تخيل أن في رأسك دماغان بدلاً من واحد ، ليس هذا فيلماً من أفلام الخيال العلمي فعلها عالم فى الواقع

Zweite-Geheren

الباحث العلمي المعروف في بريطانيا فيليب بال، وافق على خوض تجربة غريبة، سمح فيها للعلماء بأخذ جزء من ذراعه لصنع أو استزراع “مخ مصغر”، واستخدامه في البحث العلمي.

قد تبدو التجربة غريبة، لكنها حدثت، وكتب عنها بال مؤخراً مقالاً في صحيفة The Guardian  البريطانية، فماذا حدث لذراع فيليب، وكيف تمت صناعة المخ الجديد، وفي أي شيء سيتم استخدامه؟ القصة مغرية، وقراءتها تضعنا على باب من أبواب المستقبل العلمي…

اكتمل دماغك الآخر

كتب فيليب بال في مقاله… أخبروني، الأسبوع الماضي، أن دماغي الآخر قد اكتمل نموه، لا يعني ذلك الكثير.

فهي كتلةٌ من اللحم الباهت اللون في حجم حبة البازلاء، تطفو في بحرٍ من المغذيات قانية الحمرة، بحجم جمجمة جنين، بالكاد يبلغ من العمر شهراً. ورغم ذلك، فهو بطريقةٍ أو بأخرى “دماغ”، وصُنِعَ من قطعةٍ من ذراعي لنكون أكثر دقة.

سأدَّعي أن ذلك ليس بالأمر الغريب، لكنه أيضاً ليس اختباراً لا جدوى له في الهندسة البيولوجية، أو جزءاً من عجرفة الدكتور فيكتور فرانكشتاين العلمية بعد مائتي عام من رواية ماري شيلي التي حملت الاسم نفسه.

العلماء الذين طوَّروا دماغاً مُصغَّراً لي يحاولون استخدامه في فهم كيفية تطور أمراض التنكُّس العصبي (مثل الزهايمر، وباركنسون، وغيرها)، التي تعني خريف الأدمغة، وذلك بتطوير عقول مُصغَّرة من أنسجة الأشخاص الذين لديهم قابلية وراثية لبدء ظهور أمراض في مرحلةٍ مبكرة من عمرهم مثل الزهايمر، فهم يأملون عن طريق ذلك في كشف الخلل الذي يحدث في الدماغ الناضج ليصاب بالمرض.

يمضي الكاتب في وصف مراحل التجربة التي أُجريت له في حجرة صغيرة، في مركز أبحاث مرض الخرف بكلية لندن الجامعية، في يوليو الماضي، حيث قامت الدكتورة روز باترسون، المتخصصة بعلم الأعصاب، باقتطاع جزء صغير من ذراعه.

لتتم “زراعة” ذلك النسيج المُستأصَل لتطوير خلايا الدماغ (الخلايا العصبية)، التي ستنظم نفسها لتصبح عقولاً مُصغَّرة.

العملية التي أجريت للكاتب كانت جزءاً من دراسة علمية تحمل اسم “عقول”، وهي إحدى دراسات مشروع “ديش”، وهو جزءٌ من مبادرة “Created Out of Mind” التي يستضيفها متحف “ويلكم كوليكشن” في لندن، لاكتشاف ومجابهة ووضع تصوُّراتٍ وفهمٍ للخرف عن طريق العلم والفنون الإبداعية.

حيث تدرس عالمة الأعصاب سيلينا راي، في كلية لندن الجامعية، علم الوراثة لمرض الزهايمر وغيره من أمراض التنكُّس العصبي، وقررت هي وطالب الدكتوراه لديها كريستوفر لوفجوي “تخليق” أدمغة صغيرة من خلايا مأخوذة من أربعة من فريق “Created Out of Mind” هم: الفنان تشارلي ميرفي، الذي يقود دراسة “عقول” في مشروع ديش، وفيرغوس والش الصحفي بهيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي، ونيك فوكس طبيب الأعصاب، وكاتب المقال فيليب بال.

