في الثالث من مايو الجاري، صدر تقرير مفصل عن مركز التنمية الدولية في جامعة هارفارد بعنوان «أطلس التعقيد الاقتصادي»، مؤشر التعقيد الاقتصادي هو مقياس شامل لخصائص إنتاج أنظمة اقتصادية كبيرة، وعادةً بلدان بأكملها. الهدف من هذا المؤشر هو شرح نظام اقتصادي متكامل بدلًا من مجرد مجموع أجزائه. ويتطلع هذا المؤشر إلى شرح المعرفة المتراكمة في عدد السكان في بلد ما «والشبكات التي تشكل الشعب»، والتي يعبر عنها في التكوين الصناعي في البلاد. بالإضافة إلى ذلك، تضمن التقرير خمس دول يسلط عليها الباحثون الضوء، إذ لاحظوا تطور اقتصادي بارز فيها.
يشير التقرير إلى أن الدول التي نوعت من اقتصادها وقطاعات مصادر دخلها -مثل الهند وفيتنام- هي الدول التي ستحقق أعلى معدلات النمو خلال العقد القادم. وفي قائمة أسرع الدول نموًا تحتل كل من الهند وأوغندا رأس القائمة بنسب نمو تبلغ 7.9% و7.5% سنويًّا على الترتيب. يقوم ذلك التصنيف بالأساس على معامل التعقيد (التنوع) الاقتصادي، وتطور القدرات التصديرية للدول.
توقعات النمو في القارات الخمس
بعدما كان العامل الأساسي في تحديد معدلات النمو خلال العقد الماضي هو أسعار النفط والسلع الأساسية، يرى الباحثون تغيرًا في الوقت الحالي باتجاه التنوع الاقتصادي باعتباره أهم عوامل النمو. في القارة الأفريقية على سبيل المثال، وتحديدًا جنوب الصحراء الكبرى، يتحول النمو إلى الشرق بدلًا من الغرب، ويقود ذلك النمو دولًا مثل: أوغندا، وتنزانيا، وكينيا، والتي تأتي جميعًا ضمن قائمة الدول العشر التي يُتوقع أن تحقق أعلى معدلات النمو في العِقد القادم.
يفسر التقرير تطور هذه الدول بحدوث تغيرات هيكلية تدريجية فيها، بجانب قيام بعض الصناعات. من المتوقع أيضًا أن تدفع الزيادة السكانية في تلك الدول هذا النمو الاقتصادي إلى الأمام. في المقابل، يتوقع التقرير سيطرة دول جنوب شرق آسيا على مؤشرات النمو العالمية، نتيجة للتنوع الاقتصادي القائم على الصناعة، وستتنافس دول مثل الفلبين وفيتنام وإندونيسيا وتايلاند على تحقيق أعلى معدلات النمو خلال العقد القادم، بحسب باحثي هارفارد.
يعتقد الباحثون أن أساس النمو الاقتصادي يقاس بحجم المعرفة الإنتاجية لدى الشعوب، كما أضافوا أن أغلب النمو العالمي لا يقوم بالأساس على ابتكار منتجات جديدة؛ بل إدخال التكنولوجيا الحالية وتبنيها ضمن الاقتصاد المحلي. على سبيل المثال، تمكنت إثيوبيا من تحقيق النمو من خلال اكتساب المعرفة الخاصة بصناعة الأحذية، والتي أدت إلى طفرة إنتاجية في البلاد تفوق ما تحققه اليابان على سبيل المثال من تطوير تكنولوجيا جديدة لصناعة أجهزة التلفزيون.
يتوقع التقرير أيضًا أن يشهد العقد القادم مزيدًا من التقارب في مستويات الدخل عالميًّا، إذ تلحق الدول الفقيرة بالدول الغنية، على الرغم من أن معدل التقارب يبدو بطيئًا. نلاحظ في التقرير أن أكثر الدول نموًا هي أيضًا من بين أفقر الدول، وأن التحرك من تلك القاعدة الفقيرة أسهل نسبيًّا، وهو ما يشرح تقدم الهند وباكستان على الصين في معدلات النمو المتوقعة، والتي على الرغم من امتلاكها تنوعًا اقتصاديًّا يفوق الهند وباكستان، إلا أنها حققت بالفعل الكثير من النمو، ما يعني أن عليها تقديم المزيد لتحافظ على معدلات النمو المرتفعة.
