من مجلس النواب لعُمدة نيويورك.. كيف تتم شيطنة احتجاجات الطلاب الأمريكيين؟

يبدو أن الولايات المتحدة تشهد موجة جديدة من المكارثية التي تكبح الحريات وتطارد المخالفين بشكل يشبه كثيراً من دول العالم الثالث، ويأتي ذلك في ظل رئيس تعهد بأن يجعل الديمقراطية أيديولوجية أمريكا في مواجهة الصين وروسيا.

وتشهد الجامعات حركة طلابية ضخمة، وصفتها صحيفة the guardian البريطانية التي قد تكون أهم حركة طلابية منذ الاحتجاجات المناهضة لحرب فيتنام أو قد تكون هذه “أكبر حركة طلابية حتى الآن” في القرن الحادي والعشرين، كما قال روبرت كوهين، أستاذ الدراسات الاجتماعية والتاريخ في جامعة نيويورك الذي درس النشاط الطلابي.

إلا أن الحركة قوبلت بعملية شيطنة وقمع قاسيين، تعيد للأذهان الحقبة المكارثية في الخمسينيات، وهي العملية التي قاد فيها السيناتور جوزيف مكارثي حملة بدعوى محاربة الشيوعية ضد كل من لديه ميول يسارية أو حتى نزعة سلامية أدت إلى اعتقال آلاف من الشيوعيين أو الذين يشك بأن لديهم توجهات شيوعية، وجرى تقديمهم إلى القضاء بتهمة محاولة الإطاحة بالحكم بالقوة أو العنف، وتركزت الحملة في الأوساط الأكاديمية والفكرية.

المكارثية.. اعتقالات ومحاولة لمنع انتقاد إسرائيل

أما الآن فإن عملية قمع الاحتجاجات تذكر بهذا التاريخ وتجربة المكارثية المريرة.. فالأمر لم يقتصر على اعتقال نحو ألفي طالب خلال عملية قمع احتجاجات الطلاب المناهضة للحرب، بل زاد على ذلك محاولة الخلط بين معاداة السامية ورفض الصهيونية وحتى انتقاد إسرائيل.

فها هو مجلس النواب الأمريكي، يصوّت لصالح قانون يوسّع التعريف المعتمد في وزارة التعليم لمصطلح “معاداة السامية”، ما ينطوي على خلط بينه وبين انتقاد “إسرائيل”.

وتتصاعد الأصوات التي تشيطن الحركة الطلابية والمؤيدين للفلسطينيين، بما في ذلك دعوات واضحة لتقييد حرية التعبير.

عمدة نيويورك يعتبر الطلاب أطفالاً يجب حمايتهم بالقوة من المخربين

وألقى عمدة نيويورك، إريك آدامز، باللوم في احتجاجات جامعة نيويورك على “محرضين محترفين”، وتحدث عن “حماية الشباب” بمساعدة الشرطة من “الأفكار الراديكالية”، ما يستعيد “المكارثية التي تأججت في الخمسينيات” الحاضرة في القاموس السياسي العالمي؛ كنموذج لبشاعة قمع الأفكار، حسب وصف الكاتب ياسر الزعاترة.

وزعم عمدة نيويورك، إريك آدامز، بأن محرضين خارجيين كانوا بطريقة أو بأخرى يغسلون أدمغة طلاب جامعة كولومبيا والتي تمثل نخبة الجامعات في العالم، الذين نعتهم مراراً باسم “الأطفال”.

وفكرة أن المتظاهرين أطفال -شباب أبرياء يحتاجون إلى حماية كبار السن الأكثر حكمة- لا تقتصر على آدامز. في الواقع، من الشائع في اليمين السياسي تقديم اليسار على أنه تم خداعه أو غسل دماغه من قبل قوى نافذة في عالم الإعلام أو الترفيه.