استزراع أدمغة مصغرة في المعمل

Zweite-Geheren32

بعض الباحثين يكرهون مصطلح “الدماغ المُصغَّر”، كما يقول بال، وذلك لسببٍ وجيه.. “فهذا الجسم الذي هو بحجم حبة البازلاء ليس نسخةً مُصغَّرة من الدماغ في جمجمتي، وهو أيضاً إلى حدٍّ كبير لا يشبه الدماغ غير كامل النمو لجنينٍ في مرحلة مبكرة، فبدون وجود جسد، لا تعرف الخلايا العصبية تماماً كيف تصنع دماغاً سليماً.

لكن الأدمغة المُصغَّرة ليست بقعةً من الخلايا العصبية المماثلة لتلك الحقيقية، مثل جزء صغير من القشرة المخية.

ويمكن القول إن الخلايا العصبية “تريد” أن تُطوِّر دماغاً، ولكن في ظل غياب التوجيه الصحيح، لا تعرف تماماً كيف تسير.

لذا تقوم الخلايا بعملية تقريبية معقولة ولكن ليست مثالية. يحتوي الدماغ المُصغَّر على عدة أنواع من الخلايا الدماغية، المُرتَّبة بطريقةٍ تشبه نوعاً ما تلك الموجودة في الدماغ الحقيقي، في طبقاتٍ مثل خلايا القشرة المخية على سبيل المثال.

ويحتوي الدماغ المصغر حتى على نسخٍ ضئيلة وغير مكتملة للطيَّات والأخاديد على سطح دماغ حقيقي، والزوائد الموجودة في دماغ الجنين، التي ستصبح جذع المخ والجهاز العصبي المركزي، وستمتد إلى أسفل في العمود الفقري.

 ثورة “ياماناكا”  في هندسة الأنسجة

أكثر ما يثير الدهشة في هذا المشروع -بحسب فيليب- هو أن الخلايا العصبية كانت في بادئ الأمر قطعةً من ذراعه.

هذه الخلايا المُكوِّنة للجلد، والخلايا الليفية تم تحويلها إلى خلايا دماغية باستخدام تقنية تم استكشافها قبل عشر سنوات، وأحدثت ثورةً في مجال هندسة الأنسجة وأبحاث الأجنة، وجلبت لمخترعها، شينيا ياماناكا، جائزة نوبل.

كما أنها قلبت رأساً على عقب عقوداً من المعرفة التقليدية في البيولوجيا الخلوية. “تقول النظريات العلمية، إن أجسامنا نشأت من خليةٍ واحدة -بويضة مُخصَّبة- عن طريق الانقسام الخلوي، مصحوباً بزيادة في تخصُّص الخلية.

وفي الأيام الأولى من تطوُّرِ الجنين، تكون كل خلاياه قادرةً على النمو إلى أي نوعٍ من الأنسجة في الجسم.

وتسمى هذه الخلايا الجذعية الجنينية، ويسمى تعدُّد استخدامها بـ”تعدُّد القدرات”. مع نمو الجنين، تصبح بعض الخلايا ملتزمة بأقدارٍ محددة، يصبح بعضها خلايا للجلد والكبد، والدماغ، أو الخلايا المكونة للعظام وهكذا.

وينبع هذا التباين من تعديل النظام الجيني للخلية: تفعيل وإبطال الجينات.

عند حدوث التمايز الخلوي، تُغير كل الخلايا أشكالها، بالإضافة إلى وظائفها. فتنمو للخلايا العصبية الزوائد الطويلة الرقيقة التي تربطها بالشبكات، والنهايات مُجهَّزة بوصلات عصبية، حيث ترسل الخلية العصبية الإشارة الكهربائية إلى الخلايا الأخرى. عملية إرسال الإشارة تلك هي المُكوِّنة للتفكير”.

كيف نجح ياماناكا في ثورته؟

كان الاعتقاد القديم في البيولوجيا، كما يشرح بال، أن تمايز الخلايا هو عملية أحادية الاتجاه، أي أنه بمجرد التزام الخلية بالسير إلى قدرٍ مُحدَّد، فلا يمكن تغيير هذا الطريق، وأن الجينات التي يتم “إسكاتها” تُعطَّل إلى الأبد، ولا يمكن تنشيطها مرة أخرى.

