اعتراف رسمي غير مباشر بفشل الدولة الفرنسية في دمج أحفاد المهاجرين كلياً، الذين ولدوا وترعرعوا في فرنسا، وهو ما تجلى في الأرقام “المخيفة” التي أعلن عنها المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية (INSEE)، إذ كشفت عن وضعية “قاتمة” لأحفاد المهاجرين في فرنسا.
في مفارقة صارخة تؤكد تنامي الخطاب المعادي للمهاجرين في فرنسا وتفند مزاعم اليمين المتطرف بشأن تفسير أسباب ذلك ومحاولات تبريره، أظهرت دراسة حديثة بعنوان “فرنسا، صورة اجتماعية” أن أحفاد المهاجرين، خاصةً المتحدرين من دول غير أوروبية، تعرضوا للتمييز مثل أجدادهم، بل بشكل أشد أحياناً.
الأصول الجغرافية: أبرز عوامل التمييز
على عكس ما قد يكون متوقعاً، لم يشفع للأجيال الأخيرة من المهاجرين ولادتهم في فرنسا وإتقانهم لغتها وتفوقهم الدراسي في تحقيق اندماج سلسٍ في المجتمع الفرنسي.
وحسب الدراسة الاستقصائية التي نُشرت يوم الخميس 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، تعرض نحو 34% من مهاجري الجيل الثاني المتحدرين من عائلات غير أوروبية للتمييز، مقارنةً بـ26٪ بالنسبة لوالديهم، ما يعادل فارقاً بـ8 نقاط بين الجيلين وفق معايير الدراسة.
في المقابل، كشفت دراسة المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية أن أحفاد المهاجرين في فرنسا من أصل أوروبي “أقل عرضةً للتمييز (13%) مقارنةً بالمهاجرين من نفس الأصول (19%)”، مشيرةً إلى الحال نفسه بالنسبة لأولئك المتحدرين من آسيا.
الدراسة، التي شملت حوالي 27 ألف شخص تتراوح أعمارهم بين 18 و59 عاماً، وأُجريت بالتعاون مع المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية، أكدت أن الأصل الجغرافي هو “العامل الأول للتمييز”.
بالتالي، فإن المهاجر أو سليل مهاجر من أفريقيا جنوب الصحراء كان أكثر عرضةً بثلاث مرات تقريباً للتمييز في السنوات الخمس الماضية مقارنةً بالمهاجر أو سليل مهاجر من جنوب أوروبا.
المهاجرون غير الأوروبيين: “الضحية الأولى”
على صعيدٍ آخر مرتبط بالبيئة المدرسية، لم تكن النتائج متباينة، إذ خلصت الوثيقة إلى أن أحفاد المهاجرين في فرنسا غير الأوروبيين يعانون من التمييز أثناء دراستهم.
وأوضحت الدراسة: “يقول 15% من أحفاد المهاجرين من المغرب العربي إنهم عوملوا بشكل أقل إنصافاً من الطلاب الآخرين في قرارات التوجيه، إما بسبب لون البشرة أو الأصل، كما أكد 14% من أحفاد المهاجرين من بلدان أخرى في أفريقيا أو تركيا أو الشرق الأوسط”. في المقابل، صرح 4% فقط من أحفاد المهاجرين من جنوب أوروبا أنهم كانوا عرضةً للتمييز.
كما أن تصاعد السلوك المعادي للمهاجرين وأحفادهم، ولّد شعوراً متنامياً لديهم بالإقصاء، إذ بات يُتجاهل أنهم وُلِدوا ونشأوا في فرنسا، ويصر البعض على نسبتهم إلى أصولهم كما توضح الدراسة، التي أظهرت نتائجها أن ربع المهاجرين من المغرب العربي و30% من أحفادهم غالباً ما يُسألون عن أصلهم.
والأمر نفسه بالنسبة لأكثر من 40% من المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء أو أحفادهم، وأكثر من ثلث المهاجرين من آسيا أو أحفادهم. وحتى إن كانت دوافع ذلك غير مرتبطة بالضرورة بسلوك سلبي أو سوء نية، فإن تكرار هذه المواقف، حسب المصدر، يؤثر سلباً على نفسية الأشخاص.
وفقاً لتقرير “INSEE”، الذي يعد جزءاً من وزارة الاقتصاد والمالية الفرنسية، فإن الشعور بالتمييز بين المهاجرين غير الأوروبيين وأبنائهم يعود إلى عدة عوامل ترتبط أساساً بالخصائص الديموغرافية والاجتماعية.
على الرغم من أن الوضعية المهنية والاجتماعية لجميع المهاجرين بغض النظر عن أصولهم قد تكون مشابهة، فإن الأصل الجغرافي والوضعية القانونية للمهاجر يظلان من العوامل الرئيسية المتسببة في تعرض أحفاد المهاجرين في فرنسا للتمييز.
