استأنفت إسرائيل عدوانها على قطاع غزة رغم “تحذيرات” إدارة جو بايدن للاحتلال بعدم تكرار ما حدث من تدمير واستهداف للمدنيين قبل الهدنة، فهل هناك “خلاف” بين الحليفين فعلاً؟
كانت إسرائيل قد أنهت الهدنة التي استمرت أسبوعاً وشهدت تبادلاً للأسرى، واستأنفت عدوانها على قطاع غزة، صباح الجمعة 1 ديسمبر/كانون الأول، وقصفت بشكل عشوائي ومكثف جميع مناطق القطاع، موقعةً أعداداً كبيرة من الشهداء والمصابين في غضون ساعات قليلة.
إذ كانت الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل قد أعلنت منذ عملية “طوفان الأقصى”، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، أن القضاء على حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في غزة هو الهدف الرئيسي، واجتاح جيشها القطاع برياً لتنفيذ هذا الهدف.
و”طوفان الأقصى” هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية “حماس” على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال، الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين في ذلك اليوم، شنّت “حماس” اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقوا الجدار الحديدي، وسحقوا فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها “في حالة حرب”، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
كيف كان الموقف الأمريكي من عدوان إسرائيل؟
كان الموقف الأمريكي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول ليس فقط داعماً لإسرائيل على جميع المستويات، بل ومتبنياً لرواياتها المضللة وسعيها المتواصل لشيطنة المقاومة الفلسطينية، وذرف بايدن ومسؤولوه الدموع أمام الكاميرات وزاروا إسرائيل للتباهي بهذا الدعم والانحياز المطلق.
لكن مع تكشّف الأكاذيب الإسرائيلية بشأن ما حدث يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول من جهة، وارتكاب الاحتلال جرائم متواصلة بحق الفلسطينيين في غزة؛ ما أثار غضباً شعبياً عارماً حول العالم، بدأت الإدارة الأمريكية تخفيف لهجتها بشكل تدريجي، وإن ظل دعمها المادي والسياسي لإسرائيل على حاله.
ومع استمرار العدوان الإسرائيلي وارتفاع حصيلة الشهداء والمصابين المدنيين في غزة، وبخاصة من الأطفال والنساء، وانتشار صور الدمار الهائل الذي يصيب القطاع، ازداد الغضب الشعبي في أمريكا حدةً، وبدأت تخرج للعلن معارضة آلاف الموظفين في الإدارة لموقف بايدن المنحاز لإسرائيل، كما حذَّر دبلوماسيون من أن المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط تتعرض لخطر داهم، وأن كراهية أمريكا عادت لتتصدر المشهد.
ومع دخول أمريكا في عام انتخابي يسعى خلاله بايدن إلى الفوز بفترة رئاسية ثانية، بدا واضحاً أن مواصلة إعطاء “شيك على بياض” لإسرائيل قد تكون لها تداعيات سلبية على الموقف الانتخابي للرئيس من جهة وعلى المصالح الأمريكية في المنطقة وحول العالم من جهة أخرى، وهو ما أدى إلى بداية التحول “الخطابي” في الموقف الأمريكي.
حاملة الطائرات “جيرالد فورد” أرسلتها أمريكا لدعم إسرائيل
وبعد أن وافقت إسرائيل على الهدنة الهادفة لتبادل الأسرى، وهي الهدنة التي كانت قد دخلت حيز التنفيذ صباح الجمعة 24 نوفمبر/تشرين الثاني، بدأ الحديث أمريكياً عن مساعي تمديد الهدنة، وبدأت تظهر “مأساة المدنيين في غزة” في تصريحات بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن وباقي مسؤولي إدارته، مشددين على ضرورة تكثيف إدخال المساعدات الإنسانية للقطاع.
ومنذ اللحظة الأولى وحتى مع بدء الاجتياح البري الإسرائيلي لقطاع غزة، تجاهل بايدن ومسؤولو إدارته تماماً المطالبات الدولية المتصاعدة بضرورة وقف إطلاق النار، في تماهٍ كامل مع موقف الاحتلال، وذلك رغم التقارير الإعلامية الأمريكية التي تحدثت عن “خطاب مختلف” بين الأمريكيين والإسرائيليين خلف الأبواب المغلقة.