لذلك فوجئ الباحثون عندما ذكر ياماناكا، عالم الأحياء في جامعة كيوتو اليابانية، في العام 2007، أن بإمكانه إعادة الخلايا البشرية المتمايزة مرةً أخرى إلى حالةٍ شبيهة بالخلية الجذعية، عن طريق حقنها بالمادة الوراثية، لتتمكَّن من تصنيع أنواع معينة من البروتين.

“استخدم ياماناكا وزملاؤه الفيروسات لحقن الخلايا الناضجة ببعض الجينات النشطة للغاية في الخلايا الجذعية الجنينية، ووجدوا أن أربعة منها فقط كانت كافية لتحويل الخلايا لتعود إلى الحالة مُتعدِّدة القدرات، لتصبح صالحة لكل المقاصد والأغراض، مثل الخلايا الجذعية.

أصبحت تلك الخلايا تعرف باسم الخلايا الجذعية المستحثة وافرة القدرات (iPSCs). من حيث المبدأ، يمكن زرع الخلايا الجذعية المستحثة وافرة القدرات خارج الجسم في أي نوعٍ من الأنسجة، وربما حتى إنماؤها للأعضاء الكاملة مثل البنكرياس أو الكلى، لتحل محل خلل وظيفي واحد عن طريق عملية زراعة الأعضاء.

يمكن إنماء الأعضاء من خلايا مأخوذة من ذراع، على سبيل المثال، من المُتلقي، وبالتالي نتجنَّب مشكلات رفض الجسم للأعضاء المزروعة الناجم عن تفاعلٍ مناعي

 تخليق الأعضاء بتوجيه الخلايا

Zweite-Geheren343

يتضمَّن تخليق الأعضاء معرفة كيفية توجيه الخلايا الجذعية متعددة القدرات المستحثة نحو نوع الخلية المناسب -كما يفصّل فيليب بال في مقاله- وقد يشمل ذلك إعطاء تلك الخلايا جرعة إضافية من الجينات النشطة للغاية في هذا النوع الخاص من الأنسجة.

“لكن كريس حوَّل الخلايا الجذعية المستحثة وافرة القدرات خاصة، لتصبح خلايا عصبية ببساطة، عن طريق تغيير المُستَنبَت المُغَذي؛ إذ يبدو أن هذه الخلايا الجذعية لديها تفضيل لتصبح عصبونات (خلايا عصبية)، لذا فهي تحتاج فقط إلى دفعةٍ لتنمو لها الوصلات العصبية وتتحوَّل لخلايا عصبية.

ومع ذلك، يمكن للخلايا أن تفعل الكثير بنفسها. اكتشفت عالمة الأحياء مادلين لانكستر ذلك عندما كانت تدرس نمو الخلايا العصبية من الخلايا الجذعية، وهي طالبة  دكتوراه في فيينا، في العام 2010. ووجدت أن الخلايا العصبية، عندما تُرِكَت مع نفسها من دون تدخُّل، كانت تبدأ في التخصُّص وتنظيم نفسها لتُشكِّل أدمغةً صغيرة”.

وقد قالت مادلين (التي تدير الآن مختبرها الخاص في جامعة كامبردج البريطانية)،  للكاتب، إن الخطة كانت تقتضي صنع بنيات عصبية مسطحة، يُطلق عليها “زُهيرات”، تم تصنيعها من قبل.

لكن الخلايا الجذعية للفأر التي كانت تستخدمه للتجربة لم تلتصق جيداً بسطح الأطباق. وبدلاً من ذلك، “كونَّوا هذه الهياكل ثلاثية الأبعاد الرائعة حقاً. لم يكن أمراً مقصوداً على الإطلاق”.

