. حينها، كانت ريكيه تبلغ من العمر 38 عاماً وتعمل أخصائية في الأحياء الجزيئية، وقد أصبحت في العام السابق عضواً في أكاديمية الشباب المرموقة، وهي مؤسسة تضم أكثر العلماء الواعدين الذين تقل أعمارهم عن 40 عاماً في بلدها الدنمارك. كانت ريكيه أُماً لثلاثة أطفال، وهم يوهان وفكتوريا ودانيال، وكانت أعمارهم على التوالي 18 و14 و8 سنوات. عاشت هي وزوجها بيتر، وهو عالم أيضاً، لعدة سنوات في كامبردج ببريطانيا قبل أن ينتقلوا إلى هارفارد بالولايات المتحدة، لكنهم عادوا إلى كوبنهاغن. وخلال خروجها في نزهة الاحتفال بالعام الجديد، أدركت إحساسها المفرط بالبرد. وعند عودتها إلى المنزل أخذت حماماً ساخناً لتدفئ جسمها. تقول ريكيه “عندما خرجت للتنزه، كنت أشعر بأني سأتجمد من البرد. لقد بلغ البرد أعماق جسدي، لدرجة أنني أدركت أن شيئاً ما ليس على ما يرام”. في البداية، اعتقدت أنها قد أصيبت بالأنفلونزا، ولكن بدأت تشعر بأن الوضع يسوء شيئاً فشيئاً، وبدأت تفقد الوعي بين الفينة والأخرى، ثم غالبها النوم. حينها اتصل زوجها بيتر بطبيبها الخاص الذي أدرك على الفور مدى خطورة حالة ريكيه. إنها تعاني من مرض الذئبة، ثم في وقت لاحق تبين أن جسدها كان يتعرض لهجوم عدوى البكتيريا العقدية الرئوية. وما إن وصلت سيارة الإسعاف حتى كانت ريكيه قد ماتت سريرياً. تمكن المسعفون من إعادة قلبها للعمل أثناء نقلها إلى المستشفى، ولفترة طويلة بعد ذلك، كانت نبضات قلب ريكيه هي الوحيدة التي تُسمع. لم تتذكر شيئاً مما جرى إلا بعد مرور شهر. قالت ريكيه: “كانت أعضائي الحيوية لا تعمل وكنت في غيبوبة”.
هذه المرأة العائدة من حافة الموت تخبرنا كيف تكون الغيبوبة
لا وجود “لمشاهد هوليودية” لمريض في غيبوبة، هكذا تقول ريكيه عن تجرتبها مضيفة “أنت لا تستيقظ وتقول: أين أنا؟ ماذا يحدث؟ العملية بطيئة جداً وتستغرق وقتاً طويلاً: فقد تستيقظ لمدة 10 ثوانٍ ثم تفقد وعيك مرة أخرى. لكنك تستيقظ تدريجياً، ومن ثم تظل مستيقظاً لفترات أطول”. كل هذا كان جيداً، لكن المشكلة بالنسبة لريكيه أنه على الرغم من أنها أفاقت من الغيبوبة، إلا أنها لم تتمكن من التواصل مع الأشخاص من حولها. وتصف ريكيه في كتابها كل ما قاله موظفو المستشفى، وكيف توقع الأطباء أن دماغها قد تعرض للتلف بسبب العدوى، وكيف لم يتوقع أحد أن تكون قادرة على التواصل والإقناع مرة أخرى. لقد توقع الجميع ذلك فيما عدا شخص واحد: ألا وهو زوجها، الذي ظل بجانبها ليلاً نهاراً خلال الأسابيع الأولى.
زوجها يخطط لجنازتها ولكن نظرة في عينيها تغير كل شيء
حين فتحت ريكيه عينيها، نظر بيتر إليهما، وبطريقة ما، عرف أنها مازالت على قيد الحياة. تقول “لقد كان كل شيء غير متوقع، ولم يكن بيتر قادراً على تصديق ما كان يحدث، ولكنه في الوقت نفسه شعر بأن حياتنا معاً لم تنته، وأننا لم نفترق”. تقول ريكيه إنها التقت ببيتر عندما كانا طالبين، وقبل أيام من استفاقتها من الغيبوبة، وحين بدت حالتها ميؤوساً منها، جلس بيتر بجانب سريرها وخطط لجنازتها: ستكون على نهر كام حيث كان سينثر رمادها على الماء. وتقول ريكيه إن كل ما خطط له زوجها هو بالضبط ما كانت تريده.