عمدة مدينة نيويورك، إريك آدامز، في مؤتمر صحفي أثناء قيامه يطلب فيه من شرطة مدينة نيويورك إخلاء المتظاهرين من حرم جامعة كولومبيا في 1 مايو

آدامز ديمقراطي، رغم أنه يميل إلى أن يكون محافظاً، حيث يخوض معركة شاقة للفوز في الانتخابات على مستوى مدينة نيويورك. وهنا، يقوم بتضخيم الخطاب المناهض لليسار الشائع، خاصة عند النظر في المواقف السياسية للشباب الأمريكي.

وأشار الزعاترة إلى أن اختطاف الصهاينة للقرار السياسي الأمريكي (بحزبيْه)، وهذه المرة يأتي في سياق دعمهم لإسرائيل، لن يمرّ عادياً في وعي الأجيال الشابة، وما يجري في الجامعات مؤشر واضح.

هكذا كانت تتم شيطنة مظاهرات طلاب الجامعات الأمريكية على مدار التاريخ
إن هذه النظرة السلبية للكليات ومظاهرات طلابها تكررت في مواجهة الاحتجاجات المعارضة لحرب فيتنام أيضاً.

فالتاريخ الأمريكي مليء بعمليات قمع الطلاب وشيطنتهم.

ففي عام 1969، استدعت جامعة هارفارد الشرطة لتفريق المتظاهرين المناهضين للحرب، كما فعلت جامعة كولومبيا قبل عام. وأدى كلا الحدثين إلى إنتاج صور لطلاب مصابين بكدمات ودماء.

شرطة لوس أنجلوس تعتقل طلاباً من مخيم احتجاجي لدعم الفلسطينيين بجامعة جنوب كاليفورنيا في 24 إبريل/نيسان 2024

في استطلاع للرأي أجرته شركة Harris & Associates في أكتوبر/تشرين الأول 1970، كان الأمريكيون أكثر ميلاً إلى عزو الاضطرابات في الحرم الجامعي إلى “الأساتذة المتطرفين” بدلاً من الحرب نفسها، حسب ما ورد في تقرير لصحيفة the Washington post.

وقبل بضعة أشهر من إجراء هذا الاستطلاع، هاجمت مجموعة من العمال الطلاب الذين كانوا يحتجون على الحرب في مانهاتن في حدث أصبح يعرف باسم “أعمال الشغب القوية”. وبحسب ما ورد شجع بعض ضباط الشرطة على هجوم العمال.

وفي حادثة وقعت عام 1970 ظلت محفورة في الذاكرة الوطنية الأمريكية، فتح الحرس الوطني في جامعة ولاية كينت في أوهايو النار على طلاب كانوا يحتجون على الحرب، فقتل 4 منهم.

الطلاب متعاطفون مع فلسطين وليسوا معادين للسامية

وفي الاحتجاجات الحالية بينما تتم المبالغة في المظاهر المحدودة لمعاداة السامية، يتم تجاهل تحرشات الطلاب المؤيدين لإسرائيل بالطلاب المناهضين للحرب.

كرر أعضاء الكونغرس خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي يركز على مزاعم معاداة السامية في الاحتجاجات، رغم أن السيناتور التقدمي اليهودي بيرني ساندرز رفض اعتبار انتقاد إسرائيل معاداة للسامية، ووصف مظاهرات الطلاب الأمريكيين بأنها سوف تعادل احتجاجات فيتنام بالنسبة للرئيس الأمريكي جو بايدن.

كما تم الترويج لمخاوف مزعومة على سلامة الطلاب ولاسيما اليهود، وتم تكرار مقولة أن الطلاب اليهود غير آمنين على أنفسهم رغم ظهور طلاب وأعضاء هيئة تدريس يهود أكدوا أنهم يشعرون بأمن وهم في قلب الاحتجاجات.

وكشف “عربي بوست” في تقرير سابق عن شبكة من المواقع الإلكترونية وحسابات على شبكات التواصل، تنفذ تفاصيل ما جاء في خطة وضعتها الحكومة الإسرائيلية، للتصدي للتظاهرات في الجامعات الأمريكية المتضامنة مع غزة والمنددة بالاحتلال. وتقوم الخطة على التشهير بالمتظاهرين وترهيبهم، بمن فيهم أمريكيون مشاركون بالتظاهرات، الأمر الذي يثير تساؤلات عن سماح أمريكا بتنفيذ الخطة ضد مواطنيها.