لا يعني ذلك أيضًا أن جميع الدول الفقيرة أو ذات الدخل المنخفض للأفراد ستحقق النمو، ولكن هناك الكثير من تلك الدول ستعاني أيضًا من معدلات نمو منخفضة نتيجة عدم تحقيق عنصر التنوع الاقتصادي، ومن بين تلك الدول: فنزويلا، وبنجلاديش، وأنجولا، والتي فشلت في بناء قاعدة معرفية إنتاجية في مجالات مختلفة، بخلاف الدول التي تمكنت من إضافة قدرات إنتاجية جديدة، مثل: الهند، وتركيا، والفلبين، بحسب سباستيان بوستوس، مدير الفريق البحثي.
ترتيب مؤشر التعقيد الاقتصادي
أصدر المركز البحثي أيضًا ترتيب مؤشر التعقيد الاقتصادي الجديد للدول عن العقد المنتهي عام 2016، وهو المؤشر الذي يمثل أساس توقعات النمو. يشير الترتيب إلى أن أكثر الدول عالميًّا في معدل التعقيد الاقتصادي هي على الترتيب: اليابان، سويسرا، كوريا الجنوبية، ألمانيا، النمسا. وفي العقد المنتهي عام 2016، تضمن الترتيب أيضًا الدول التي حققت أعلى معدلات التحسن خلال العقد، وهي: الفلبين، الصين، سنغافورة، رومانيا، ماليزيا. في المقابل، كانت أكثر الدول تراجعًا خلال العقد الماضي، أي أن سياساتها أدت إلى تراجع الإنتاج، هي: فنزويلا، الجابون، الأرجنتين، زيمبابوي.
تنوع الصادرات أحد أهم مصادر النمو الاقتصادي
يقول تيموثي تشيستون، أحد باحثي هارفارد المشاركين في الدراسة: إن الدول التي تنتج سلعًا ومنتجات محدودة وبسيطة ستواصل معاناتها مع انخفاض دخل الفرد، وأن النمو العالمي تقوده الدول التي نوعت من مصادر دخلها واقتصادها، وأن ما يجمع الدول التي تحقق أعلى معدلات النمو ليس تشابه الأنظمة السياسية، أو الحكم الديمقراطي، أو المستوى التعليمي، أو الدين، ولكن السياسات الواضحة التي تهدف إلى جذب وتسهيل تأسيس المعرفة الإنتاجية لإدخال قطاعات جديدة على الاقتصاد.
بالطبع، ينعكس مدى التنوع الاقتصادي ومدى المعرفة الإنتاجية التي تمتلكها الدول على معدلات الدخل، كما أن ذلك المؤشر قادر بقوة على التنبؤ بمستقبل نمو الدول، إذ وُجِد أن دقة هذا المؤشر تفوق بخمس مرات مؤشر التنافسية العالمي الذي يصدره المنتدى الاقتصادي العالمي.
5 دول علينا متابعتها
يسلط الباحثون الضوء على خمس دول من بين الأعلى في الترتيب، يرون أنها مثيرة للاهتمام خلال العقد القادم، وهي:
الهند
تتصدر الهند قائمة الدول الأسرع نموًا في العقد القادم بمعدل يبلغ 7.9% سنويًّا بحسب التقديرات، خاصةً بعدما تمكنت البلاد من تنويع اقتصادها وصادراتها لتمتد إلى قطاعات مختلفة كالصناعات الكيميائية، ووسائل النقل، والإلكترونيات. ما يساهم أيضًا في مواصلة التقدم هو أن هذه الطفرة الإنتاجية يقابلها معدلات دخل غير مرتفعة للعاملين. وستعتمد مواصلة النمو -على المدى البعيد- على تحقيق المزيد من التنوع في الإنتاج داخل البلاد، بحسب التقرير.