كما أن أبناء المهاجرين، الذين يتمتعون بمستويات تعليمية أعلى ودرجة وعي أكبر، يميلون أكثر إلى الإبلاغ عن التمييز مقارنةً بالجيل الأول من المهاجرين، الذين غالباً ما يكونون أقل تعليماً وأكبر سناً ويفضلون الصمت.
وحسب مراقبين، فإن التعليم وزيادة الوعي لدى الجيل الجديد يسهمان في زيادة الشعور بالتمييز، كما أن التجارب السلبية في المدارس والمؤسسات الاجتماعية تزيد من تعقيد هذا الإحساس بين أبناء المهاجرين غير الأوروبيين.
معاناة أحفاد المهاجرين في فرنسا
في هذا السياق، يقول خبراء المعهد الفرنسي للإحصاء والدراسات في تصريح لـ”عربي بوست” إن زيادة حالات التمييز يمكن تفسيرها جزئياً بتطور الخصائص السوسيوديموغرافية من جيل إلى آخر، خصوصاً بتحسن مستوى التعليم بين المهاجرين، خاصةً غير الأوروبيين.
علاوةً على ذلك، يؤكد الباحثون المشاركون في إعداد الدراسة أن أبناء المهاجرين من غير الأوروبيين معرضون بشكل أكبر لمواقف قد تعزز وعيهم بالتمييز، ويعزون تنامي التبليغ عن مثل هذا النوع من السلوكيات إلى طبيعة معيشهم اليومي الذي قد لا يكون أكثر يسراً وسهولةً مقارنةً بغيرهم.
وحسب خبراء المعهد الذين تواصل معهم “عربي بوست”، فإن هذه التجارب أو المواقف قد تكون بدأت غالباً في المدرسة، حيث يعتقد 19% من أبناء المهاجرين من غير الأوروبيين أنهم تعرضوا لمعاملة أقل عدلاً.
حسب الدراسة، فإن الأمر الأشد والأكثر تأثيراً هو عيش تجارب عنصرية شخصية، مثل التعرض لإهانات أو تعليقات مسيئة أو مواقف عدائية، وهو ما حدث لـ45% من أبناء المهاجرين غير الأوروبيين (مقارنةً بـ8% فقط من الأوروبيين)، أي أكثر بـ15 نقطة مقارنةً بآبائهم.
ويشير المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية إلى أن “التجارب المتكررة للمعاملة غير العادلة (…) يمكن أن تولد شعوراً دائماً بالاغتراب، مما يفسر الإبلاغ الأكبر عن التمييز”.
وفي هذا السياق، يقول بيير تونّو، مؤلف الدراسة ومسؤول خلية الإحصاءات والدراسات حول الهجرة: “إن الانضمام إلى بيئة مهنية أفضل، حيث تتواجد نسبة أعلى من الأفراد غير المهاجرين، يجعلهم يواجهون سقفاً زجاجياً (عائقاً غير مرئي يحد من تطورهم المهني)”.
النساء والأشخاص في وضعية إعاقة
توضح دراسة “INSEE”، التي استندت إلى معياري التجربة والشعور بالأمان، أن نصف الضحايا تقريباً أفادوا بأن الأصول سبب رئيسي للتمييز (48%)، بينما ذكر 42% من ضحايا العنف التمييزي أن الجنس عامل رئيسي أيضاً، مع هيمنة واضحة للنساء (65%) مقارنةً بالرجال (13%)، أي أن النساء أكثر عرضةً بثماني مرات للعنف التمييزي بسبب جنسهن.
بالإضافة إلى ذلك، يعاني الأشخاص في وضعية إعاقة علائقية من سوء المعاملة وتمييز أكبر، حيث أبلغ نصف من استُطلعت آراؤهم عن تعرضهم للإساءة في عام 2022.
ويشير مصطلح الإعاقة العلائقية “handicap relationnel” إلى نوع من الإعاقة يتعلق بالصعوبات التي يواجهها الفرد في إقامة علاقات اجتماعية أو الحفاظ عليها.
هذا النوع من الإعاقة يمكن أن يكون مرتبطاً بظروف صحية نفسية، مثل اضطرابات التوحد أو اضطرابات التواصل أو القلق الاجتماعي، أو حتى الإعاقة الذهنية، حيث تؤثر هذه الحالات على قدرة الشخص على التفاعل مع الآخرين بشكل طبيعي، وبناء أو فهم العلاقات الاجتماعية بسبب عوامل نفسية أو معرفية أو تواصلية.
ووفقاً للمعهد، فقد طورت إدارة البحث والدراسات والتقييم والإحصاء (DREES) استبياناً مخصصاً ضمن جهاز دراسات “الاستقلالية” لتحديد أشكال الإساءة التي يتعرض لها الأشخاص الذين يعانون من إعاقات علائقية، فأكد نصفهم أنهم واجهوا قيوداً علائقية شديدة وتعرضوا على الأقل لإساءة واحدة خلال الاثني عشر شهراً الماضية.
المصدر – وكالات – شبكة رمضان الإخبارية