ترك نظام الأسد، الذي مارس أشكالًا متوحشة من البطش والعنف، ندوبًا غائرة في أجساد وأذهان الشعب السوري. ومع سقوطه على أيدي المعارضة، بدأت تتكشف تفاصيل وحكايات مروعة عن الجرائم التي ارتكبها خلال مختلف مراحله، والتي اعتمدت على أدوات قمع عسكرية، كان حجر الزاوية فيها ما يُعرف بـ”الفرقة الرابعة”. هذه الفرقة لم تتردد في سفك دماء الشعب وسلك مختلف الطرق الإجرامية للحفاظ على نظام عائلة الأسد.
فبجانب دورها العسكري، لعبت الفرقة الرابعة دورًا حاسمًا في نجاة النظام بعد اندلاع الثورة عام 2011، عن طريق إدارة الجزء الأهم من اقتصاد الظلّ بما في ذلك عمليات إنتاج وتهريب المخدرات. مما حوَّلها إلى “دويلة سورية موازية”، كما وصفتها ورقة بحثية لموقع “الجمهورية”، حيث كشفت عن وحشيتها وقدرتها على العمل بمواردها الخاصة، وتسليحها المستقل، وجهازها الأمني المنفصل، إلى جانب علاقاتها المميزة مع حلفاء النظام الخارجيين.
في هذا التقرير سنتعرف على الفرقة الرابعة التي لم تكن مجرد أداة قمع، بل كيان وحشي أدار آلة عنف لا ترحم و شبكة معقدة من المصالح لضمان استمرار عائلة الأسد وإحكام قبضته على البلاد.
إذ يذكر أن الفرقة الرابعة كانت دائمًا كيانًا متمردًا ومتعاليًا على مؤسسة الجيش السوري، مشابهة في نهجها لسرايا الدفاع، و كانت من أهم أزرع نظام بشار، فكان من يشرف على هذه الفرقة العسكرية ماهر الأسد بنفسه، الذي كان المسؤول المباشر عن مجموعات “الشبيحة” التي فتكت بالمتظاهرين، واليد الباطشة لقمع المتظاهرين منذ بداية الثورة، وذكر أن ماهر كان يختار بعناية منذ بداية الثورة الضباط الموالين والمخلصين جداً لقيادة القمع ضد المتظاهرين والقطاعات العسكرية التابعة للفرقة الرابعة.
وعلى الرغم من أن اللواء “علي محمود” كان القائد الرسمي للفرقة، إلا أن القيادة الفعلية كانت بيد ماهر، الذي وجه العمليات مباشرة دون الرجوع إلى المستويات العليا في المؤسسة العسكرية، مما كرّس الفرقة الرابعة كأداة قمعية خارجة عن السياق التقليدي للجيش.
ماهر الأسد وفرقته.. جزّارو الثورة
وفقًا للعديد من التقارير، كان ماهر الأسد، وفرقته الرابعة، بجانب الحرس الجمهوري، في طليعة العمليات القتالية الأكثر وحشية منذ بداية الثورة السورية. فقاد ماهر فرق الشبيحة التي ارتكبت جرائم دموية، وتعامل مع الوضع في سوريا بمبدأ “إما بقاء النظام كله أو ذهابه كله”. فلعبت فرقته دورًا رئيسيًا في قمع الاحتجاجات بمدن درعا وبانياس، ومحافظات حمص وإدلب، حيث نفذت أعمال قمع عنيفة تركت بصمة دامية في تلك المناطق.
وذكرت صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” أن مقاطع فيديو ظهرت آنذاك، زعم النشطاء أنها تظهر ماهر الأسد شخصيًا وهو يطلق النار على متظاهرين عزّل في برزة بضواحي دمشق، لأنهم كان يطالبون بإسقاط نظام أخيه.
كما قاد بنفسه حصارا فرضته قوات الفرقة الرابعة في درعا، وكان مسؤولا عن وقف الاحتجاجات بالسلاح والنار، ففرضت عليه الولايات المتحدة الأميركية بعد ذلك عقوبات، وقالت إن الفرقة الرابعة “كان لها دور قيادي في تصرفات النظام السوري في درعا”.
وأفادت شهادات لجنود منشقين عملوا تحت قيادته أكدت تلقيهم أوامر مباشرة باستخدام القوة المفرطة وقتل المتظاهرين دون رحمة أو تردد. هذه الوحشية أكسبته لقب “جزار سوريا” بين منتقديه.
