“الجميع يتمادي إلى أقصى حدٍّ”، بهذه العبارة بدأ الكاتب الأميركي الشهير توماس فريدمان مقاله في صحيفة نيويورك تايمز الأميركية الثلاثاء 6 فبراير/شباط 2018، مستعرضاً ما آلت إليه الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط برمتها، معرجاً على الوضع بالولايات المتحدة، التي أصبحت بفضل ترامب مثار جدل في الأوساط العالمية.
وقال الصحفي المخضرم إنه من الصعب أن تقضي أسبوعاً في إسرائيل دون أن تخرج شاعراً بأن الحظ يحالف الإسرائيليين.
وأضاف: “لقد وضعوا ركائز صناعة تقنية متقدمة، ويبدو أن كل الأطفال يعملون لحساب شركة ناشئة ما. حتى إن العرب الموجودون في إسرائيل انتقلت إليهم العدوى، وارتفع عدد دارسي برامج البكالوريوس في الجامعات الإسرائيلية بنسبة 60% في الأعوام السبعة الأخيرة، ليبلغ 47 ألفاً.
وعن الوضع الإقليمي، قال فريدمان: “على المستوى الإقليمي، لم يكن العرب والفلسطينيون أضعف مِمَّا هم عليه الآن، ولم تحظَ إسرائيل بولاياتٍ متحدة تخطب وُدَّها بلا تردد، أكثر من الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب. اعترف ترامب بالقدس عاصمةً لإسرائيل، ولم يطلب من إسرائيل أي شيء في المقابل. وبالكاد، أصدرت الدول العربية أصواتاً خافتة اعتراضاً على الأمر”.
تنازلات ترامب أغرت المستوطنين
واعتبر فريدمان أن هذا الوضع أغرى المستوطنين الإسرائيليين وحزب الليكود الحاكم بتجاوز كل الحدود. ونقلت وكالة رويترز، في 31 ديسمبر/كانون الأول 2017، أن “حزب الليكود يحثُّ المشرعين بالإجماع في قرارٍ غير ملزم… على الضمّ الفعلي للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية إلى إسرائيل”.
وقال فريدمان: “بالتأكيد، سيصرخ البعض بأن هذا (فصل عنصري)، لكن اليمينيين الإسرائيليين يهزون أكتافهم في لا مبالاة، قائلين إن العالم سيعتاد الأمر. ستغطي نيكي هالي على جرائم إسرائيل في الأمم المتحدة. وسيُبقي شلدون أديلسون الحزب الجمهوري وترامب على المسار المرغوب فيه. وستُشيح الأنظمة العربية، التي تحتاج إلى إسرائيل في مواجهة إيران، بوجهها. دائماً ما ينتهي الأمر بهذه الطريقة، يعرف المستوطنون هذا ويرونه. لذا يسألون: لِم الانتظار؟ يظنون أن بإمكانهم ضم الضفة الغربية إلى سيادة إسرائيل دون منح الفلسطينيين المواطَنة. فقط، سيسمحون لهم بالتصويت في انتخاباتهم الخاصة”.
واستكمل الكاتب الأميركي: “ثمَّ تبادَر الأمر إلى ذهني: لقد رأيت هذا يحدث من قبل. كان اليوم هو السابع عشر من مايو/أيار عام 1983؛ يوم وقَّعت إسرائيل، بعد عام من غزو لبنان، معاهدة سلام مع بيروت. وكلمة (وقَّعت) ليست كلمة صحيحة تماماً. فقد فرضت إسرائيل (مدعومة من الولايات المتحدة) كل مطالبها الأمنية فعلياً على حكومة لبنان الضعيفة، شاملةً إطاراً لتطبيع العلاقات التجارية والدبلوماسية.