وتتحول هذه المذكرات المرعبة إلى نواة لكتابها
خلال الأيام الأولى التي قضتها في المستشفى، كتب بيتر، الذي كان آنذاك أستاذاً جامعياً، وهو الآن رئيس متحف التاريخ الطبيعي في كوبنهاغن، كل الأحداث المروعة والمرعبة التي عاشتها ريكيه. وقد اقترحت عليه إحدى الممرضات القيام بذلك، ظناً منها أن الكتابة ستساعده على التعامل مع فقدان زوجته بعد وفاتها، غير أن كل ما كتبه شكل المحتوى الأساسي لكتابها، حيث أنها لا تستطيع تذكر أي شيء من الأسابيع الأولى. إن أول ما تتذكره ريكيه كان الإحساس المخيف بأنها محبوسة، باعتبار أن الأعصاب التي تتحكم في عضلاتها قد أصيبت بالشلل. قالت ريكيه إن “أسوأ ما في الأمر هو الشعور بالوحدة على الرغم من أن الممرضات كن بجانبي على مدار الساعة. ولكن حين تشعر بأنك لست قادراً على إيصال ما تشعر به، فإن ذلك حقاً مروِّعٌ للغاية. يحب البشر أن يكونوا اجتماعيين، فنحن نحب التفاعل، لكن عدم القدرة على التواصل يجعلك تشعر بأنك لست إنساناً. إن لم تستطع التفاعل والتواصل مع الآخرين، فستعاني كثيراً”.
وصورة قديمة تعيد لها شكلها بعيداً عن الغرغرينا
تضيف ريكيه، أنه بعد أسبوعين توصل بيتر والممرضات إلى فكرة تسمح لها بالقيام بحركة وحيدة ألا وهي الرَّمش لكي تتمكن من التواصل؛ رمشة واحدة تعني لا واثنتان تعنيان نعم. لقد كانت نقطة تحول كبيرة بالنسبة لها، ولكن الطريق كان لايزال طويلاً للغاية لكي تتمكن من التواصل بصورة عادية مجدداً. كان لأطفال ريكيه كذلك دور كبير في بقائها على قيد الحياة. ففي مرحلة مبكرة من استيقاظها من الغيبوبة، حين كان كل جسمها متورماً ومتضرراً، وأصبحت يداها سوداوي اللون بسبب عدوى الغرغرينا وبدأ شعرها بالتساقط، جلبت ابنتها فيكتوريا صورة لها وهي في كامبريدج. تقول ريكيه إن وجود تلك الصورة بجانب سريرها أحدث فارقاً هائلاً؛ فمذ حضرت الصورة، لم يعد موظفو المستشفى يرون ريكيه مجرد شخصٍ مريضٍ طريح الفراش، بل شخصاً كان يتمتع بالصحة والسعادة، ويأمل أن يستعيد صحته وأن يكون سعيداً من جديد. قضت ريكيه خمسة أشهر في المستشفى. ويوثق كتابها الرحلة المؤلمة التي خاضتها لتصل إلى مرحلة الشفاء التام تقريباً.
أكثر لحظاتها ألماً وأولى الكلمات التي نطقتها
جاء اليوم الذي تنطق فيه أولى كلماتها، والتي جاءت مناسبة جداً لحالتها، ألا وهي كلمة “غريب”؛ التي تصف الأيام التي تصاب فيها بالذعر وتشرع في الهذيان، وهو ما يعتبر أمراً شائعاً عند مرضى الغيبوبة. كانت أكثر الأوقات فظاعة بالنسبة لريكيه عندما يتم نقلها، وهي تتألم، في وضعية معتدلة إلى جلسات العلاج الطبيعي. وبعد ذلك، ومع استعادتها لقوتها وعافيتها بشكل تدريجي، عاشت بعض الأحداث المهمة في حياتها، لعل أبرزها اليوم الذي غادرت فيه المستشفى وذهبت فيه لشراء بعض المكونات لطهي كعكة عيد ميلاد بيتر. وتذكر ريكيه بحماس اليوم الذي أخذت فيه دانيال إلى مدرسته وهو يصعد الدرج نحو فصله الدراسي ماسكاً يدها، إذ كان يرغب بشدة في أن ترافقه إلى الداخل.
