شارع باتجاه واحد اسمه الزمن.. خليفة آينشتاين “روفيلي” يثبت علمياً عدم وجود الماضي ولا المستقبل

Mikafelliy

 

رغم أننا نقيس العمر به، ونحسب معه الساعات، والأيام والسنين، هناك من ينكر وجود الزمن. “يمر” ويتحرك كنهرٍ عظيم، يحسبنا دون هوادة، ليقذف بنا في نهاية المطاف على شواطئه ويواصل حركته.

هذا ما تخبرنا به اللغة عن الزمن عن “شيء” يتدفق؛ ويتحرك في أفقٍ سرمدي وهو يشد الخطى إلى الأمام. يخبرنا الشعراء أن الزمن يبطئ أو يتوقف؛ وأن الماضي يلاحقنا أحياناً كثيرةً دونما سبيل للفرار منه؛ فيظل حاضراً في الأشياء أو الأشخاص أو الأماكن.

كارلو روفيلي عالم فيزيائي نظري يرغب في اكتشاف بعدٍ جديدٍ تماماً في مجاله. وقد بيعت من كتابه Seven Brief Lessons on Physics، ذي المقالات الرائعة الموجزة التي تتناول موضوعات مثل الثقوب السوداء والفيزياء الكمية، 1.3 مليون نسخة على مستوى العالم.

والآن يُطرح كتابه The Order of Time، وهو عملٌ شاعري مبهر،  حسب وصف تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية، التي أجرت حوارا مطولا معه. يعيش روفيلي -الرجل المرح ضئيل الجسم ذو السنين التي تزيد على الستين- حالةً من الحنين إلى الماضي.

يعيش في مدينة مارسيليا الفرنسية حيث يدير منذ عام 2010 مجموعة للجاذبية الكمية في مركز الفيزياء النظرية. وقبل أن يبدأ عمله في المركز، لبث في الولايات المتحدة في جامعة بيتسبرغ لعقد من الزمن.

تجربته مع عقاقير الهلوسة جعلته يهتم بالزمن

يقول إنه كان راديكالياً أكثر من اللازم، وظهرت حينها عقاقير الهلوسة (LSD). تناولها بضع مرات، ثم تجلى له أنها كانت البذرة التي منها نبت اهتمامه بالفيزياء عموماً، وبمسألة الزمن خصوصاً. “من بين الظواهر الغريبة التي عايشتها فيها شعوري بتوقف الزمن.

كانت الأشياء تدور في رأسي ولكن عقارب الساعة لم تكن تتحرك إلى الأمام؛ لم يكن تدفق الزمن يمر بأي شكل. كانت حالةً من العطب الكامل لبنية الواقع”. سأل نفسه بعد هذه التجربة: كيف لي أن أعرف أن تصوري المعتاد للأشياء هو الصحيح، وأن هذه هلوسة؟ وإذا كانت هاتان الطريقتان بهذا القدر من الاختلاف، فما معنى أن تكون إحداهما هي الصحيحة؟”.

قراءته لآينشتاين علمته أن هذه النظريات ليست صحيحة ولا خاطئة

على شاطئ تدفئه الشمس في مدينة كالابريا الإيطالية، عاش تجربة مماثلة، وهو يقرأ مؤلفات آينشتاين. كان يرفع بصره عن كتابه إلى السماء والبحر، ليتخيل أن العالم ليس كما يظهر له كل يوم، بل على صورة الزمكان الجامح المتموج الذي وصفه الفيزيائي العظيم. فالحقيقة إذاً -كما ذكر في عنوان أحد كتبه- ليست كما تبدو عليه.

يمكن القول إن عمل روفيلي كفيزيائي يشغل الفراغ الكبير الذي خلَّفه أينشتاين من جانب، والتطور في النظرية الكمية من جانب آخر. ولو كانت نظرية النسبية العامة تشغل عالماً من الزمكان المتموج يعد كل شيء فيه مستمراً، فإن النظرية الكمية تصف عالماً تتفاعل فيه كميات متمايزة من الطاقة.

وكما يفسر روفيلي: “لا يمكن للميكانيكا الكمية أن تتعامل مع التواء الزمكان، ولا يمكن للنسبية العامة أن توجد تفسيراً للكميات”. وكلتا النظريتين يتسمان بالنجاح؛ غير أن عدم اتساقهما الواضح يمثل مشكلةً بلا حل محدد، ومن بين المهام الحالية للفيزياء النظرية هو محاولة إيجاد إطار عمل مفاهيمي تنجح فيه النظريتان معاً.

ويقدم مجال روفيلي لنظرية الجاذبية الكمية الحلقية حلاً ممكناً للمشكلة، يُنظر من خلاله إلى الزمكان نفسه باعتباره بنية دقيقة مصقولة منسوجة من حلقات. وتقدم نظرية الأوتار طريقاً آخر مختلفاً للوصول إلى حل للمشكلة، ليس صحيحا ولا خاطئا في رأي روفيلي، “إذا سألتني عن الشخص الذي كانت لديه أطول وأبرز قائمة من النتائج، فسأقول لك أينشتاين دون أدنى شك. ولكن إذا سألتني عن العالم الذي ارتكب أكبر قدرٍ من الأخطاء، فسأقول لك إنه أينشتاين أيضاً”.