وقد بدأت هي وفريقها في زراعة هذه الهياكل من الخلايا الجذعية البشرية أيضاً. وتقول: “في البداية، كان أمراً مفاجئاً تماماً أن هذه الخلايا بإمكانها أن تصنع هيكلاً يُشبه الدماغ من تلقاء نفسها”. لم يكن الأمر منطقياً. فهذا النوع من التنظيم الذاتي هو بالضبط كما تقول مادلين “ما يفعله الجنين”.

وهذا ما أستطيع رؤيته الآن في الدماغ المُصغَّر الخاص بي، وهو أن أنواع الخلايا المختلفة الملطخة بالصبغة الفلورية تصبح كمجموعةٍ من النجوم الجميلة مُتعدِّدة الألوان تحت المجهر.

Zweite-Geheren344

وتسعى مادلين وآخرون الآن إلى إيجاد طرق لتزويد الأدمغة المُصغَّرة بمزيد من الإشارات التي قد يحصلون عليها في جنين في طور النمو، حتى أكثر شبها بالدماغ  المكتمل.

تقول الباحثة: “لست بحاجة إلى دماغٍ بشري مُكوَّن بشكلٍ تام في طبقٍ لدراسة المسائل البيولوجية”. لكنها إذا تمكَّنَت من تحسين التشابه في الجوانب الصحيحة، فستحصل على صورةٍ أفضل للعملية في الأجسام الحقيقية.

ويحكي بال كيف تستخدم مادلين الدماغ المُصغَّر المَكوَّن من ثلاثة أبعاد لمعرفة كيفية ثبات حجم الدماغ البشري. وقد درست “صغر الرأس”، وهو عيب في النمو ينتج عنه مخ بحجم صغير بشكل غير طبيعي. ويستخدم باحثون آخرون هذه العقول المُصغَّرة لدراسة حالات مثل الفصام والصرع، في كلية لندن الجامعية، حيث تجعلهم عالمة الأعصاب سيلينا يفهمون العملية العصبية في نوعين من الخرف: الزهايمر، والخرف الجبهي الصدغي.

وقد يبدأ ضمور أنسجة المخ عندما يتحوَّل نوعان من البروتينات، ويُسميان تاو ونشواني بيتا، من شكلهما الطبيعي إلى شكلٍ مُشوَّه.

هذه الأشكال تلتصق ببعضها البعض في كتلٍ وعُقدٍ تتراكم في الدماغ وتُسبِّب موت الخلايا العصبية. “ومن خلال زراعة أدمغة مُصغَّرة من خلايا الأشخاص الذين لديهم استعداد وراثي لهذه الأمراض (الذين يمثلون حوالي 1% إلى 5% من جميع الحالات)، تأمل سيلينا في معرفة الخلل الذي يحدث مع هذين النوعين من البروتينات أثناء نمو الخلايا العصبية.

تقول سيلينا: “إنَّنا نُنتِج أدمغةً مُصغَّرة لمحاولة متابعة المرض في الوقت الحقيقي. ونأمل في رؤية أولى التغييرات المرتبطة بالمرض، وهذا أمرٌ مهم عندما نفكر في تطوير العلاج”. ويتساءل الكاتب في ختام مقاله: “

ما هو شعوري حيال هذه القطع مني وهي تنمو في أطباق بحثية  في وسط المدينة، على بعد ستة أميال من المكان الذي أعيش فيه؟ لقد فوجئت باكتشاف أنهم لم يُعدوا، رسمياً، أجزاءً مني على الإطلاق.

لا تُصنَّف الخلايا التي قُسِّمَت خارج الجسم على أنها عينات من نسيجٍ من فرد، ولكنها تُصنَّف كـ”خطوط خلوية”، التي تُعد كيانات غامضة أكثر مُختلفة عن متبرعها الأصلي. ومع ذلك، مازلت أنظر إلى هذه الأدمغة المُصغَّرة على أنها “لي”.

شاهد أيضاً

“الإمبراطور الأبيض”.. مقاتلة الجيل السادس الصينية المصممة للهيمنة على السماء والفضاء

تشهد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة تصعيداً ملحوظاً في العديد من المجالات، من أبرزها التسابق …