القاهرة – حسام الحملاوى : —-
في أثناء الثورة المصرية عام 2011، فتح بيير سيوفي أبواب بيته الواسع بشرفته المطلة على ميدان التحرير في القاهرة، أمام المتظاهرين المُخيِّمين هناك.
استقبل بيير، كما كان معروفاً لدى الجميع، هؤلاء الشباب في منزله؛ لحمايتهم من الشرطة، وحين طلبت منه قناة “الجزيرة” الفضائية أن تضع كاميرات على سطح منزله وافق بشرط واحد: أن تعمل الكاميرات على مدار الساعات الـ24 يومياً؛ وهو القرار الذي أنقذ حياة الكثيرين.
أصبح منزل بيير، الذي سرعان ما اعتُبِرَ “بيت الثورة”، ساحةً لتجمُّع وتواصُل المتظاهرين من الأعمار والخلفيات كافة، سواء كانوا فنانين ومفكرين أو طلبة أو صحفيين، أو حتى قليل من الإسلاميين والعمال.
في الرابع من مارس ، عن عمرٍ يناهز 56 عاماً، بعد إصابته بمرض السرطان تُوفي سيوفي. كان شخصاً ضخماً، طيب القلب، له طابع بوهيمي، وكان له دورٌ خاص أداه في الثورة؛ إذ فعل ما بوسعه لمساعدة المتظاهرين وتشجيعهم.
كشري الثورة
قضى سيوفي حياته منغمساً في الفنون ولم يكن مهتماً بالمشهد السياسي المصري وما أصابه من جمود إلى أن بدأ “الأطفال” -وفق تعبيره- بالمخاطرة بحياتهم في الشوارع في 25 يناير/كانون الثاني 2011.
سيطر “أطفال الثورة” على الموقد في منزله؛ حيث كانوا يصنعون قدوراً من الطبق المصري الشهير، “الكشري”، ويحملونها 9 طوابق نزولاً إلى الجماهير التي تُخيِّم بالميدان.
وقد سلَّطَت العديد من المقالات والكتب والأفلام الوثائقية التي تتحدث عن الثورات العربية، الضوء على هذا الأمر.
أعوامٌ مضت ولا تزال اللافتات الورقية شبه الساخرة التي رفعها بيير على أبواب منزله الكثيرة موجودة، إحداها كُتِبَ عليها: “هذا مكان عمل.
فإذا لم تكن تعمل فاخرج للشوارع وثُر”. روبرت وورث، الصحفي الأميركي ورئيس سابق لمكتب صحيفة نيويورك تايمز الأميركية في بيروت، يتذكَّر أول مرة التقى فيها مع بيير، حين دخل إلى منزله في بداية ثورة 2011 وجده بالمكتب، كان شخصاً ضخماً ذا جسمٍ كمثري الشكل، له لحية وشعر أبيض يصل لكتفيه ويتطاير في جميع الاتجاهات.
كان يحيط به متظاهرون يملأون المقاعد والمراتب، وحولهم أعمال فنية مبعثرة من حياة بيير: لوحات ذات أطر مطليَّة بالذهب، وموسوعات، ونباتات ميتة، وطاولات مصنوعة من قطع قرميد تغطيها حواسيب محمولة، ومنافض سجائر، وأطباق بها بقايا طعام.
كان بيير يشرف على المشهد بأكمله وكأنه إله غائب، يدخن سجائر “مارلبورو” الواحدة تلو الأخرى، ويرتدي قميصاً يحمل صورة العقيد “ساندرز”، العلامة التجارية لسلسلة مطاعم دجاج “كنتاكي”، وتحت الصورة مكتوب “فليرقد جدك في سلام”.
قدّمت نفسي، لينظر بيير لأعلى ويرفع النظارات البلاستيكية التي كانت دائماً ما تنزلق على أنفه، ويقول: أنا مثلي مثل الآخرين. لا أحد يعرف شيئاً.
لقد فعلها الأطفال
على مدار الأسابيع التالية، أجريت العديد من المقابلات في منزل بيير. وحين جاءت الأخبار بتنحي حسني مبارك وانطلقت صيحات بحر المتظاهرين في ميدان التحرير مهلِّلة فرَحاً، كنت أجلس في شرفة بيير، الذي ظل يقفز لأعلى وأسفل في سعادة، وتهتز من تحته ألواح الأرضية.
وكتب في صفحته على “فيسبوك”، ليلتها، “مذهل! لقد فعلها الأطفال. ممتاز وشكراً”. وقد ظلَّ منزل بيير مفتوحاً خلال معظم أوقات هذه السنة، وكنت أتردد، أنا وغيري كثير من المراسلين، على منزله كلما سنحت الفرصة لسماع آرائه حول تطورات المشهد السياسي.