ما تحذيرات إدارة بايدن بشأن غزة؟
الأمر المؤكد هنا هو أن سمعة الولايات المتحدة ومصداقيتها الدولية قد تضررتا بشدة، وذلك نتيجة دعمها غير المشروط للعدوان الإسرائيلي المدمر على قطاع غزة، لكن الولايات المتحدة تظل البلد الوحيد الذي يتمتع بما يلزم من العلاقات والنفوذ لضمان تمديد وقف إطلاق النار، وتسهيل عملية قد تؤدي إلى اتفاق لإنهاء الصراع أخيراً وبعد طول انتظار، بحسب تقرير لمجلة Foreign Affairs، قالت فيه إنه يتعيّن على إدارة بايدن الآن توضيح الأسباب التي تُثبت أن تمديد وقف إطلاق النار يصب في صالح الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، وكذلك في صالح الولايات المتحدة وشركائها الدوليين.
لكنّ إسرائيل كسرت الهدنة ورفضت تمديدها واستأنفت بالفعل عدوانها على القطاع، وهنا لا بدَّ من التوقف عند التفاصيل المعلنة للموقف الأمريكي؛ إذ كان بلينكن في إسرائيل -في زيارته الثالثة- عشية استئناف العدوان الإسرائيلي، فماذا قال علناً قبل ساعات فقط من قصف إسرائيل المتجدد لقطاع غزة؟ قال بلينكن للصحفيين إنه أبلغ نتنياهو بأن إسرائيل لا يمكن أن تكرر في جنوب غزة ما حدث في شمال القطاع من خسائر فادحة في أرواح المدنيين ونزوح للسكان.
وقال بلينكن أيضاً: “ناقشنا تفاصيل الخطط الحالية لإسرائيل، وشددنا على أنه من الضروري بالنسبة للولايات المتحدة عدم تكرار ما حدث في الشمال من خسائر فادحة في أرواح المدنيين ونزوح السكان في الجنوب”، موضحاً أن الحكومة الإسرائيلية وافقت على ذلك، بحسب رويترز. ولم يعلق بلينكن، وهو في طريقه إلى الإمارات صباح الجمعة، على استئناف إسرائيل عدوانها على غزة، موضحاً أن مفاوضات تمديد الهدنة لا تزال مستمرة.
ماذا يعني ذلك؟ شبكة CNN الأمريكية وصفت الموقف الأمريكي بأنه “خطوة مهمة لإعادة صياغة الحرب بين إسرائيل وحماس”، مستشهدة بما “حذرت” منه إدارة بايدن حليفتها في “المرحلة الثانية” من العدوان على غزة، وهي مرحلة اجتياح جنوب القطاع برياً. فإسرائيل لا بدَّ أن تتجنب تماماً استهداف المدنيين وألا تستهدف المستشفيات أو محطات الطاقة والمياه وغيرها من البنية التحتية، بحسب ما أكده بلينكن.
وبحسب بلينكن، وافق نتنياهو على تلك “المطالب الأمريكية”، ويظل السؤال هنا متعلقاً بما إذا كانت إسرائيل ستلتزم فعلاً بتلك “التحذيرات” أم ستواصل ما كانت تقوم به قبل الهدنة، بحسب الشبكة الأمريكية.
كما طلبت إدارة بايدن من إسرائيل أن “تسمح للمدنيين الذين نزحوا إلى جنوب القطاع بالعودة إلى شماله قبل أن تستأنف إسرائيل حربها على غزة”، إضافة إلى تحديد مناطق وممرات آمنة في جنوب القطاع يحتمي بها المدنيون من القصف الإسرائيلي، وألا يتم استهداف تلك المناطق تحت أي ظرف من الظروف.
وتعليقاً على هذا الموقف، قال للشبكة الأمريكية آرون ديفيد ميلر، المفاوض الأمريكي للسلام في الشرق الأوسط، إن هناك تغيراً واضحاً في “لغة الخطاب” الأمريكية تجاه إسرائيل: “الرسائل العامة التي تصدر عن الإدارة، بداية بالرئيس ومروراً بباقي المسؤولين، تنص على أنه إذا كانت إسرائيل ستواصل حملتها لمدة طويلة، فسيكون عليها أن تتعامل مع حقيقتين: الأولى ألا يهاجموا أي مواقع بها كثافة سكانية مرتفعة، والثانية عليكم أن تسمحوا بتدفق المساعدات الإنسانية للقطاع”.
كما جاء في تقرير لموقع Axios الإخباري الأمريكي أن بلينكن وجَّه، خلال زيارته الأخيرة لإسرائيل، بأن “الضغط الدولي سيتصاعد بشدة كلما طال أمد الحرب”، وذلك رداً على ما أطلعه عليه رئيسُ الأركان الإسرائيلي هيرتسي هاليفي من أن “العملية العسكرية في غزة، بما في ذلك الجزء الجنوبي من القطاع، من المتوقع أن تستغرق أكثر من مجرد بضعة أسابيع إضافية”، في مؤشر على أن قادة جيش الاحتلال يسعون لدى واشنطن لأن توفر لهم الغطاء والدعم اللازمين طوال تلك المدة غير المحددة أصلاً.
