قبل بدء الاجتياح الاسرائيلي لجنوب لبنان، أيدت الولايات المتحدة اغتيال إسرائيل لحسن نصر الله، أمين عام حزب الله، في الوقت الذي أرسلت فيه قوات إضافية إلى الشرق الأوسط وواصلت مناشدة إسرائيل بقبول وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية. وأكد المسؤولون الأمريكيون اختراق القوات الإسرائيلية لأراضي لبنان، لكنهم اكتفوا بالقول إنهم يعتقدون أن الهجمات الإسرائيلية سوف تبقى محدودة.
يتعارض هذا المشهد مع ما حاولت الإدارة الأمريكية تصديره، خلال الأيام السابقة على اغتيال نصر الله، بل وطوال الحرب على غزة إذ حاولت أميركا إظهار نفسها بالإدارة العقلانية، فحاولت في كثير من المواقف تصدير نفسها كداعية لتهدئة المنطقة وعدم الرغبة في توسع الحرب، رغم تزامن ذلك تماما مع الدعم العسكري المطلق لإسرائيل.
فهل تعمدت الإدارة الأمريكية خداع الجميع بتلك التصريحات الداعية للتهدئة، في حين كان مسار الدعم العسكري اللامحدود لقوات الاحتلال لم يتوقف؟
أولاً :التصريحات والمواقف الأمريكية في الحرب على غزة
- خلال أول شهر في الحرب، وفي مقابلة عبر برنامج 60 Minutes، قال بايدن إن احتلال إسرائيل لغزة سيكون “خطأ فادحا”.
ودعا حينها بايدن إلى حماية المدنيين، لكنه طلب أيضاً من الكونجرس الموافقة على حزمة مساعدات تصل لنحو 106 مليارات دولار، منها أكثر من 14 مليار دولار إلى إسرائيل، وتم رصد أكثر من 10 مليارات دولار لتعزيز الدفاعات الجوية واستبدال مخزون الذخائر الذي استخدمته إسرائيل في منذ بداية الحرب.
وحينها عبر البيت الأبيض أكثر من مرة عن رفضه الهدنة، معتبرا إعلان وقف إطلاق نار في غزة “سيفيد حماس فقط”، داعيا إلى النظر في فترات “تعليق” فقط للقصف لإتاحة إيصال المساعدات الإنسانية إلى القطاع.
ولم ينتهي الشهر إلا وقد شن جيش الاحتلال الإسرائيلي هجوماً برياً على قطاع غزة رغم تفاقم الأزمة الإنسانية بسبب القصف العنيف الذي سبقه.
- في بداية الشهر الثاني للحرب، بدت الإدارة الأمريكية وأنها تناشد إسرائيل الكف عن استهداف المدنيين والقبول بهدنة إنسانية
لكن في نفس الوقت كانت واشنطن تقيم جسرا جويا لشحن أحدث الأسلحة لقتل الشعب الفلسطيني في غزة، وأصدر بايدن أوامره بمد إسرائيل بما تريد من أسلحة وآخرها ما يطلق عليه بعض المحللين بالقنبلة الغبية MK84 التي تزن طنا و الأكبر في عائلة MK80 القادرة على إحداث مساحة كبيرة من التدمير.
- في نفس الشهر أكد مسؤولين في واشنطن عدم السعى إلى توسيع رقعة تصعيد الحرب في غزة إلى حرب إقليمية
رغم ذلك كشفت وكالة “بلومبرغ” في نفس الشهر عن وصول الغوّاصة الهجومية “يو أس أس فلوريدا” التي تعمل بالطاقة النووية إلى منطقة الخليج، في خطوة تعني بتعزيز وجود الولايات المتحدة عسكريا في المنطقة.
بالتوازي مع ذلك كان بلينكن في زيارته الثانية للشرق الأوسط، و دعا في مؤتمر صحفي إلى هدنة إنسانية، وقال حينها إنه ناقش مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحكومة الحرب الإسرائيلية كيفية تطبيق فترات الهدنة تلك ومدتها وأماكن تطبيقها والتفاهمات، لكن قبل مغادرة بلينكن لإسرائيل كان نتنياهو يعلن رفض أي هدنة إنسانية إلا بعد الإفراج عن الأسرى.
- في ديسمبر/كانون الأول، وتحديداً خلال حفل لجمع التبرعات لحملة بايدن الانتخابية، حذر بايدن من فقدان إسرائيل الدعم الدولي بسبب “قصفها العشوائي” لغزة، وأكد على أن الحكومة الإسرائيلية الحالية هي “أكثر الحكومات تطرفا في تاريخ إسرائيل وهي لا تريد حل الدولتين“
رغم ذلك، لم تتضمن تصريحات الرئيس الأمريكي أي إشارة إلى تراجع دعم الولايات المتحدة للحملة العسكرية التي تشنها إسرائيل على غزة.
