بعد أيام قليلة من سقوط نظام الأسد، أرسلت لي زميلتي رقم هاتف سفانة بقلة، وهي عازفة قيثارة ومؤلفة موسيقية سورية، اعتقلت مرتين وتعرضت للتعذيب، إلا أنها رفضت مغادرة دمشق رغم رحيل كل أصدقائها تقريباً خلال الأعوام الأولى للثورة التي انطلقت عام 2011.
رغم كل ما تغير وتمزق واختفى على مدى تلك الأعوام الطويلة، لم يتغير شيء لدى سفانة، حتى رقم هاتفها بقي نفسه.
أثارت المقتطفات من قصة سفانة التي حكتها زميلتي السوريّة فضولي، فقررت التواصل معها لمعرفة المزيد عمّا تعرضت له، وما كانت شاهدة عليه خلال السنوات الماضية في سوريا، التي تحولت ثورتها إلى حرب أهلية شرسة استمرت حتى سقوط الأسد في وقت سابق من هذا الشهر.
بحثت مع سفانة عن إجابة لسؤال لطالما راودني: لماذا قرر بعض السوريين المعارضين عدم ترك البلاد خلال وجود حكم الأسد؟
“وُلدت في دمشق عام 1982 وبقيت فيها كل حياتي، لم أخرج منها لأكثر من 10 أيام وكان ذلك في إحدى رحلات السفر” هكذا بدأت سفانة حديثها في اتصال مع بي بي سي عربي.
تخرجت سفانة في المعهد العالي للموسيقى في دمشق عام 2008، وهي تحمل شهادة أيضاً في الأدب الإنجليزي. عملت في الترجمة واحترفت الموسيقى والعزف على آلة الهارب (وتُعرف أيضاً بالقيثارة والجنك)، وكانت حياتها روتينية حتى انطلاق التظاهرات المناهضة لنظام الأسد عام 2011، حين توجهت إلى النشاط السياسي عبر المشاركة في التظاهرات
وتقول سفانة لبي بي سي: “استمريت في المشاركة في التظاهرات حتى النصف الثاني من العام 2012، وذلك قبل أن ينفجر السلاح داخل البلاد”، وتتذكّر من تلك الفترة: “قبل هذا التحول، كنت موجودة في الشارع كمتظاهرة وناشطة أشارك في الاعتصامات والمظاهرات السلمية، وكنت أيضاً أعمل على تدريب مهارات الشباب السلميين لتنظيمهم، فيما يُعرف باسم التنظيم المجتمعي
اعتقال وتعذيب
في 8 أبريل/نيسان 2012، اعتقلت سفانة لأول مرة خلال مشاركتها في وقفة تضامنية مع صديقتها، ريما دالي، من أمام البرلمان، وتخبرنا أن ريما رفعت يومها لافتة كتبت عليها: “أوقفوا القتل، نريد أن نبني سوريا لجميع السوريين”.
أُفرج عن دالي بعد ثلاثة أيام، بينما أُفرج عن سفانة بعد 13 يوماً، لأنها كانت مطلوبة للأمن السياسي أيضاً.
وخلال فترة اعتقالها، تقول سفانة إنها بقيت في زنزانة صغيرة مع سيدة حامل في “فرع الخطيب” في دمشق، التابع لإدارة المخابرات العامة في النظام السوري، وتروي لبي بي سي: “أمضيت 3 أيام وأنا أسمع أصوات الأشخاص الذين يتم تعذيبهم طوال الوقت”، “ظروف الإقامة كانت سيئة جداً، السجانون كانوا قساة جداً، دائماً يصرخون ويشتمون، ويقدمون الطعام السيء مرتين في اليوم، ويسمحون لنا باستخدام الحمام مرتين في اليوم أيضاً”، والأهم من ذلك “كان صوت التعذيب لا يتوقف”.
بعد ذلك، نُقلت سفانة إلى فرع الجبة للأمن السياسي، حيث كانت الظروف أقل قسوة، “إلا أنه كان مليئاً بطلاب الجامعات حينها”، تقول سفانة إنهم “كانوا طلاب جامعات ناشطين في تنسيقيات دمشق، كان هناك متابعة دقيقة لكل تحركاتهم وكان النظام ينجح من خلال اعتقالهم في تفكيك هذه التنسيقيات السلمية”.
بعد شهر، تم اعتقال سفانة للمرة الثانية، كانت هذه المرة أقصر، ولم تتجاوز مدتها الـ24 ساعة، لكنه “كان اعتقالاً مرهقاً جداً على الصعيد النفسي”.
في هذه المرة، تخبرني أنه تمّ اعتقالها مع أربع متظاهرات أخريات، وتم نقلهنّ إلى فرع الأمن الجنائي، في مخفر القنوات، حيث “تعرضت للضرب والتعذيب والإهانة”.
وتضيف: “تعرض ثلاثة منا للضرب والتعذيب بالكابل الرباعي وللصعق بالكهرباء. كما تم صفعنا على وجهنا وشتمنا أثناء التحقيق معنا”.