وقد كان بيير أقل تفاؤلاً بكثير من المتظاهرين اليافعين السذج الذين كان يستقبلهم ببيته؛ حيث أخبر أصدقاء له بأنه يعتبر الإطاحة بمبارك نوعاً من الانقلاب العسكري، وكان يتخوف من أن تتنازع الفصائل غير الناضجة سياسياً في مصر، مما سيمهد الطريق أمام حدوث مزيد من الأوتوقراطية، أو حكم الفرد المطلق؛ لتثبت بعدها صحة مخاوفه.
وعقب الانتخابات التي جاءت بالقيادي بجماعة الإخوان المسلمين، محمد مرسي، عام 2012، ابتعد بيير عن السياسة، ثم في العام التالي حين انتفضت حركة جماهيرية غاضبة لتقصي مرسي، أغلق بيير منزله في ميدان التحرير شاعراً بالاشمئزاز، وتوجه إلى الشاطئ لقضاء فصل الصيف.
كانت سخريته المفاجئة الفجة تغطي طبيعة خجولة حساسة؛ حيث قال أصدقاؤه إنه كان يشعر بالضيق؛ لأن “الأطفال” لم يهتموا بزيارته عقب انتهاء الأحداث الجنونية لعام 2011، لكن حين يُستفز يمكن أن يدخل في نوبة غضب تزيدها رهبة ضخامته.
عائلات الزمن الجميل
عقب ثورة 2011 بقليل، تصادم أحد كبار ضباط الجيش المصري مع بيير خارج منزله، وقال له إنه ليس مصرياً؛ ليصيح بيير بصوت عالٍ دفع الضابط للالتفاف والهرب: “أنا مصري أكثر منك. كيف تجرؤ على قول هذا؟!”.
وُلِدَ بيير توفيق أنطوان سيوفي في القاهرة عام 1961 لعائلةٍ مسيحية ثرية كانت تتحدث الفرنسية بالمنزل، وكان والده أنطوان سيوفي تاجر تحف من أصولٍ عراقية يونانية، أما والدته ماريس ليليان سوسا فكانت لبنانية.
ترعرع بيير، وكان طفلاً وحيداً، في منطقة وسط البلد الراقية بالقاهرة -قرب ميدان التحرير- في مسكن يملأه الفن وبه نحو 40 قطة.
التحق بمدرسة العائلة المقدسة، المعروفة باسم “الجيزويت”، إلى أن أخبر والديه ذات يوم، في منتصف سنوات مراهقته، بأنه لم يعد يرغب في الذهاب للمدرسة، وهو ما لم يرفضه والداه؛ لذا أكمل تعليمه بنفسه في المنزل من خلال الكتب.
وفي عقده العشرين، قرر بيير الالتحاق بالجامعة الأميركية بالقاهرة، حيث تمكَّن من أن يصبح إحدى دعائم المسرح هناك، وظل يتردد عليها سنوات، أدى خلالها أدواراً في العديد من المسرحيات والأفلام. وحصل بالنهاية على شهادة في إدارة الأعمال.
يتذكره أصدقاؤه بأنه كان يوجد على الدوام في قلب أي حشد، ولكنّ حبه الانخراط الاجتماعي كان يخفي ألماً داخلياً؛ فكتب أحد أصدقائه ينعيه: “كان يبدو يتيماً أكثر من أي شخص عرفته”.
تولى بيير، في السنوات التالية، إدارة متجر التحف الأثرية الخاص بعائلته، وتدرب على الرسم والتصوير، وبدأ يجمع الأعمال الفنية بمختلف أنواعها؛ من بطاقات بريدية، وحديد مشغول، وملصقات دعائية لأفلام مصرية، وأطر صور، وصخور على شكل قلب، وغيرها الكثير.
البوهيمي الثري..
وفي عام 2013، تزوج بياتريس غرينغيلي، التي كانت حبيبته عدة سنوات. وقال أحد الأصدقاء إن حفل الزفاف كان المرة الأولى التي يرى فيها بيير مرتدياً قميصاً بأزرار وليس زيه المعتاد؛ وهو القميص قصير الأكمام، وبنطال فضفاض، وصندل ماركة بيركنستوك، والذي كان دائماً ما يرتديه باستثناء أيام الشتاء شديدة البرودة.
على الرغم من ثرائه، حيث ورث البناية بأكملها التي كان يعيش فيها بوسط البلد، يكره بيير الغطرسة التي ترافق الثراء والسلطة، وفضَّل أن يعيش مثل الطلبة البوهيميين الذين أُعجِبَ بثورتهم كثيراً. وفي ذروة شهرته، خلال الأشهر التالية لسقوط مبارك، كان يصدُّ برفق كل من كان يحاول أن يصنع منه متحدثاً رسمياً. وكتب بيير على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك: “أتعجب لكل هؤلاء الأشخاص الذين يبعثون لي برسائل على البريد الخاص أو رسائل دردشة يسألونني عن التحرير.
للأسف، أنا لست في التحرير. لا يمكنني ذكر تفاصيل حول ذلك. شكراً لأخذ هذا في الاعتبار”. كان على الأرجح سيعتبر موته -إذا كان لا يزال بإمكانه الحديث- تفصيلة غير ذات أهمية تبعث على الضحك.