بالصور – ماذا بقي لفرنسا في أفريقيا؟

ماذا بقي لفرنسا في أفريقيا بعد عقود من النفوذ الذي تبع عقود من الاستعمار؟ (تعبيرية/

خلال السنوات الأخيرة، أصبحت فرنسا التي كانت تُعتبر يوماً ما السيد غير المُعلن للقارة الإفريقية والمتحكم الأول في مقدراتها، تخسر قواعدها العسكرية ونفوذها السياسي بشكل متسارع في القارة السمراء أو “أفريقيا الناطقة بالفرنسية”. فمن مالي والنيجر وبوركينا فاسو وصولاً إلى تشاد والسنغال الآن، ينهار النفوذ الفرنسي وتنسحب القوات تترا نحو باريس، مع طلب حكومات هذه الدول إنهاء أي اتفاقيات تعاون عسكري أو دفاعي مع فرنسا، المستعمر القديم.

وخلال الأيام الماضية، قرّرت كل من تشاد والسنغال إنهاء اتفاقيات الدفاع التي تربطهما بباريس منذ نهاية الحقبة الاستعمارية، لتبدأ القوات الفرنسية بالانسحاب وإخلاء القواعد وتنكيس الأعلام 20 ديسمبر/كانون الأول 2024، حيث أقلع يوم الجمعة مئات الجنود الفرنسيين من مطار إنجامينا العسكري في تشاد على متن طائرة إيرباص في اتجاه فرنسا، وذلك بعد أيام من مغادرة الطائرات المقاتلة الفرنسية التي كانت متمركزة في البلاد لعقود طويلة.

وكانت تشاد نقطة محورية في العمليات العسكرية الفرنسية في أفريقيا، إذ كانت تمثل آخر نقطة انطلاق للقوات الفرنسية في منطقة الساحل بعد انسحابها من مالي وبوركينا فاسو والنيجر بين عامي 2022 و2023. فكيف وصلت فرنسا إلى هذه اللحظة الحرجة؟ وكيف انهار نفوذها الذي امتد لعقود بعد الاستقلال الاسمي لدول إفريقيا؟ وماذا بقي اليوم لفرنسا من تواجد عسكري في القارة السمراء؟

جنود فرنسيون خلال الانسحاب من آخر القواعد العسكرية الفرنسية في بوركينا فاسو 2023

الإرث الاستعماري الفرنسي في أفريقيا

  • منذ أن أنهت فرنسا احتلالها المباشر للدول الإفريقية في الستينيات، ظلت القارة مركز اهتمامها الاستراتيجي. وعبر العديد من الاتفاقيات الدفاعية، تعاونات اقتصادية، وقواعد عسكرية، نجحت باريس في ضمان سيطرتها غير المباشرة على العديد من الدول الإفريقية وخصيصاً في منطقة الساحل. منذ استقلال الدول الإفريقية في 1960، تدخلت فرنسا في القارة عسكرياً أكثر من ثلاثين مرة وبنت لنفسها عدداً من القواعد العسكرية.
  • بحلول السبعينيات، كانت فرنسا تمتلك منظومة متشابكة من القواعد العسكرية تمتد من دكار في السنغال إلى جيبوتي. هذه القواعد لم تكن فقط لحماية المصالح الفرنسية، بل لضمان بقاء الأنظمة الحليفة. في المقابل، حصلت فرنسا على صفقات حصرية لاستغلال الموارد الطبيعية مثل اليورانيوم من النيجر والنفط من الغابون وغيرها الكثير.
  • لكن هذا النفوذ، الذي بدا مستقراً لعقود، كان هشاً، فالشعوب التي رضخت تحت الهيمنة الاقتصادية والسياسية بدأت تطرح أسئلة: لماذا لم تتحسن حياتهم رغم الثروات الطبيعية الهائلة؟ لذا أصبحت فرنسا رمزاً للهيمنة الاستعمارية التي لم تعد مقبولة لدى الشعوب والحكومات الأفريقية. وفي السنوات الأخيرة شهدت عواصم العديد من الدول الإفريقية تظاهرات تطالب بإنهاء النفوذ الفرنسي سياسياً واقتصادياً، ورحيل القوات الأجنبية وتفكيك القواعد العسكرية.
  • في السنوات الأخيرة، كانت الانقلابات العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو مصحوبة بمعارضة علنية صريحة للوجود الفرنسي، فضلاً عن رغبات من جانب المجالس العسكرية نفسها في إخراج الوجود العسكري الفرنسي.
  • في الوقت نفسه، عملت الدول الأفريقية على تكوين شراكات مع لاعبين متنوعين آخرين بدلاً من فرنسا، مثل روسيا وتركيا والصين والهند والإمارات، مبتعدة عن الروابط التاريخية التي كانت تربطها ذات يوم بفرنسا الاستعمارية.
  • بناء على ذلك، واجهت فرنسا في عهد ماكرون، تقلص نفوذها في أفريقيا الفرنسية بشكل كبير، مما أضعف جهود ماكرون للحفاظ على أهمية فرنسا في المشهد الجيوسياسي الأفريقي.
  • رغم العمليات العسكرية المكثفة مثل “برخان”، لم تتمكن فرنسا من القضاء على “الإرهاب”. في الواقع، تزايدت هجمات الجماعات المسلحة، مما أضعف الثقة في فعالية باريس كحليف أمني.
  • ومن النيجر إلى الكاميرون، تكررت الاتهامات لفرنسا باستغلال الموارد الطبيعية دون تقديم عوائد حقيقية للسكان المحليين. هذه السياسات أُطلق عليها “فرانسافريك”، وهي رمز للاستغلال الاقتصادي والسيطرة السياسية. كما أن جيل جديد من القادة والشعوب الأفريقية بدأ يرفض إرث الاستعمار الفرنسي. وهذه الروح الوطنية غذت رغبة في قطع العلاقات مع المستعمر القديم وإعادة صياغة المستقبل.