شرطة لوس أنجلوس تحيط بالطلاب الذين يحتجون لدعم الفلسطينيين في مخيم في حديقة الخريجين بجامعة جنوب كاليفورنيا

وساهم الإعلام الأمريكي في وصم الاحتجاجات بأنها معادية للسامية رغم عدم تقديمه أدلة تذكر، خاصة عبر تكرار اتهامات أعضاء الكونغرس دون تمحيص، ما مهد لعملية القمع الواسعة التي شملت أعضاءً في هيئة التدريس، رغم وضوح أن الطلاب اليهود الرافضين للحرب كانوا جزءاً أسياسياً من الاحتجاجات.

وقال جيم سليبر، الكاتب والمحاضر السابق في جامعة ييل، إن الطلاب ربما “يثمنون فلسطين بشكل رومانسي، لكنهم ليسوا معادين أقوياء للسامية”، ولكنه حذر من أن الاحتجاجات قد يجرى تحريفها من قبل البالغين الذين يسعون إلى تسجيل نقاط سياسية من خلال استخدام الاتهامات بمعاداة السامية كسلاح، حسب ما ورد في تقرير صحيفة the Guardian.

وأضاف سليبر: “نفس الأشخاص الذين كانوا يشكون في عام 2015 من الكليات الليبرالية التي تحول الطلاب إلى أطفال يبكون، يفعلون الآن نفس الشيء ولكن بشأن معاداة السامية”.

هذه المرة تم قمع المظاهرات بشكل سريع.. فهل يأتي ذلك بنتيجة عكسية؟
ويقول تقرير لموقع “Vox” الأمريكي إن هناك اختلافات رئيسية بين هذه المظاهرات وبين المظاهرات المناهضة لحرب فيتنام والنظام العنصري في جنوب أفريقيا، إلى جانب حجمها الأصغر، واجهت الاحتجاجات الحالية قمعاً أسرع مما تعاملت معه سابقاتها.

ولعل المثال الأكثر تطرفاً هو ما حدث في جامعة تكساس في أوستن، حيث أرسل المسؤولون بسرعة الشرطة المزودة بالخيول ومعدات مكافحة الشغب لقمع احتجاج مؤيد للفلسطينيين رغم غياب أية علامات للعنف فيه.

ويشير هذا إلى تدهور التزام المدارس بحماية حرية التعبير الذي ظهر في الستينيات.

وقال روبرت كوهين، أستاذ الدراسات الاجتماعية والتاريخ في جامعة نيويورك: “أعتقد أن حقيقة حدوث ذلك بهذه السرعة أمر غير مسبوق”. وأضاف: “إن الدعوة إلى قمع التعبير أصبحت أكثر علنية”.

وأضاف: “هذه الاحتجاجات بدأت للتو، ومن السابق لأوانه معرفة حجمها قبل بدء الدراسة في الصيف. لكن المعارضة التي واجهوها منذ بدايتهم قد تزيد من صعوبة بناء الزخم الذي كان لدى أسلافهم، وتحقيق أهدافهم”.

وقال ديفيد فاربر، أستاذ التاريخ في جامعة كانساس: “أعتقد أن هذا لم يحدث بالتأكيد في الستينيات”. “كل ما سيفعلونه هو تسريع غضب المزيد والمزيد من الطلاب، حتى أولئك الذين لا يشاركون بشكل مباشر”. “وهذا بالتأكيد ما حدث في الستينيات”.

المصدر – الصحف الأمريكية

Check Also

“الإمبراطور الأبيض”.. مقاتلة الجيل السادس الصينية المصممة للهيمنة على السماء والفضاء

تشهد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة تصعيداً ملحوظاً في العديد من المجالات، من أبرزها التسابق …