حاولت سفانة التخفيف من قسوة تجربتها خلال حديثها معنا، وكررت أن “تجربتها لا تقارن بتجارب الآخرين”، رغم أن مستوى الأذى في النهاية لا يقاس بمدة اختباره.
إلى جانب الاعتقال، خاضت سفانة تجربة الخسارة. خسارة الأصدقاء، الأقارب، والعائلة، فمنذ 2011، خسرت عازفة الهارب 95 في المئة من أصدقائها، إمّا بسبب سفرهم، أو مقتلهم تحت التعذيب، أو اختفائهم وفقدان التواصل معهم، لا يخسر كثير منا مقربين منه بهذا الشكل.
“البوصلة الشخصية وثمن البقاء”
كانت سفانة تتحدث بألم وحرقة، رغم سعادتها بسقوط نظام الأسد في بلدها، استدركت بسؤالها: بعد كل هذه القسوة والفقدان والخوف، لماذا قررت البقاء في سوريا؟.
تنهدت بعمق وسكتت لبرهة، قبل أن تقول: “أكذب إذا قلت أن لديّ جواباً واضحاً حول ذلك”.
من وجهة نظر سفانة، لديها “بوصلة شخصية، شخصية جداً”، وتقول إنها لا تسقط أحكاماً على الآخرين، لكنها تعتقد “أنّ مكاننا ليس في الخارج بأي شكل من الأشكال”.
ترى سفانة أنها إذا تركت البلاد حينها و”أصبحت لاجئة في مكان ما، أو ضيفة أو أي تسمية أخرى”، كانت ستشعر بأنها تخلت عن أمر يخصها، لذلك، “كان البقاء هو الطريقة الوحيدة المتبقية للمقاومة، لأنني تجردت من كل الأسلحة الأخرى” كما تقول.
ذات يوم، في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023 شاركت سفانة منشوراً على فيسبوك، كتبت فيه: “ما في يوم يمرّ إلا وبحس حالي محظوظة لأنه قدري كان إنو كون منتمية للمجموعة البشرية سيئة الحظ بهاد العالم”، وختمته: “(لا أريد) الخلاص الفردي”.
تقول سفانة إن ما يحصل في غزة “حرك هذا المنشور”، إذ “اكتشفنا الكذبة الكبيرة بأن هناك هامشاً أكبر من الحرية في الخارج”، مستشهدة بـ”كيف كان يتم قمع الأصدقاء الذين كانوا يحاولون المشاركة بتظاهرات منددة بقتل المدنيين في غزة”، وهو أمر لم يكن ليناسبها لو كانت هناك (في دولة أخرى) كما تقول.
سفانة تفضل أن تكون “في الطرف المظلوم أو الذي يتعرض للاضطهاد”، على أن تعيش “في الطرف الآخر من العالم، وغير قادرة أيضاً على التعبير” على حد قولها.
وتوضح: “الإنسان قادر على أن يتأقلم مع أي ظرف من خياره هو سواء كان داخل البلاد أو خارجها، فالأشخاص الذين اختاروا ترك البلاد يعتبرون أن هناك أشياء من المستحيل أن يتحملها العقل البشري، مثل كيف تحملنا العيش تحت هذا النظام، وكيف كانت جميع تفاصيل الحياة تحت المراقبة وكيف كانت تنتقل الظروف الاقتصادية من سيء جداً إلى أسوأ”.
كيف تمسكت بالحياة؟
سفانة عازفة الهارب، والمترجمة، هي أيضاً زوجة وأم لطفل عمره اليوم 8 سنوات، يعاني من شلل دماغي ولديه احتياجات خاصة، وهو ما جعل فكرة السفر تتسلل إلى بالها في بعض اللحظات.
لكن، تعتبر سفانة أن ثلاثة أشياء ساعدتها لتجاوز الظروف الصعبة على مدى السنوات الماضية.
إذ أنها استخدمت الموسيقى كملجأ للشعور بالراحة وكذلك للتعبير والتعرف على أشخاص جدد.
خصصت الموسيقية منذ العام 2016، معظم وقتها لجوقة تتألف من موسيقيات محترفات، شاركت بتأسيسها واسمها “كورال غاردينيا”.
كما استكملت سفانة نشاطها الاجتماعي – السياسي التي كانت قد أوقفته في منتصف العام 2012 بطريقة أقل حدية، عبر الفرقة وعبر صفحة للقصص المصورة تعاونت فيها مع زوجها وأصدقاء لهما، تحت اسم “كوميك من أجل سوريا”.
تقول سفانة إنها فخورة جداً بهذين المشروعين، وتضيف أن “كورال غاردينيا” نظم في أحد المراحل وبالاشتراك مع إحدى المنظمات، نشاطاً لجمع شباب وشابات سوريين سوياً بشكل مستقل من كل مناطق سوريا كي يغنوا معاً.
وتقول: “من خلاله استطعنا تغيير الأفكار النمطية والمسبقة والتقريب بين أكثر من 250 شاب وشابة وهذا بالنسبة لي إنجازاً”.
