عندما يعجز الأطباء أمام مرضى السرطان.. يتجه بعضهم نحو هذا العلاج المناعى

Krebs-Krankheit

 

لدى الطبيب أوليفر سارتور سؤالٌ مثير لمرضاه الذين ليس الوقت في صالحهم. معظمهم يصارعون الموت من سرطان البروستاتا. لم يتركوا علاجاً معمولاً به إلا وجربوه، لكن دون طائل. والأدوية والعقاقير الجديدة للعلاج المناعي تصنع المعجزات ضد بعض أنواع السرطان، لكن من غير المعروف عنها أنَّها تُجدي أي نفعٍ مع هذا النوع.

هل تود تجربة عقار جديد قبل الموت ؟

مع ذلك فإنَّ سارتور، العميد المساعد في قسم الأورام بجامعة تولين للطب، يطرح على المرضى السؤال التالي، لكن بكلماتٍ أكثر دبلوماسية: هل تود تجربة عقار علاج مناعي قبل أن تموت؟

فرصة التحسن على يد العقار صغيرة للغاية، غير أنَّها ليست منعدمة. ويقول سارتور: “حسب قواعد فترة اليأس من العلاج في علم الأورام، تتبع نمطاً من علم الأورام مختلفاً عما أقرته الإرشادات المنطقية”.

لكنَّ وعد الشفاء الذي يقدمه العلاج المناعي أوقع خبراء السرطان في حيرةٍ من أمرهم، فعندما ينجح العقار يبدو أنَّ السرطان يذوب ويختفي بين ليلةٍ وضحاها، لكنَّهم ما زالوا لا يعلمون سوى القليل جداً عن نوع المرضى الذين قد يستفيدون منه، وعن نوع العقاقير التي قد تفيدهم.

بعض أطباء الأورام يختارون ألا ينبسوا ببنت شفة لمرضاهم الذين يسيرون نحو الموت عن العلاج المناعي إطلاقاً، ويرون أنَّه على العلماء أولاً أن يجمعوا أدلةً وافية حول فوائد وسلبيات تلك الأدوية، وأنَّه من الخطورة بمكان تجربة العلاج على المرضى خارج إطار التجارب السريرية.

Krebs-Krankheit12321

تجربة غير معلومة النتائج

غير أنَّ سارتور يقدم تلك الأدوية لبعض مرضاه الميؤوس من شفائهم، أملاً في أن يحالفهم الحظ، فإن كان المريض موشكاً على الموت وثمة فرصة ولو ضئيلة أن ينجح العقار، فَلِمَ لا؟ يقول بول هيلفت، خبير الأخلاقيات وطبيب الأورام بكلية الطب بجامعة إنديانا: “العلاج المناعي بالذات يعد مشكلةً دقيقةً”.

وأطباء السرطان يعون تماماً سلبيات معالجة المرضى بهذه الأدوية، قبل أن تُجمَع كافة الأدلة حول فاعليتها.

ذكريات التجارب الفاشلة

فالعديدون ما زالوا يرتعدون عندما يتذكرون الفشل الذريع في الثمانينات والتسعينيات عندما بدأ الأطباء يعطون المصابات بسرطان الثدي جرعاتٍ عالية للغاية من العلاج الكيماوي والإشعاع، عملاً بنظرية أنَّه كلما زادت الجرعات زادت نسبة الشفاء. لم يكن الأطباء وقتها قد جمعوا أدلةً بشكلٍ منهجي، وإنما كانوا يروون قصصاً عن مرضى زعموا نجاح العلاج معهم.

ثم جاءت تجربة سريرية، لتجد أنَّ هذا الأسلوب في العلاج أسوأ بكثير من العلاج التقليدي، فأورام السرطان ظلت فتاكة عند العلاج بجرعاتٍ عالية، أما العلاج فكان إما يقتل النساء أو يشوههن.