لم تعد أماً بل أصبحت ابنة لهم
وأوردت ريكيه أن تجربتها جعلتها إلى حد ما طفلة العائلة وليست الأم. وفي هذا السياق، صرحت ريكيه: “لقد طرأ تغيير جذري على الأدوار في العائلة. حتى الآن، وبعد مرور خمس سنوات، لا يزال الأطفال يؤمنون حاجاتي ويسألونني عما إذا كنت أرغب في الحصول على شيء ما. إنهم يعتنون بي حقاً. وغالباً ما أشعر بالتعب بسهولة، ولا أملك الطاقة التي كنت أتمتع بها في الماضي، وجميع أطفالي حساسون حيال هذا الشأن ويفهمون ذلك”. وذكرت ريكيه أن أصعب شيء تعاملت معه، كان عدم قدرتها على إطعام أطفالها بطريقة سليمة.
وفي هذا السياق قالت ريكيه: “افتقدت القدرة على احتضانهم والقدرة على الجلوس وتناول الطعام وتجاذب أطراف الحديث معهم، كما فقدت القدرة على اصطحابهم إلى المدرسة. كنت أتوق للقيام بكل تلك التفاصيل البسيطة في إطار الحياة الأسرية”. خلال أشهر من العلاج الطبيعي المكثف، والعمل الجاد والهائل الذي لا نهاية له قضتهم ريكيه في رحلة الشفاء، اعتاد بيتر أن يدعمها من خلال الحديث معها حول إمكانية تغيير حياتها في المستقبل. في هذا الشأن، أوضحت ريكيه قائلة: “كان يخبرني دائماً أنني يمكنني النجاح والتعافي، كما أستطيع التغلب على هذه المحنة. كان يقول لي: عند شفائك يمكنك القيام بكل ما تودين فعله. يمكنك ترك عملك، والقيام بشيء مختلف. يجب أن نجعل حياتنا المستقبلية مليئة بالأمور المهمة والأوقات الجميلة التي نكون فيها معاً”.
تحتاج لتوصيل صوتها لأكبر عدد من الناس
اعتادت ريكيه كتابة مقالات بحثية أكاديمية، وكانت تُقرأ من قبل العديد من الأشخاص يتراوح عددهم بين 50 و60 شخصاً. ولكن اليوم بعد أن تعافت، تقول “أدركت أنني، وفي هذه الحياة الجديدة، بحاجة لإيصال صوتي إلى عدد أكبر من الأشخاص. لقد أردت عملاً أكثر جدية، يمتد على نطاق أوسع”.
لقد كانت ريكيه وبيتر على وعي تام بمدى الصعوبة التي واجهتهما، حتى رغم أنهما عالمان، في التواصل بشكل فعال مع موظفي المستشفى الذين يعتنون بها. وتقول ريكيه عن حالتها: “إنك تواجه فقداناً كاملاً للسيطرة على جسمك، ولقد قابلت العديد من الأطباء المختلفين وفي كل مرة كان على بيتر أن يخبرهم مراراً وتكراراً بما حدث لي. لذلك عندما أصبحت أفضل قلت له: “يجب أن تكون هناك طريقة عملية أكثر لإخبارهم بذلك”.
وتعمل ريكيه حالياً على إنشاء منظمة اسمها شريان الحياة “Lifeline”، ستقدم المساعدة للأشخاص من خلال تأمين الوسائل الرقمية التي تخولهم امتلاك بياناتهم الطبية الشخصية وتحديد من يشاركهم فيها. وأوضحت ريكيه، أن “هذا المشروع يهدف إلى تمكين المريض من الحصول على بياناته والسماح لمن يشاء بالاطلاع عليها”. وأردفت ريكيه أن “كتابها يعتبر مهماً للغاية، لأنه، وعلى الرغم من أن الحالة التي يوثقها والتي عايشتها استثنائية، إلا أن جميع الأشخاص يواجهون أزمة في مرحلة ما من حياتهم. وتعتبر العديد من الدروس التي تعلمتها قضايا عالمية”.
وأضافت ريكيه أن “الأمر يتعلق بمساعدتك للأشخاص، وعدم الاستهانة بالفرق الذي من شأنك أن تحدثه بمجرد مساندتك لشخص ما في محنته، أن تكون بجانبه، وأن لا تتركه. إنني أسعى إلى منح الأمل للأشخاص، وهذا السبب الذي جعلني أتخطى محنتي، مما سمح لي بالوصول إلى هذه المرحلة الآن”.
أقراء المقال من مصدرة باللغة الإنجليزية بالضغط هنا