وتعتبر عازفة الهارب أن الموسيقى تفتح مجالاً للتواصل مع أشخاص آخرين يشبهونها، إذ إنها لم تكن تعلم الكثير عن خلفيات الكثير من الأشخاص الذين قابلتهم بسبب الموسيقى قبل سقوط النظام، بسبب الخوف من النقاشات في أمور حساسة، ثم اكتشفت “أن لديهم معتقلين أو شهداء، وشاركتهم تجاربهم مع هذا النظام وهذا البلد”.
بعد كل خسارتها خلال السنوات الماضية، مازالت تتحدث سفانة بأمل، وتقول إن “الأصدقاء الذين يذهبون، يبقى لهم مكان خاص في القلب، ولكن هناك دائماً مجال للتعرف على أناس يشبهوننا”، فـ”سوريا كبيرة ويسكن الشام وحدها ملايين الأشخاص”.
لو أجرينا هذا الحديث مع شخص آخر غير سفانة، للمسنا أعراض اكتئاب وعجز وإحباط، غير أن سفانة لم تكن كذلك، سألتها عن سرّها للتمسك بالأمل، فأجابتني وصوتها يشي بابتسامة ارتسمت على وجهها: “أنا شخص يحب الحيوانات كثيراً، أنا سيدة القطط المجنونة في الحارة”.
وتوضح أن “وجود الحيوانات ورعاية الحيوانات اللقيطة في الشارع والتي هي بحاجة للمساعدة، يجعلك تشعر بأنك لست عاجزاً 100 في المئة، وأنه لا زال بإمكانك تغيير حياة كائن آخر، بغض النظر ما إذا كان كائناً بشرياً أو غير بشري”، الاهتمام بهم “علاج للاكتئاب” كما تصف.
أما شعارها الذي لطالما آمنت به، فهو “الحب طبعاً”، فــ”أن يكون الشخص حقيقياً مع الآخرين، سواء كانوا أهله أو معارفه أو طلابه، يخلق ذلك نوعاً من المحبة المتبادلة، وهذا ما يجعل الحياة أسهل وسط هذا الجحيم”، وتستدرك: “حتى في الجحيم، يمكننا أن نحب بعضنا البعض”.
“عائدون من الموت”
في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، استيقظ السوريون والعالم على إعلان المعارضة السورية سقوط حكم الأسد، ونهاية قرابة 14 عاماً من الصراع الدموي.
كان “أمراً كبيراً أن يشهد أحدهم على مرحلة تاريخية مماثلة” بالنسبة لسفانة، وتضيف: “أشعر بشعور يفوق الفرحة، كنا أموات وعدنا للحياة بما تحمله الكلمة من معنى، أشعر بأن الروح عادت لي”.
في هذه المرحلة من تاريخ بلادها، وبعد ما كانت شاهدة عليه، تُراود أسئلة بال سفانة: هل كان من الضروري أن نتعذب 13 سنة كي نصل إلى هذا اليوم؟، لكنها تستدرك بعد لحظات: “على ما يبدو، نعم، لأن هناك الكثير من الدروس التي تعلمناها”.
تصف سفانة حياتها خلال السنوات الماضية بأنها “صندوق باندورا، أو الصندوق الأسود الخاص بالطائرة”، الذي قامت بدفنه لسنوات كي “تنسى ولا تفكّر بشيء”، لكنها أعادت “فتحه في لحظة”.
كما يشعر كثير من السوريين الآن، تخشى سفانة من أن يُسرق صندوقها مرة أخرى، “لا أحد مستعد أن تسرق منه حياته مرة أخرى لأننا جربنا ما يعنيه ذلك” كما تقول.
لكن على الرغم من مخاوفها، ترى سفانة بأن أمام السوريين الكثير من العمل والكثير من الأسئلة التي تحتاج لإجابات، ومن بينها: هل سيتجمع السوريون مجدداً بعد أن توزعوا على بلاد العالم كله وأصبح لدى كل شخص حياة كاملة لا يستطيع الاستغناء عنها؟ هل سيجد من قرر المغادرة مكانه مرة أخرى؟ وهل هم مستعدون للعودة؟ كيف سيكون شكل المجتمع الآن؟.
وتستدرك: “نحن بحاجة لبعض الوقت لاستيعاب حجم المسؤولية الكبيرة التي ألقيت على عاتقنا الآن”.
استطاعت سفانة الأم والموسيقية والناشطة الاجتماعية أن تصمد في سوريا على مدى أكثر من 13 عاماً، وتجاوزت صراعها بين الرحيل والبقاء، لكن هناك في المقابل أكثر من ستة ملايين سوري اضطروا إلى النزوح والهجرة إلى خارج بلادهم.
قد تبدو قصة سفانة شخصية جداً، وهي كذلك بالفعل، لكنها قصة تسلط الضوء على جانب مما عاشه سوريون كثر منذ العام 2011 حتى اليوم، وتلخص الصراع الذي اضطروا لمواجهته بين معاناة وخسارة وألم وخوف ومحاولات للتجاوز والتأقلم والاستمرار، حتى وصلوا إلى لحظة يعتبرونها تاريخية في بلادهم، بالإضافة إلى ما يعيشه البعض من عدم يقين حول المستقبل.
المصدر – بي بي سي عربي – شبكة رمضان الإخبارية