لكنَّ العلاج المناعي ليس كغيره من علاجات السرطان، فهو قد يعمل بغض النظر عن نوع الورم المصاب به الشخص. كل ما يهم هو تدريب جهاز المناعة على رؤية الورم كدخيل.

ثمة تحولات جينية في الأورام تكوِّن داخلها بروتينات غريبة. وتحاول كريات الدم البيضاء في جهاز المناعة أن تهاجم الورم، غير أن حاجزاً جزيئياً يصنعه الورم يصد هجومها.

وما تفعله العقاقير الجديدة هو أنَّها تسمح لكريات الدم البيضاء باختراق ذلك الحاجز وتدمير الورم. وشهد الأسبوع الماضي مثالاً آخر على القوة المدهشة لهذا الأسلوب العلاجي، إذ ذكر باحثون في تقريرٍ لهم عن تجربةٍ سريرية، أنَّ مرضى سرطان الرئة الذين عادةً ما يتلقون العلاج الكيماوي فقط قد طالت مدة حياتهم عندما أُضيف العلاج المناعي إلى استراتيجية العلاج.

آلاف دولار للجرعة الواحدة

بيد أنَّ تلك العقاقير فاحشة الغلاء؛ فأحد العلاجات التي يستخدمها سارتور تبلغ تكلفته 9 آلاف دولار للجرعة الواحدة، إن استُخدِمَ كل 3 أسابيع، و7 آلاف دولار إن استُخدِمَ كل أسبوعين. وعادةً ما يُقنع سارتور وغيره من الأطباء شركات التأمين لتدفع ثمن التكلفة، ولكن إن فشلت محاولة الإقناع، فقد تقوم الشركة المصنعة أحياناً بتقديم العقار مجاناً.

بعض العقاقير تقودك إلى الموت

يمكن لعقاقير العلاج المناعي أن تسبب أعراضاً وتأثيرات جانبية شديدة، قد تقود أحياناً إلى الموت، فحين ينشط جهاز المناعة ربما يهاجم الأنسجة الطبيعية إلى جانب الأورام، ما يتسبب في الإصابة بثقوب في الأمعاء، وفشل في الكبد، وتلف في الأعصاب يؤدي إلى الشلل، وطفح جلدي خطير، ومشكلات في العينين، ومشكلات أيضاً في الغدد الدرقية أو الكظرية أو النخامية.

وقد تظهر هذه الأعراض الجانبية إما أثناء الخضوع للعلاج أو بعد الانتهاء منه. لكن بالنسبة لمعظم المرضى، لا تظهر أي أعراض جانبية، أو ربما تكون هناك أعراض جانبية طفيفة.

وهذا هو ما يجعل إعطاء المريض المشرف على الموت عقاراً مناعياً أمراً مختلفاً عن تجربة علاجٍ كيماوي شرس، أو إخضاعه للمعالجة بالإشعاع المكثف. تكمن المشكلة في تحديد إن كان العقار المناعي سيجدي نفعاً أم لا في وقتٍ مبكر.

يفحص الأطباء مؤشراتٍ حيوية، وإشاراتٍ كيميائية كالبروتينات التي تظهر عندما يحاول جهاز المناعة المهاجمة، لكنَّ هذه لا يعتمد عليها كثيراً.

المؤشرات الجيدة لا تعني استفادة المريض

ويقول ريتشارد شيلسكي، نائب رئيس وكبير أطباء المجمع الأميركي لطب الأورام السريري: “وجود مؤشر حيوي إيجابي لا يضمن استفادة المريض، وكذلك وجود مؤشر حيوي سلبي لا يعني أنَّ المريض لن يستفد؛ ليست لدينا قاعدة راسخة كافية في علم الأحياء لنعتمد عليها”. وهذه المشكلة، التي وُصِفَت في مؤتمرٍ طبي قبل عامين، هي ما دفع سارتور إلى البدء بتقديم العلاج المناعي لمرضاه المشرفين على الموت.