ومع تصاعد الثورة، تصاعدت مستويات العنف المنظم والعشوائي من قبل الفرقة الرابعة. في أغسطس 2012، شنت الفرقة الرابعة حملة دموية على مدينة داريا قرب دمشق، حيث كانت تشهد نشاطًا للجيش الحر. خلال خمسة أيام، نفذت القوات، بمشاركة مجموعات الشبيحة، مجازر مروعة أسفرت عن مقتل مئات المدنيين من الرجال والنساء والأطفال. داهم القتلة المنازل، ففصلوا الضحايا حسب العمر والجنس، ونفذوا إعدامات سريعة، بينما أظهرت بعض الجثث آثار التعذيب أو تشويه الأعضاء بشكل مهين
وصف موقع “الجمهورية” في ورقة بحثية، أن هذا العنف بأنه “استعراضي”، حيث أُعدم المدنيون من مسافات قريبة، وترك العديد من الجثث في الشوارع كتحذير للسكان. شهد البعض قتل وتعذيب أفراد عائلاتهم أمام أعينهم، في رسالة واضحة لتخويف السكان واخضاعهم عبر العلنية المتعمدة للعنف وتبني المسؤولية عنه.
وبحسب الورقة، كان للاستعراض العلني للعنف الذي مارسته الفرقة الرابعة تأثيرات انعكست على مسار الصراع. أولاً، ساهم في تطبيع العنف بين عناصر الفرقة، مما جعله ممارسة روتينية وأدى لتورط معظمهم، ما عزز من تماسك تلك الجماعة. ثانيًا، أدى استخدام الخطاب الطائفي إلى التحريض على العنف بين الجماعات، مما فاقم التوترات والانقسامات الطائفية.
إمكانات الفرقة الرابعة العسكرية
يقول الفيلسوف كارل ماركس إنّ التاريخ يعيد نفسه مرتين, مرة على شكل مأساة, ومرة على شكل مهزلة. وفي سوريا أعيد التاريخ كمأساة فبعد عقود تجددت ثنائية البطش العسكري في سوريا بين الرئيس وشقيقه، فالفرقة الرابعة التي هي امتداد لسرايا الدفاع التي كان يقودها رفعت شقيق حافظ الأسد، صارت بيد ماهر شقيق بشار، وبشكل أكثر ميكافيلية وعنفاً، نتيجة الانسجام بين بشار وماهر بجانب الدعم الإيراني اللامحدود والصلاحيات المفتوحة لها على كافة الأراضي السورية.
ووفقا لمقال معهد الشرق الأوسط للأبحاث، أفرزت الحرب في سوريا على مدار أكثر من عشر سنوات حاجة نظام الأسد الملحة إلى الفرقة الرابعة بسبب تدني مستوى القتال لدى الجيش السوري الذي لم يكن مؤهلا بالأصل من الناحية القتالية وعلى حرب العصابات، بالإضافة إلى قلق النظام من زج كل الجيش في معارك قاسية ما قد يؤدي إلى مزيد من الانشقاقات لذا اتجه نظام الأسد إلى تعزيز دور الفرقة الرابعة التي يشكل العلويون حوالي 95% من قوامها على مستوى الضباط والجنود العاديين، باعتبارها جناح لبشار الأسد وتم تزويدها بأنواع من الأسلحة غير موجودة في بقية الفرق العسكرية في الجيش السوري، الفرقة الرابعة من أربعة ألوية هي (38-40-41-42)، ويتبع لها كل من الأفواج 555 و 666 و 54، وكل هذه القطعات العسكرية هي من سلاح المدرعات، ويتبع لها فصائل وسرايا تخصصية كـ “الإشارة – السطع – الهندسة” وبقية قطاعات الجيش الطبيعية بحيث تأخذ شكل الجيش المتكامل، فيما تمتلك الرابعة لوحدها نحو 500 دبابة من مختلف الأنواع، إضافة إلى عربات مصفحة لنقل عناصر الإمداد والمشاة وبقية صنوف الأسلحة الملحقة بـ “المدرعات”.
وقد عززت الفرقة الرابعة قوتها العسكرية، بالكتيبة الانتحارية، بجانب كتيبة الكيمياء، وهي الكتيبة الوحيدة في الفرق العسكرية المعروفة في الجيش السوري التي لا تزال تمتلك ترسانة من الأسلحة الكيميائية المتعددة الصنوف، ويرى ضباط منشقون في الجيش عملوا في الفرقة الرابعة (التقى بهم كاتب المقال)، أن تلك الأسلحة تم إخفاؤها بالتعاون مع الحرس الثوري الإيراني في جبال الصبورة والمناطق الحدودية مع لبنان.
ووفقا للمقال كان يُقدر قوات الفرقة الرابعة بحوالي 18 ألف مقاتل، وكان أغلبية المتطوعين للقتال في صفوف الفرقة بعد الثورة هم من الهاربين من الجيش أو الأشخاص الذين كانوا مطلوبين جنائيا وتمت تسوية ملفاتهم مقابل القتال إلى جانب نظام الأسد، بالإضافة إلى الميليشيات الإيرانية من أجل تعويض النقص. ويرى الكاتب أن اختلاط الفرقة بالمليشيات الإيرانية والطائفية ساهم في تفسخ المنظومة العسكرية السورية.