1- مالي.. نقطة البداية للانسحاب الفرنسي

  • في عام 2013، أطلقت فرنسا عملية “سرفال” لمكافحة الجماعات المسلحة في شمال مالي. في البداية، استقبل الماليون القوات الفرنسية كـ”محررين”، لكن سرعان ما تحولت هذه المشاعر إلى عداء. حيث تدهورت الأوضاع الأمنية بشكل كبير، وتم توجيه اتهامات لباريس بسرقة الموارد، ودعم أنظمة غير شعبية وحكومات ديكتاتورية في القارة السمراء.
  •  في أيار/مايو 2014، استعادت مجموعات متمردة من الطوارق والعرب السيطرة على مناطق جديدة في البلاد مثل كيدال بعد مواجهات مني فيها الجيش المالي بهزيمة كبيرة. وفي آب/أغسطس، استبدلت فرنسا عملية “سرفال” بعملية “برخان” بمشاركة ثلاثة آلاف جندي فرنسي في منطقة الساحل الإفريقي.
الانسحاب الفرنسي من مالي 2022
  • في أيار/مايو-حزيران/يونيو 2015 تم توقيع اتفاق السلام في الجزائر العاصمة بين الحكومة المالية والمتمردين السابقين من الطوارق، لكن تطبيقه بقي صعباً واتهمت مالي فرنسا بالفشل الأمني بل مساعدة المتمردين والتعاون معهم. منذ ذلك الحين، امتدت أعمال العنف إلى الجنوب ثم إلى بوركينا فاسو والنيجر المجاورتين.
  • بحلول مايو/أيار 2022، وبعد انقلابين عسكريين، أعلنت الحكومة الانتقالية في مالي أن الوقت قد حان لإنهاء العلاقة مع باريس. حيث طلب المجلس العسكري الحاكم في باماكو من القوات الفرنسية المغادرة، مفضل التعامل مع قوى جديدة مثل مجموعة “فاغنر” الروسية.

2- جمهورية أفريقيا الوسطى

  • نهاية عام 2022، سحبت فرنسا آخر جنودها من دولة أفريقيا الوسطى، وقالت هيئة الأركان الفرنسية في بيان حينها إن في 15 كانون الأول/ ديسمبر 2024 غادر آخر جندي فرنسي ضمن المهمة اللوجستية في جمهورية أفريقيا الوسطى على متن طائرة عسكرية متجهة إلى باريس، لأن مهمة القوات الفرنسية هناك “لم يعد لها أي مبرر عملي”.
  • علقت فرنسا تعاونها العسكري مع أفريقيا الوسطى بعد تعزيز التعاون العسكري بين بانغي وموسكو. حيث كانت حكومة جمهورية إفريقيا الوسطى قد أعلنت في شهر حزيران/يونيو 2024 أن روسيا ساعدت بلاده لاستعادة 90% من أراضيها التي كانت بقبضة الجماعات المسلّحة.

3- الشعلة تنتقل إلى بوركينا فاسو

  • لم تكد باريس تستوعب صدمة الانسحاب من مالي وأفريقيا الوسطى حتى جاء الدور على بوركينا فاسو. ففي يناير 2023، ومع تصاعد الاحتجاجات الشعبية، طالبت الحكومة المؤقتة بخروج القوات الفرنسية من البلاد.
  • الأسباب التي دفعت فرنسا للخروج من مالي تكررت في بوركينا فاسو، فيما كان المشهد مشابهاً، إحراق الأعلام الفرنسية، ورفع أعلام روسية في الشوارع، ومطالب بالتحرر الكامل من النفوذ الفرنسي.