ويقول عن ذلك: “كنتُ أقول لنفسي، يا ربي، هذه الاختبارات المستخدمة في عملية اتخاذ القرار السريري ليست لها أي قيمة، حياة المرضى على المحك هنا. إنَّنا نقامر بأغلى شيءٍ في الوجود”.

وتابع: “بالنسبة لأناسٍ محددين يكون نجاح العقار كلمسة السحر، تعطيه لهم فيستفيدون فائدةً إيجابية طويلة الأمد، ولكن عندما لا تملك المعرفة الكافية لاتخاذ القرار، نقع في متاهةٍ أخلاقية”.

بدافع الفضول، أرسل رسائل إلكترونية إلى 8 أطباء بارزين متخصصين في سرطان البروستاتا، يسألهم فيها إن كانوا هم أيضاً يُقدمون عقاقير العلاج المناعي لمرضاهم، أملاً ولو بنسبةٍ ضئيلة أن يحالفهم الحظ في الشفاء.

كانت الإجابة هي أنَّ 5 منهم يقدمونها فعلاً بتحفظاتٍ مختلفة، مضيفين عباراتٍ مثل: “لو كنتُ مريضاً، لرغبتُ أن يبذل طبيبي كل شيءٍ ممكن”. وقال الطبيب دانيال جورج من جامعة ديوك الأميركية إنَّه لا يُقدم العلاج المناعي لكل شخصٍ شارف على الموت جرّاء إصابته بسرطان البروستاتا.

ولكن “بالنسبة لهؤلاء المرضى الذين يريدون فعل ما بوسعهم، هذه هي المجموعة التي نجرب عليها بعض الأدوية المثبطة”، وهي نوعٌ من العلاج المناعي. أما بالنسبة للآخرين، وهم الغالبية العظمى من مرضاه المصابين بسرطان البروستاتا النقيلي، فلا يقترح عليهم العلاج المناعي.

Krebs-Krankheit198713

مهمة صعبة .. الموازنة بين الأمل والواقع

وقال: “علينا أن نُوازن بين الأمل والواقع. فأصعب ما نتحدث فيه مع المرضى هو عندما يكون علينا أن نخبرهم بأنَّ المزيد من العلاج في الحقيقة يؤذيهم أكثر من السرطان”.

وقال دانيال بيتريلاك، المتخصص في سرطان البروستاتا بجامعة ييل الأميركية، إنَّه يميل إلى تقديم العلاج المناعي لنوعٍ نادرٍ من المرضى، أولئك الذين تكون لأورامهم علاماتٌ وراثية تشير إلى أنَّ الجهاز المناعي يحاول الهجوم، وهي إشارة معتمدة لسرطان البروستاتا حسبما ذكر.

ولكنَّ هذه الاستراتيجية تتيح له فرصة تجربة الأدوية على مرضى الأنواع الأخرى من السرطان. وبشأن إمكانية حدوث استجابةٍ جذرية طويلة الأمد، صرَّح في مقابلةٍ: “كيف يمكنك أخلاقياً حرمان المرضى من ذلك؟”.

وفي معهد دانا فاربر للسرطان في مدينة بوسطن الأميركية، قال الطبيب كريستوفر سويني، إنَّه قدَّم التماساً لشركة تأمين لتقدّم العلاج المناعي للمريض عندما تكون لديه عوامل وراثية تشير إلى إمكانية استجابته للعلاج -وهي إشارةٌ تفيد بأنَّ العلاج قد يكون فعّالاً حتى إذا لم توجد بعد تجارب سريرية مثبتة تفيد ذلك- وأنَّه قوي بما يكفي لتحمله.

ولكن إذا لم تتوفر هذه الظروف، كما هو الحال عادةً، فإنَّ دكتور سويني يقدم الأدوية فقط للمرضى إذا استطاع أن يفعل ذلك ضمن تجربةٍ سريرية، حيثُ يكون من الممكن تعلُّم شيءٍ ما من هذه التجربة.