هل يوجد “خلاف” بين إسرائيل وأمريكا؟
لكن على الرغم من تلك “التحذيرات” والتحول الواضح في “لغة الخطاب” الأمريكية، وهي مؤشرات على وجود “خلاف” بين الحليفين، فإن هناك وجهة نظر أخرى ترى أن هذا “الخلاف” لا يزيد عن كونه “خلافاً ثانوياً” وليس خلافاً “جوهرياً”.
“أمريكا لا تريد أن تقتل المدنيين في غزة باستخدام الصواريخ، لكنها تريد للاحتلال أن يستخدم الرصاص لتحقيق هذا الهدف”، هكذا علَّق خليل الحية، القيادي البارز في حركة حماس، على التباين بين الموقفين الإسرائيلي والأمريكي، وذلك في معرض حديثه لقناة الجزيرة الجمعة 1 ديسمبر/كانون الأول حول كواليس مفاوضات تمديد الهدنة التي كسرتها إسرائيل.
كما نشر موقع The Intercept الأمريكي تحليلاً يؤيد نفس وجهة النظر، يرصد كيف أنه حتى أعضاء الكونغرس الأمريكي الذين يطالبون إدارة بايدن بالضغط من أجل وقف إطلاق النار يشترطون أن “يتم القضاء على حركة حماس”؛ كي يتم إنهاء العدوان، وهو شرط “خيالي ومستحيل تنفيذه عملياً”.
وفي الوقت الذي ارتفع فيه عدد أعضاء الكونغرس المطالبين “بوقف إطلاق النار”، يستعد الكونغرس للموافقة على حزمة مساعدات لإسرائيل تبلغ قيمتها أكثر من 14 مليار دولار، في تناقض صارخ بين القول والفعل، وهو ما لخَّصه تقرير الموقع الأمريكي في عنوان تقريره “بعض السياسيين المطالبين بوقف إطلاق النار” لا يدعون فعلاً لـ”وقف إطلاق النار”.
ويؤكد وجهة النظر هذه ما شهدته الساعات الأولى من كسر إسرائيل للهدنة واستئناف عدوانها على القطاع، حيث قصفت الطائرات والمدافع والبوارج الحربية جميع أنحاء غزة واستهدفت مدارس ومباني سكنية في شمال ووسط وجنوب القطاع بكثافة ربما تزيد عما كانت تفعله قبل الهدنة.
وخلال الساعات الأولى من صباح الجمعة، ارتقى أكثر من 40 شهيداً وأصيب المئات، جميعهم مدنيون، بعد أن هدم القصف الإسرائيلي منازل ومدارس فوق رؤوسهم، في انتهاك واضح لا لبس فيه لتلك “التحذيرات والمطالبات” التي قالت إدارة بايدن إنها وجَّهتها لإسرائيل، وإن الأخيرة وافقت عليها.
وعندما وجَّه صحفيون أسئلة بشأن هذه النقطة للمتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية، آيلون ليفي، كرر نفس الأكاذيب المعتادة من جانب الاحتلال، على شاكلة: “نلتزم بالقانون الدولي في الحرب” و”جيشنا أكثر جيش أخلاقي في العالم” و”لا نتعمد استهداف المدنيين”. لكن ليفي، شأنه شأن نتنياهو ووزير الدفاع غالانت وباقي القيادات السياسية والعسكرية في إسرائيل، لم يقدم أي دليل على أن جيش الاحتلال يستهدف المقاومة وليس المدنيين العزل.
لم يصدر أي تعليق عن بايدن ولا بلينكن ولا أي مسؤول أمريكي آخر بشأن هذا العدوان الإسرائيلي المتجدد بعشوائيته واستهدافه المتعمد للمدنيين في غزة، بينما أصدرت حركة حماس بياناً اتهمت فيه واشنطن بأنها “شريك إسرائيل في قتل المدنيين في غزة”.
الخلاصة هنا هي أن هناك وجهتَي نظر بشأن الموقف الأمريكي من عدوان إسرائيل على غزة؛ الأولى تقول إن هناك “خلافاً” فعلياً بين الحليفين وربما يتطور إلى ما هو أبعد حال واصلت إسرائيل جرائمها بحق المدنيين في القطاع، أما الثانية فترى أنه اختلاف في الأدوات فقط وليس في الأهداف.
المصدر – وكالات – شبكة رمضان