النمسا تعود مجدداّ للشرق الأوسط.. يا مرحبًا! – مقال

خيرا فعلت الدبلوماسية النمساوية بعودتها مجددا إلى الشرق الأوسط، بموقف متوازن على صعيد الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، بعد أن بدا الأمر فى أعقاب السابع من أكتوبر أن فيينا تقدم دعما غير محدود لإسرائيل، خصوصا بعد تصويتها ضد مشروع قرار لوقف إطلاق النار فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو ما ينفيه وزير الخارجية ألكسندر شالنبرج، الذى يؤكد استحالة قيام بلاده بالتصويت ضد وقف إطلاق النار، لكن التصويت كان ضد عدم إدانة القرار لحركة حماس، على حد قوله.

تدحرج الموقف النمساوى من الصراع فى الشرق الأوسط حتى وصل إلى نقطة التوازن النسبى، التى وصلت ذروتها خلال زيارة الوزير شالنبرج إلى المنطقة خلال الفترة من 27 إلى 29 فبراير الماضى، والتى زار فيها إسرائيل والأراضى الفلسطينية والأردن ولبنان. وحمل معه فيها تصورا نمساويا لإنهاء الصراع من عناصر ثلاثة، فصلها على النحو التالى:

أولا: وقف إطلاق نار إنسانى فى قطاع غزة حتى يمكن جلب المزيد من المساعدات الإنسانية إلى القطاع بالتوازى مع إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى حركة حماس.

ثانيا: خطة متوسطة المدى لغزة تحت إدارة فلسطينية مدنية، تحظى بتأييد إقليمى ودولى لتخفيف معاناة السكان المدنيين.

ثالثا: منظور طويل الأمد لحل الدولتين وتطبيع علاقات إسرائيل مع جيرانها العرب.

تابعت المؤتمرات الصحفية التى عقدها وزير خارجية النمسا فى المنطقة والتى وضح من خلالها موقف بلاده من الصراع فى الشرق الأوسط، والذى بد أنه يتناغم مع موقف أوروبى عام يجرى صياغته بعناية فى بروكسل، ومن ضمن ما لفت النظر فى تصريحاته فى تلك المؤتمرات، رفضه القاطع للدعوات الإسرائيلية للتهجير القسرى للسكان الفلسطينيين المدنيين من قطاع غزة، واعتبر أن ذلك مرفوض شأنه شأن رفضه للاحتلال.

وفى الوقت الذى دعا فيه إلى عدم السماح لحركة حماس بلعب دور سياسى مرة أخرى فى القطاع، انتقد الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين فقال: «لا ينبغى أبدا التشكيك فى حق إسرائيل فى الدفاع عن النفس. وفى الوقت نفسه، لا يشكل هذا الحق أبدًا شيكًا على بياض: فلا توجد دولة فى العالم فوق القانون ويجب احترام القانون الإنسانى الدولى دائمًا وفى كل مكان».

من وجهة النظر النمساوية، فإن حل الدولتين يشكل ضرورة أساسية على المدى الطويل. فهو الوسيلة الوحيدة التى تمكن الشعبان الفلسطينى والإسرائيلى من العيش جنبا إلى جنب فى سلام وحرية. ومن وجهة نظر شالنبرج «فإنه لا مفر من حل الدولتين.. لأنه العرض الوحيد المطروح على الطاولة».

وعلى الرغم من تعليق النمسا المبالغ التى تدفعها سنويا لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) إلا أن شالنبرج أعلن أن بلاده خصصت 13 مليون يورو لإغاثة طارئة للشعب الفلسطينى فى غزة منذ السابع من أكتوبر، بالإضافة إلى 10 ملايين يورو إضافية قررتها الحكومة النمساوية فى أثناء جولته فى الشرق الأوسط، ستحصل اللجنة الدولية للصليب الأحمر واليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية على 5 ملايين و3 ملايين و2 مليون يورو على التوالى.

أعاد الموقف الأخير المتوازن للدبلوماسية النمساوية فى الشرق الأوسط التذكير بميراثها فى هذا التوازن، خصوصا فى عهد المستشار برونو كرايسكى (1970 ــ 1983)، الذى كان داعما لمنظمة التحرير الفلسطينية، بدعوته الرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات إلى النمسا فى 1979 فى أول لقاء رسمى لأبى عمار مع زعيم أوروبى داخل القارة العجوز، فضلا عن صداقة كبيرة جمعت كرايسكى بالرئيس أنور السادات، فكانت فيينا محطة مهمة للرئيس المصرى فى إطار المفاوضات من أجل السلام فى أعقاب حرب أكتوبر 1973.

إن العالم فى اللحظة الراهنة التى تشهد صراعات عسكرية متعددة سواء فى أوروبا عبر الحرب الروسية ــ الأوكرانية، أو فى الصراع الفلسطينى ــ الإسرائيلى الممتد، يحتاج إلى النمسا المحايدة، التى هى الأرض الأصلح لأى مفاوضات للسلام فى العالم بميراثها الطويل فى هذا الخصوص منذ مؤتمر فيينا فى سنة 1815 الذى وضع حدا للحروب النابوليونية التى شنتها فرنسا على عديد من دول القارة العجوز.. فهذا هو قدر فيينا على الدوام ان تكون أرضا للسلام.. وأعتقد أن ذلك فيه الكثير من رأسمالها السياسى على صعيد المشاركة بفعالية فى الدبلوماسية العالمية.. من السهل أن تنحاز.. لكن الأصعب أن تكون نقطة ضوء يلتقى عندها الأفرقاء.

 

شاهد أيضاً

“الإمبراطور الأبيض”.. مقاتلة الجيل السادس الصينية المصممة للهيمنة على السماء والفضاء

تشهد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة تصعيداً ملحوظاً في العديد من المجالات، من أبرزها التسابق …