في نفس الشهر قد طالب مشروع قرار بمجلس الأمن بالوقف الفوري لإطلاق النار في غزة لأسباب إنسانية بعد أن وصل عدد الضحايا إلى 17 ألف شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى ودمار هائل في قطاع غزة، إلا أن واشنطن أفشلته باستخدمها لحق الفيتو.
- في بداية العام الحالي، أعرب وزير الخارجية الأمريكي بلينكن عن قلقه إزاء ارتفاع عدد الضحايا المدنيين الفلسطينيين ودعا إسرائيل لوضع خطة لحماية المدنيين، فيما أرسل وزير الدفاع لويد أوستن مستشارين لتقديم المشورة لقوات الدفاع الإسرائيلية بشأن ضبط النفس.
رغم ذلك، وبحسب صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، سلّمت واشنطن لإسرائيل حمولة 250 طائرة شحن ونحو 20 سفينة، بنهاية شهر يناير/كانون الثاني، أي حوالي 10 آلاف طن من الأسلحة والمعدات العسكرية التي لا تعرف طبيعتها.
في نفس الشهر، ذكرت القناة “12” الإسرائيلية أن صفقة أسلحة مثيرة من الولايات المتحدة ستصل إسرائيل، وأفادت بأن الصفقة المتوقع وصولها خلال أيام تتضمن آلاف الذخائر وسرب “إف-35” وسرب “إف-15” وسرب من مروحيات أباتشي. وأشارت القناة إلى أن الصفقة من أجل مواصلة القتال في غزة ومنع نقص الذخيرة والأسلحة.
- خلال فبراير نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” عن جون فاينر نائب مستشار الأمن القومي الأميركي أن الولايات المتحدة ارتكبت أخطاء في سياستها تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة.
رغم ذلك، وفي نفس الشهر استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية حق النقض “الفيتو” للمرة الثالثة منذ بداية الحرب في مجلس الأمن ضد مشروع قرار يطالب بـ”وقف فوري ومستدام للنار لأسباب إنسانية” في غزة.
ولم ينتهي الشهر، حتى دافعت إدارة الرئيس جو بايدن، عن الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية والقدس الشرقية، معتبرة أنه لا ينبغي لمحكمة العدل الدولية أن تصدر فتوى تدعو إسرائيل إلى “الانسحاب الفوري وغير المشروط” من الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967.
بل وقال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في نفس الشهر، إن الإدارة الأميركية مستعدة للعمل مع الكونجرس على فرض عقوبات على مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية بسبب طلب المدعي العام إصدار أوامر اعتقال بحق قادة إسرائيليين بسبب الحرب على غزة.
- في الثامن من فبراير، قال بايدن إنه يسعى إلى “وقف دائم للقتال” في غزة. وبعد 3 أيام، حذر بايدن نتنياهو بأنه لا ينبغي لإسرائيل أن تشن عملية عسكرية في رفح جنوب غزة دون خطة موثوقة لضمان سلامة ما يقرب من مليون شخص لجؤوا إلى هناك.
إلا أنه وبعدها بأسابيع كشفت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، نقلاً عن مسؤولين في وزارتي الدفاع والخارجية الأمريكيتين، عن موافقة إدارة بايدن خلال الأيام الماضية على تقديم حزمة مساعدات تقدر بمليارات الدولارات لتل أبيب.
ونقلت الصحيفة عن مصادر وصفتها بالمطلعة، أن الحزمة تشمل أكثر من 1800 قنبلة من طراز ” MK 84″ ، وقنابل زنة 2000 رطل، فضلاً عن 25 طائرة حربية من طراز “إف 35” إيه ومحركات.
- و أثناء عزم نتنياهو شن الهجوم البري الإسرائيلي، هدد بايدن بوقف إمدادات الأسلحة لإسرائيل إذا نفذت هجومًا واسع النطاق
لكنه تراجع عن تهديده لاحقًا، بعد أن اجتاح نتنياهو رفح في شهر مايو/ آيار، معتبرًا أن العملية كانت “ضمن الخط الأحمر” لإدارته. وفي يوليو، وثقت شبكة NBC News حجم الدمار في رفح، حيث تحولت المدينة إلى أنقاض، بعدما كانت مأوى لأكثر من مليون فلسطيني. المدينة أصبحت مهجورة تقريبًا بعد تسوية المباني بالأرض.
- في شهر يونيو، وخلال مقابلة خاصة مع مجلة “تايم” أيد بايدن، الاعتقاد السائد بأن نتنياهو يوسع الحرب على قطاع غزة “من أجل الحفاظ على مصالحه السياسية”.
إلا أن مجلس النواب الأمريكي صوت لصالح فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، بسبب تحرك مدعيها العام كريم خان لإصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ومسؤولين إسرائيليين آخرين، رغم معارضة بايدن وإدارته لمشروع القانون.