في ذلك الوقت، كانت إسرائيل تحت قيادة يميني آخر، وهو مناحم بيغن، الذي رعاه آنذاك رئيس أميركي بالغ الود، هو رونالد ريغان. وكانت مصر قد وقَّعت منذ مدة قريبة، معاهدة سلامٍ وخرجت من الصراع، ودعا قائدٌ عربي شاب آخر -قائد الميليشيا اللبنانية المسيحي بشير الجميل- إسرائيل إلى الانضمام إليه في سحق الفلسطينيين وصنع شرقٍ أوسط جديد، بحسب المقال.
وأضاف فريدمان: “كتب جوناثان راندل، زميلي في (واشنطن بوست بيروت)، كتاباً عن تلك الفترة بعنوان (التمادي إلى أقصى حد: أمراء حرب مسيحيون، ومغامرون إسرائيليون، والحرب في لبنان).
لطالما أحببت ذلك العنوان (التمادي إلى أقصى حد). يتكرر الأمر على الساحة، وينتهي في كل مرة تقريباً بلقطة من فيلم Thelma and Louise؛ أن يقفز الشركاء بسيارتهم من فوق الجرف، وهذا هو ما حدث مع إسرائيل في 1983.
وسرعان ما برزت ميليشيات لبنانية بقيادة حزب الله؛ من أجل مقاومة معاهدة 17 مايو/أيار. وفي الخامس من مارس/آذار 1984، بعد أقل من 10 أشهر من توقيع معاهدة أيار، كتبت في هذه الورقة البحثية من بيروت: “اليوم، ألغى لبنان رسمياً معاهدة انسحاب القوات مع إسرائيل”، إيذاناً بـ”نهاية ما سمي العهد الإسرائيلي في السياسة اللبنانية، وعودة لبنان بقوة إلى الجناح السوري العربي”.
كان وقتاً طيباً حتى نهايته.
لماذا العودة للماضي؟
وفسر الكاتب الأميركي سبب عودته إلى الماضي، قائلاً: “لماذا أحكي هذه القصة؟ لأنني أرى اليوم في كل مكان أنظر إليه أناساً يتمادون إلى أقصى حد”.
واستكمل فريدمان: “أرى الجمهوريون يهدمون مؤسستين من أكثر مؤسسات الدولة الأميركية قدسية -مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة العدل- لأن كليهما يرفض الانصياع لإرادة ترامب. أرى إيران تتحكم في 4 عواصم عربية: دمشق، وصنعاء، وبغداد، وبيروت. أرى حركة حماس لا تزال أكثر اهتماماً ببناء الأنفاق في غزة من بناء المدارس وتقوية بنيان المجتمع الفلسطيني”.
وأضاف: “أرى ولي عهد السعودية يأخذ بإحدى يديه خطواتٍ شديدة الأهمية -نحو اعتدال الإسلام السعودي والسماح للنساء بالقيادة والانفتاح الثقافي للمجتمع السعودي على العالم، وهي أشياء لم نتخيل قط أنها ممكنة- بينما يمد الأخرى ليختطف رئيس وزراء لبنان، ويبتاع لوحات فنية باهظة الثمن، ويستولي على الأعمال التجارية باسم محاربة الفساد؛ وهي أشياء لم نتخيل قط أنها -هي الأخرى- ممكنة.
أرى طالبان تقتل 103 أشخاص في كابل عبر تفخيخ سيارة إسعاف وقيادتها تجاه حشد من الناس. أرى الحوثيين، وأمراء الحرب في اليمن، والإيرانيين، والسعوديين والإماراتيين، يمزقون اليمن إرباً باسم الله.
أرى الرئيسين المصري والروسي يُقصون كل المنافسين الجادين في الانتخابات الرئاسية المقبلة ببلديهما. وأرى نتنياهو يحاول عرقلة تحقيق في تهم الفساد، عبر إضعاف النظام القضائي الإسرائيلي، ووسائل الإعلام الحر، والمجتمع المدني، تماماً مثل ترامب، وللأغراض نفسها: إضعاف القيود التي تحدُّ من الاستخدام العشوائي للنفوذ السياسي، بحسب فريدمان.