ولكن ماذا إذا لم تكن هناك تجربةٌ سريرية يمكن أن يشارك فيها المريض؟ يقول دكتور سويني: “أقول بشكلٍ أساسيّ إنَّني ليست لدي علاجاتٌ مصرحٌ بها. وهذه هي الحقيقة، فأغلب المرضى لا يستفيدون من هذه الأدوية”.

العلاج المناعي بديل الكيماوي

وقال لمرضاه إنَّ عدم وجود المزيد من الأدوية لعلاجهم بها لا يعني أنَّه قد تخلّى عنهم. فالرعاية الداعمة يمكن أن تجعل المرضى أكثر راحةً، وحتى تطيل في حياتهم. يختلف سارتور مع هذه المقاربة، وقال عن ذلك: “أحب أن تتاح لكل مريض فرصة التجربة السريرية، ولكن هل يعني هذا أنَّه لا يجب عليَّ أن أحاول بسبب عدم توفر التجربة السريرية؟”.

كان جورج فيلر واحداً من أوائل من عالجهم سارتور بالعلاج المناعي، وهو مستشارٌ استثماري متقاعد عاش في مدينة نيو أورليانز بولاية لويزيانا الأميركية. عانى فيلر من سرطان المثانة، وجرب العلاج الكيماوي، ولكنَّه لم يُجدِ نفعاً، حينها قال له سارتور إنَّه قد استنفد كافة المحاولات التقليدية، وسأله إذا كان يرغب في تجربة العلاج المناعي. في ذلك الوقت لم تكن الأدوية قد صُرِّح بها لعلاج سرطان المثانة. وفكّر فيلر وزوجته فران كثيراً في الأمر، وتساءلا إذا ما كانا سيندمان إذا لم يجربا الأمر.

وأعادت زوجته تذكر ذلك في مقابلةٍ بقولها: “أعتقد أنَّنا كنا سنندم”. وافقت شركة التأمين على تحمُّل التكاليف، وتناول فيلر الدواء لعدة أشهر. لكنه تُوفي في الخامس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2016، عن عمرٍ يناهز 72 عاماً.

وقالت السيدة فران: “لم تكن للدواء آثارٌ جانبية، ولكنَّه لم يفعل شيئاً على الإطلاق”. وهناك أيضاً كلارك غوردين (67 عاماً)، الذي يعيش في مدينة أوشن سبرينغز بالولايات المتحدة. كان غوردين مصاباً بسرطان البروستاتا النقيلي، ووصف الأمر في مقابلةٍ قائلاً: “حظي سيئ”.

نجاة قبل مفترق النهاية

جرَّب سارتور العلاجات التقليدية، ولكنها لم تُفِد في حالة غوردين. وفي النهاية اقترح الطبيب العلاج المناعي. ولكنَّ شركة تأمين غوردين رفضت تحمل التكلفة، إلا أنَّ المعمل بعد ذلك قام بتحليلٍ للورم واكتشف أنَّه ارتكب خطأً.

كان هناك احتمالٌ أن يستجيب غوردين للعلاج المناعي، إذ توجد لديه طفرةٌ نادرة. ولذا وافق التأمين على دفع تكاليف العلاج. وفور تناول غوردين للأدوية، انخفض معدل المستضد البروستاتي النوعي (المؤشر الدال على وجود السرطان) ليقترب من الصفر. وقال سارتور: “قلبي يكاد يتوقف في كل مرةٍ أفكّر فيها بهذا الأمر، تتوقف حياة الإنسان أحياناً على قشة مثل هذه”.

 

 

 

شاهد أيضاً

“الإمبراطور الأبيض”.. مقاتلة الجيل السادس الصينية المصممة للهيمنة على السماء والفضاء

تشهد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة تصعيداً ملحوظاً في العديد من المجالات، من أبرزها التسابق …