الصين
تواصل الصين نموها خلال العقد القادم كأحد أفضل الدول وأسرعها نموًا بحسب التوقعات. مع ذلك، سيشهد معدل النمو تراجعًا طفيفًا مقارنةً بالأرقام التي حققتها في العقود الماضية. من المتوقع أن تساهم الصين بثلث حجم النمو العالمي لعام 2018، كما أنه من المتوقع أن تشهد معدلات النمو تراجعًا مقارنةً بنسبة العام الماضي. يتوقع التقرير نسبة نمو سنوي تبلغ 4.9% خلال العقد القادم، ويشير التقرير إلى أن سبب التراجع ليس غياب التنوع الاقتصادي؛ بل تضاعف معدلات الدخل خلال أقل من عقد.
أوغندا
تأتي أوغندا في المركز الثاني من توقعات النمو الاقتصادي عالميًّا، ومن المتوقع أن تحافظ على معدل نمو يبلغ 7.5% سنويًّا حتى عام 2026. يأتي ذلك المعدل المرتفع للنمو انعكاسًا لتقدم البلاد في مؤشر التعقيد الاقتصادي، والذي تقدمت فيه 27 مركزًا لتصبح في المركز 75 عالميًّا. ومع حقيقة انخفاض معدلات الدخل في أوغندا، هناك مساحة كبيرة للنمو أيضًا خلال الفترة القادمة في البلاد، إذ تمكنت من بناء صناعة الكيماويات الأساسية، كالدهانات ومستحضرات الشعر، بالإضافة إلى الصادرات الزراعية الكبرى والأطعمة المجهزة.
بخلاف أوغندا، تأتي كل من كينيا وتنزانيا في قائمة الدول العشر التي يُتوقع أن تحقق أسرع نمو ضمن العِقد القادم. يقود النمو الاقتصادي في تلك المنطقة بالأساس الزيادة السكانية السريعة، ومع ذلك، لا تأتي أي من الدول الثلاث ضمن الدول العشر المتوقع أن تحقق أعلى زيادة في دخول الأفراد خلال العقد القادم. من المتوقع أن تكون زيادة الناتج القومي للفرد في أوغندا بنسبة تصل إلى 4.1% سنويًّا خلال العقد القادم، وهو معدل متواضع نسبيًّا.
فيتنام
بمعدلات سنوية تبلغ 5.9% حتى عام 2026، تأتي فيتنام في المركز التاسع ضمن أسرع الدول نموًا خلال العِقد القادم. يأتي ذلك النمو مبنيًا بالأساس على الاقتصاد الصاعد بقوة، والذي تمكن من الحفاظ على معدلات نمو تزيد على 5% سنويًّا منذ عام 2000. توقعات النمو في القرن القادم أيضًا تأتي مدفوعة بنجاح البلاد في تطوير قطاع صناعة الإلكترونيات منذ عام 2012، والذي بدأ باستثمارات صغيرة لتصنيع أجهزة التلفزيون والمحمول، قبل أن تتمدد الصناعة وتتنوع بقوة لتشمل تطوير الدوائر المدمجة وأجهزة الكمبيوتر.
المكسيك
تقود المكسيك قاطرة التقدم في منطقة أمريكا اللاتينية خلال العِقد القادم، على الرغم من تراجع الأداء الاقتصادي للبلاد خلال العِقد الماضي. تحتاج تلك المنطقة بقوة إلى حالة من النمو الثابت والمستقر فترة طويلة، وهو ما تسعى المكسيك لتحقيقه من خلال اقتصادها المتنوع، والذي جعلها تحتل المرتبة 21 عالميًّا ضمن مؤشر التعقيد الاقتصادي، على الرغم من تراجعها بمرتبة واحدة في ذلك المؤشر مقارنة بالعِقد الماضي. تحافظ المكسيك على حجم صادراتها وتنوعها خلال العقد الماضي، وهو ما يعني حاجتها الآن إلى مزيد من التنوع.