أرى الرئيس الأميركي يهدد بإلغاء أو حتى يلغي، اتفاقيات عالمية لا تعجبه – الاتفاقية النووية الإيرانية، ونافتا، والشراكة العابرة للأطلنطي، واتفاقية باريس للمناخ، والدعم الأميركي للفلسطينيين والباكستانيين – لكن بلا خطة واضحة أو بديلٍ واضح في الصباح التالي يُحسِّن من الوضع القائم.
“أميركا يقودها شخص كذوب”
والأسوأ من كل هذا، بحسب الصحفي الأميركي أن أميركا أقوى حُماة الحقيقة والعِلم والأعراف الديمقراطية في العالم – يقودها الآن شخصٌ كذوب، وهادمٌ للأعراف، ويفتح الباب أمام كل قائدٍ آخر أن يتساءل، ولِم لا أفعل أنا المثل؟
هل يمكن لأي شيء إيقاف وباء التمادي إلى أقصى حد؟ نعم: الطبيعة الأم، والطبيعة البشرية، والأسواق. كلها تكبح جماح الأمور حين لا يفعل أحدٌ ذلك.
وكيف هذا؟ لنلقي نظرة على غزة. بسبب وجود حماس وانعدام كفاءتها، وأيضاً القيود الإسرائيلية المفروضة على القطاع، تحصل غزة على عددٍ محدود من الساعات كل يوم من الكهرباء. والنتيجة: محطات الصرف الصحي المتهالكة من الأصل في غزة لا تعمل أغلب أوقات اليوم، وتصرف الفضلات مباشرة إلى البحر الأبيض المتوسط دون معالجة، بحسب فريدمان.
وتابع ثم يحمل التيار فضلات غزة شمالاً، حيث يسد محطة تحلية مياه البحر في أشكلون – التي توفر 15% من مياه الشرب في إسرائيل، وفقاً لموقع منظمة إيكوبيس الشرق الأوسط، وهي منظمة بيئية غير ربحية. وفي 2016 و2017، كان على محطة أشكلون إيقاف العمل من أجل تنظيف فضلات غزة من مرشحاتها. إنها طريقة الطبيعة الأم في تذكير الطرفين بأنهما إن حاولا التمادي إلى أقصى الحدود، وإن تجاهلا إقامة علاقة اعتمادية صحية بينهما، ستسممهما الطبيعة كليهما، بحسب فريدمان.
وختم الصحفي الأميركي مقاله قائلاً “يظن قاسم سليماني، الزعيم العسكري الإيراني، أنه الزعيم الأوحد. وتتحكم الجماعات الموالية له في أربع عواصم عربية، والجميع ينحنون له. لكن فجأة يبدأ الإيرانيون في التظاهر على أرض الوطن، احتجاجاً على تغول نفوذ سليماني. لقد سئموا رؤية أموالهم تُنفق على حزب الله وسوريا بدلاً من الإيرانيين. وفجأة أيضاً، تُصبح الصورة الأكثر انتشاراً على شبكة الانترنت في إيران هي صورة امرأة إيرانية تمزق حجابها وترفعه على طرف عصا.
وإن كنت لا تظن أن الأسواق لها طريقتها في معالجة الفوائض، فأنت لم تقرأ القصة الأبرز في نيويورك تايمز.
لذا، إلى كل من يتمادى إلى أقصى الحدود، أقول: احترسوا من السوق، احترسوا من الطبيعة الأم، واحترسوا من الطبيعة البشرية. لأن أول اثنين منهما، كما لاحظ المنظر السياسي الإسرائيلي يارون إسراهي “لا يمكن السيطرة عليهما، والثالث لا يُمكن قمعه”، كما قال فريدمان
أحدها تنتجه الكيمياء والأحياء والفيزياء، وأحدها هو توازن الجشع والخوف، أما الثالث فهو السعي البشري الأبدي إلى الحرية والكرامة. وفي النهاية، ستشكل هذه القوى الثلاثة المستقبل أكثر من أي قائد أو حزب يتمادى إلى أقصى الحدود.