4- النيجر.. الضربة القاضية

  • في يوليو/تموز 2024، وبعد انقلاب عسكري آخر، أعلنت النيجر إنهاء الاتفاقية العسكرية مع فرنسا. هذا القرار كان له وقع الصاعقة على باريس، خاصة أن النيجر كانت تُعتبر حجر الزاوية في استراتيجية فرنسا الأمنية.
  • وكان للنيجر أهمية استراتيجية لدى باريس لا توازيها أي دولة أخرى في الساحل، فبفضل اليورانيوم الذي تستخرجه منها (يغطي 35 بالمئة من احتياجاتها) تبقى فرنسا مضيئة، حيث تعتمد الأخيرة على اليورانيوم لتشغيل محطاتها النووية التي تولد 70 بالمئة من الكهرباء، وفق إعلام فرنسي.
  • كما أن النيجر كانت تعتبر مركزاً لعمليات القوات الفرنسية في الساحل بعد طردها من مالي وبوركينا فاسو، وكانت تملك قاعدة عسكرية كبيرة في العاصمة نيامي. وتلعب هذه القاعدة العسكرية الفرنسية الدور الأبرز في مكافحة الإرهاب في الساحل، وأيضا مراقبة موجات الهجرة غير النظامية الإفريقية نحو أوروبا، كما أنها مركز لعمليات حلف شمال الأطلسي “ناتو” في المنطقة.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يستعرض القوات الفرنسية لدى وصوله إلى مركز القيادة لقوة “برخان” في نجامينا، تشاد، في 22 ديسمبر 2018

5- تشاد والغابون والسنغال: نهاية القواعد الاستراتيجية لفرنسا

  • في أواخر 2024، انضمت تشاد والغابون والسنغال إلى الدول الأفريقية التي أنهت وجود القواعد الفرنسية في القارة السمراء بنسبة كبيرة جداً. وتشكل خسارة تشاد أهمية خاصة بالنسبة لباريس.
  • لعقود من الزمن، كانت تشاد بمثابة حجر الزاوية في الاستراتيجية العسكرية الفرنسية في أفريقيا، مما مكنها من فرض قوتها في ليبيا وأفريقيا الوسطى ومنطقة الساحل. كما أن قرار السنغال بإنهاء اتفاقياتها له نفس الأهمية الرمزية، حيث أنهى وجوداً يعود تاريخه إلى ستينيات القرن العشرين.

ماذا تبقى لفرنسا في أفريقيا الآن؟

بحلول 2024، تقلص الوجود العسكري الفرنسي في إفريقيا بشكل كبير. أبرز القواعد المتبقية تشمل:

  • القاعدة الفرنسية في جيبوتي: تبقى جيبوتي القاعدة العسكرية الفرنسية الأخيرة في القارة الأفريقية، وهي قاعدة استراتيجية موجهة نحو منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وتنشر فرنسا فيها 1500 جندي بشكل دائم لخدمة القاعدة البحرية والجوية، بالقرب من مضيق باب المندب الذي يمر عبره 15% من حركة الملاحة العالمية.
  • وجود عسكري في قاعدة أبيدجان في ساحل العاج: رغم بقاء هذه القاعدة، إلا أن مستقبلها بات مهددًا مع تصاعد المعارضة الشعبية وتقليص القوات الفرنسية ومهامها.
  • وجود عسكري في قاعدة ليبرفيل في الغابون: تعتبر آخر قواعد فرنسا في غرب إفريقيا، ولكنها تواجه أيضاً ضغوطًا متزايدة للإغلاق. تقوم فلسفة الوجود الفرنسي في ساحل العاج والغابون على مشاركة المواقع العسكرية أولاً، ثم وضعها تحت السلطة الكاملة للدول المضيفة. وبدلاً من القواعد الكبيرة، ستكون هناك وحدات اتصال مشتركة بين القوات، تضم نحو 100 فقط عسكري، مهمتهم استقبال وحدات مؤقتة يتغير حجمها وفقاً للتدريبات والعمليات.

المصدر – وكالات – شبكة رمضان الإخبارية

شاهد أيضاً

الحلم الأمريكي.. كيف عكس إضراب عمال “أمازون” و”ستاربكس” توحش الرأسمالية؟

سائق أمازون برايم داخل شاحنة التوصيل الخاصة بهم يقود سيارته على طريق ريفي في ولاية …