بينما أشار تقرير لمؤسسة “جسور” للأبحاث، أن الفرقة الرابعة كانت تمتلك مكتبَ أمنٍ خاصاً بها، برئاسة العميد غسان بلال، وهو أشهر قادته، ويليه العقيد حسين مريشة والمقدم ياسر سلهب والرائد أحمد خير بيك ومجموعة من صف الضباط ومحققين وسرية حراسة. يتبع المكتبَ هيكلياً عدّةُ أقسام منها، قسم المتابعة والتحقيق، وقسم السجون، وقسم الحراسة، وقسم التجنيد، وقسم الحواجز، إضافة للإدارة الاقتصادية.
الفرقة الرابعة منقذ اقتصاد الأسد
بعد عام2011 بدأ اقتصاد النظام بالتراجع والتدهور في ظل ازدياد تكاليف العمليات العسكرية ، بجانب العقوبات الاقتصادية التي فرضت عليه بسبب قمعه الدموي لشعب السوري، مما أدى لصعوبة في تأمين رواتب عساكر النظام والمواد والمعدات اللوجستية المقدَّمة لهم؛ فلجأ النظام لإعطاء تسهيلات للفِرَق العسكرية – وخصوصاً للفرقة الرابعة بحكم وجود ماهر الأسد على رأسها- للبحث عن مصادر تمويل جديدة لكي يتمكن النظام من التنفس.
فبحسب عدة تقارير، كوّنت الفرقة اقتصاداً خاصّاً بها، شكّل جزءاً كبيراً من اقتصاد الظل، عمل على تمويل الفرقة وضباطها، فضلاً عن النظام عَبْر أعمال غير شرعية و إجرامية مثل تهريب المخدرات وإنتاجها والاستثمار الاحتكاري وتبييض الأموال، وفرض الإتاوات على الطرقات والحواجز العسكرية.
1. تهريب المخدرات
- منذ عام 2018، سيطرت الفرقة الرابعة على كل مراحل تجارة المخدرات، بدءًا من الزراعة والتصنيع وحتى التوزيع.
- استثمرت في مزارع القنب في وادي البقاع اللبناني، حيث يتم إنتاج المخدرات الأولية في مختبرات متطورة قبل تهريبها إلى سوريا عبر القلمون وحمص.
- أصبحت سوريا، بقيادة الفرقة الرابعة، مركزًا عالميًا لتجارة المخدرات من أجل انقاذ اقتصاد نظام عائلة الأسد.
2. الإتاوات وجباية الأموال
- تحولت حواجز الفرقة الرابعة إلى نقاط جباية على الطرقات والمعابر بين المناطق، حيث فرضت ضرائب مرور على الأفراد والشركات وشحنات البضائع.
- تمركزت الحواجز بشكل استراتيجي على مداخل المدن والمناطق الحيوية، مثل معابر لبنان (القلمون – وادي البقاع)، الأردن (نصيب)، والعراق (البوكمال)، إضافة إلى موانئ طرطوس واللاذقية.
- منح هذا التحكم الفرقة صلاحيات تعادل الجمارك الحدودية، مما أتاح لها فرض رسوم إضافية على كافة الواردات والصادرات وحتى البضائع المهربة.
3. النهب الممنهج (التعفيش)
- شكل النهب الممنهج جزءًا أساسيًا من استراتيجية النظام لتدمير الذكريات ووجود المدنيين في المناطق المستهدفة، عبر سرقة ممتلكاتهم وإعادة بيعها.
- تم تنظيم “التعفيش” ضمن دائرة اقتصادية متكاملة تشمل الطلب، التوزيع، والتسويق، بمشاركة الفرقة الرابعة وقوات شبه عسكرية ووحدات نخبة ووسطاء تجاريين.
- قامت لجان التعفيش بتنفيذ عمليات نهب واسعة للأحياء والضواحي، بما يشمل سرقة كل ما له قيمة، من الإلكترونيات والأدوية إلى الأثاث والملابس.
- أشرفت هذه اللجان على توزيع المواد المنهوبة بين الفرقة الرابعة وفصائل جيش النظام والمجموعات شبه العسكرية، ما عزز التمويل الذاتي لهذا النظام في الأخير.
لقد استغلت الفرقة الرابعة قدراتها الرسمية وغير الرسمية في تنفيذ استغلال اقتصادي ممنهج، حيث تموضعت كوسيط بين النظام وشبكات الجريمة المنظمة، لفرض الإتاوات والضرائب على الشعب السوري. و لعبت الفرقة دورًا حاسمًا في ضمان بقاء عائلة الأسد بعد اندلاع الثورة، مستغله مزيج معقد من الدوافع السياسية والاجتماعية والاقتصادية. و لم تتردد في ارتكاب أبشع الفظائع، لتكرّس من خلالها هيمنة النظام الاستبدادي وتعزز قبضته الحديدية على البلاد.
المصدر – وكالات – شبكة رمضان الإخبارية