وتشير التقارير الغربية إلى أنه منذ 7 أكتوبر و حتى يونيو الماضي، سلّمت واشنطن لإسرائيل 14 ألف قنبلة زنة 2000 رطل و6500 قنبلة زنة 500 رطل، بالإضافة إلى صواريخ خارقة للتحصينات. وقد وقع الرئيس الأمريكي في أبريل حزمة مساعدات بقيمة 2.4 مليار دولار لدعم إسرائيل.
إذ ازدادت حاجة جيش الاحتلال الإسرائيلي للعتاد الحربي والذخائر؛ بسبب الاستخدام المفرط لقذائف المدفعية والدبابات والصواريخ، فتزايدت عمليات نقل الأسلحة الأميركية لتتجاوز السياسات والقوانين الأميركية المعنية بتصدير الأسلحة والتي دفعت المسؤول عن مكتب الشؤون السياسية والعسكرية بوزارة الخارجية الأميركية “جوش بول” إلى الاستقالة؛ احتجاجًا على عمليات نقل الأسلحة بهذه الضخامة والسرعة في مخالفة واضحة لقانون استخدام الأسلحة المتفجرة في المناطق المأهولة بالسكان، وكذلك لقانون السيناتور “باتريك ليهي” المعني بحقوق الإنسان، وقانون نقل الأسلحة التقليدية.
في هذا السياق أشار سينيسا فوكوفيتش، مدير برنامج السياسة العالمية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز: أن أغلب التصريحات الأمريكية تهدف بشكل أساسي الاستهلاك المحلي وليس لوقف إسرائيل.
ثانياً: أميركا تكرر تجربة غزة في لبنان
اليوم يرى المراقبين، أن الإدارة الأمريكية تعاود تتبع نفس الاستراتيجية في الخداع بالتصريحات بشأن تهدئة الأوضاع في الشرق الأوسط و منع الحرب وقتل الأبرياء.
- فبينما قالت الخارجية الأمريكية بوضوح: “ندعم وقف إطلاق نار في لبنان، وبإمكان الضغط العسكري تمكين الديبلوماسية، وقد يجرّ إلى عواقب غير مقصودة“. قالت إسرائيل يوم الخميس الماضي، 26 سبتمبر، أنها حصلت على 8.7 مليار دولار من المساعدات العسكرية من الولايات المتحدة، وقد تم بالفعل إرسال 3.5 مليار دولار منها.
- و قبل اغتيال الأمين العام لحزب الله، حسن نصر، بأيام قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي – إن “هناك طرقا أفضل لإعادة الإسرائيليين إلى منازلهم في الشمال، بدلا من الحرب وفتح جبهة ثانية ضد حزب الله”.
إلا أن التقارير أشارت إلى أن القنبلة التي يبلغ وزنها 2000 رطل والتي قتلت نصر الله كانت من صنع الولايات المتحدة – وهو نفس النوع من القنابل التي أوقفت الولايات المتحدة شحناتها في شهر مايو.
- وبينما أوضح مسؤولون أمريكيون لصحيفة “نيويورك تايمز” اعتقادهم بأنهم تمكنوا من إقناع إسرائيل بعدم تنفيذ غزو بري واسع في لبنان، وأن العمليات العسكرية ستكون محدودة وتشمل غارات أصغر حجماً في جنوب لبنان، حيث يُتوقع أن تستمر العملية لأيام وليس لأسابيع، بهدف “تطهير الحدود” وعودة السكان المدنيين.
شككت العديد من المصادر في صحة هذه التفاهمات، مشيرة إلى أن إسرائيل لا تنوي وقف إطلاق النار ولا تطبيق القرار 1701.
فوفقاً لجريدة الأخبار اللبنانية، بدأ الأميركيون بتنفيذ طلبات إسرائيلية تتعلق بإجراءات متعددة؛ من بينها رصد كل ما يدخل إلى مطار بيروت أو يخرج منه، والضغط على الأجهزة الأمنية والعسكرية لتشديد عمليات التفتيش للحقائب والأمتعة كافة.
كما اشترطت الولايات المتحدة أنّ أيّ مساعدات تصل إلى لبنان يجب أن تدخل عبر الأمم المتحدة في تكرار واضح لما حصل في غزة.
يجب الذكر أن هذا الدعم الأمريكي لإسرائيل في حربها على لبنان، يأتي بعد أن قدّم لبنان رؤيته السياسية والدبلوماسية لتجنّب الحرب، مكرراً موقفه بضرورة وقف الحرب عليه وعلى قطاع غزة، وضرورة الالتزام بالقرارات الدولية وتطبيقها، ولا سيما القرار 1701 الخاص بلبنان والقرار 2735 الخاص بغزة.
المصدر – وكالات – شبكة رمضان الإخبارية