نظريته عن وظيفة الزمن وتصورنا الإنساني المشوش

ويرى روفيلي أنَّ هناك ما هو أكثر من ذلك: الزمن نفسه يختفي في أكثر المستويات أساسية. الزمن مجرد وظيفة تخدم تصورنا الإنساني “المشوَّش”. لماذا تقتصر معرفتنا على الماضي، وليس المستقبل؟ مفتاح ذلك هو تدفق الحرارة في اتجاه واحد من العناصر الساخنة إلى الأقل سخونة.

مكعب من الثلج مثلاً يمكنه أن يتسبب في تبريد كوبٍ من القهوة إذا ما سقط فيه، والعكس ليس صحيح. الأمر بمثابة شارع باتجاه واحد، كما يبين القانون الثاني للديناميكا الحرارية.

كتاباته عن الفيزياء موجهة للشخص العادي والمتخصص

يحاول روفيلي أن يكتب على عدة مستويات. “أنا أفكر في الشخص الذي ليس لديه اهتمامٌ بالفيزياء، وليس فقط من ليس لديه معرفة بها. لذا أظن أنني أكتب وكأنني أتحدث إلى جدتي، التي كانت مديرة منزل، أو كأنني أكتب لطلاب فيزياء حديثي السن؛ وأكتب أيضاً وفي ذهني أن زملائي يقرأون.

لذا فأنا أحاول الحديث على مستويات مختلفة، مع الأخذ في الاعتبار على الدوام الشخص لا يعرف شيئاً عن الفيزياء”. وأشد المغرمين بروفيلي من لا يملكون معرفةً تذكر بالفيزياء وزملاؤه في الجامعات.

وأغلب النقد الموجه إليه يأتي ممن هم في منزلة بين المنزلتين: “من يملكون قليلاً من المعرفة بالفيزياء”. وهو لا يتقن الفيزياء المدرسية كذلك اتقاناً كبيراً، “من يعبأ بحساب سرعة سقوط كرة؟ أود لو سنحت لي الفرصة لأؤلف كتاباً مدرسياً في الفيزياء”.

وثقافته الواسعة تنبع من التاريخ والعلوم

وما يثير البهجة في كتابته هو بوصلتها الثقافية الواسعة ومعرفته بالتاريخ والعلوم. فهو محاضر في مادة تاريخ العلوم، ويحب فيها أن يجمع طلاب العلوم الإنسانية مع طلاب العلوم الطبيعية. وكما يأتي على ذكر العلماء أينشتاين ولودفيغ وبولتزمان وروجر بنروز، تظهر في كتاباته أيضاً ساسة وشعراء وموسيقيون مثل بروتس ودانتي وبيتهوفن -ولا سيما هوراس– فيبدأ كل فصل برمز من هذا الشاعر الروماني كما لو كان يقصد أن يغرسنا في عاطفة وشعور إنسانيين قبل أن يرتحل بنا إلى العالم المتقلب للثقوب السوداء والرغاوي الدوارة وسُحُب الاحتمالات.

فكرته عن تلاشي الزمن والعالم المجرد من الصفات الزمنية

لا يرى روفيلي تعارضاً بين رؤية الكون التي تحيل حياة البشر إلى شيء ضئيل وخارج عن السياق، أفراحنا وأحزاننا اليومية. أو في الواقع بين “العلم البارد” وحيواتنا الداخلية الروحانية. يخبرني روفيلي: “نحن جزءٌ من الطبيعة، وكذلك السرور والحزن جوانب من الطبيعة نفسها؛ فالطبيعة أغنى بكثير من مجرد مجموعات من الذرات”.

ولدى روفيلي موهبة عقد مقارنات تُحفر في الذاكرة. فهو يخبرنا -على سبيل المثال- عند تفسير أن “التدفق” السلس للزمن محض وهم، أن “الوقائع لا تصنع طابورا يمضي بدقة مثل الإنجليز، بل حشدا يتبلور في فوضى مثل الإيطاليين”.

ويقول أيضاً إن “مفهوم الزمن تلاشى طبقة طبقة وقطعةً قطعة، والمتروك لنا ما هو إلا مشهدٌ فارغٌ تعصف به الرياح شبه خالٍ من أي إشارة إلى الصفة الزمنية … عالمٌ مُجرَّد تماماً، يزهو بجمالٍ جافٍ ومزعج”.

يؤمن روفيلي الإنسان الأمور الإنسانية هي الحب والخوف والرغبة والشغف، وبأنها تصبح جميعاً ذات معنى حين تكون جزء من حيواتنا القصيرة، تلك التي تنطوي على قدرٍ ضئيل من الزمن.

 

 

شاهد أيضاً

“الإمبراطور الأبيض”.. مقاتلة الجيل السادس الصينية المصممة للهيمنة على السماء والفضاء

تشهد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة تصعيداً ملحوظاً في العديد من المجالات، من أبرزها التسابق …