لا يمكن التريث وانتظار أفعال الغير، كما لا يمكن أن نفعل شيئاً عملياً، الوجهان لا يلتقيان وكذلك الفعل، كوجهَي العملة لا يمكن أن يلتقيا أيضاً، هكذا هي حياتنا هذه الأيام، قلوبنا وأفئدتنا مع فلسطين ومع أهل فلسطين، مع الصمود اللانهائي والقويّ في ظل هجمات دولة الاحتلال التدميرية، ولكن الحسرات تأخذنا بدون نفع، تتنازعنا العروبة والإسلام أمام احتلال وعدو كامل الأركان، لكننا مكبلون، لا نعلم هل تثاقلنا، أم أن أعذارنا حاضرة؟ خاصةً أننا نقوم بفعل الكتابة وهي تؤم أحزاننا نحو وجع غزة، وتردّ عنا ضيم النفس وكدر الحياة، نفرّج عنا هذا الضيق وهذه الحسرة بالكتابة، فسامحينا يا غزة لأننا لا نملك غيرها.
لماذا على الأفراد العاديين الإيمان بأنهم يستطيعون إنجاز ما يريدون؟ كما يقول المهاتما غاندي، ولماذا لا ينطبق ذلك على بلداننا؟ حيث غالباً ما يصبح الإنسان كما يعتقده عن نفسه إذا كرر القول في ذاته أنه لا يستطيع القيام بشيء معين، فمن الممكن أن يصبح عاجزاً بالفعل عن ذلك، وفي المقابل إذا آمن بأنه يستطيع القيام به فبالتأكيد سوف يكتسب القدرة، وينتهي به الأمر إلى إنجازه، حتى وإن لم تكن لديه القدرة من البداية.
يمكن إسقاط هذه القاعدة التربوية الاجتماعية السياسية على الدول الضعيفة حالياً، والتي لا تستطيع الوقوف أمام الدول الغربية، ولا حتى مجاراتها في المفاوضات وغيرها، قاعدة تحيلك إلى قدراتك وقواك التي تمتلكها دون أن تعرف ذلك، المشكلة أن القاعدة خاصة، لكنها تمثل سلوكاً يمكن أن يصبح عاماً، لذا يحتاج الأمر إلى دولة أو اثنتين تكونان قدوةً لتنفيذه، ومن ثم يتبعها الآخرون.
والحقيقة أن مجمل الدين يحث على ردع الخطأ والوقوف ضده بشكل قاطع وفاعل، وهو منبع يمكن للدول الإسلامية النهل منه والبناء على تعاليمه، أما ما يحدث عند التعاطي مع القضية الفلسطينية فهو مخجل وليس في مستوى الحدث، الإبادة التي نشاهدها من قبل دولة الاحتلال للفلسطينيين لم تمر علينا طوال حياتنا التي مضت، وربما لم تمر على أنظمتنا، وهي سابقة تجعل الحجر يتألم؛ فماذا نحن فاعلون؟
يمكن للشعوب الضغط على الأنظمة من خلال المظاهرات، هذه المظاهرات تحمل موضوعاً واحداً، إما مع القضية أو ضدها، ما يعكس آراء مجموعة من الأفراد بصفتهم أفراداً عاديين ضمن نسيج المجتمع الذي يحب أو يكره، وتحمل شعارات تؤيد أو تدحض فعلاً بعينه، هذا أمر معروف ويمكن أن تأتي بثمار إيجابية، لكن المشكلة في الأنظمة، ففي الغرب يقومون بالمظاهرات لأنها تجدي نفعاً وحكوماتهم ربما تغير رأيها، ونعلم أنهم قادرون على التغيير ولهم تأثير في القضية الفلسطينية ومواقف عالمية أخرى، أما المظاهرات العربية فهي لتسجيل موقف فقط، لأن دولنا لا تستطيع فعل شيء، لا تستطيع التغيير، لا تستطيع سوى تسجيل موقف أيضاً، لذا لِمَ لا يذهب المقتدرون مادياً، وما أكثرهم في دولنا العربية والإسلامية، إلى دول الغرب للتظاهر؟ للتظاهر السلمي فقط، ثم العودة أو البقاء حتى تحل المسألة، أعلم أن طلبي غير واقعي، لكن أليس هؤلاء مطالَبين بواجب مثل هذا أو غيره يكون معقولاً؟ على المقتدرين مادياً اتخاذ الأمر الأسهل كلما استطاع، أما الذهاب لفلسطين فمن الصعوبة بمكان.
أو أن عليهم واجب مساعدة أصحاب هذه النظرة السلمية في التعبير، فلا يقومون بها في بلدانهم، وإنما في الخارج، بالدول التي تستطيع التغيير من خلال المظاهرات السلمية، هؤلاء كُثُر في بلداننا، بل ربما جل الشعوب العربية، على المقتدرين استئجار شركات الطيران لحمل هؤلاء إلى تلك الدول لمدة يومين للتظاهر ثم الرجوع لبلدانهم، والباقي على الموجودين هناك، ألا يقومون بذلك في مباريات كرة القدم؟! هذا تشجيع من نوع آخر، والبُغْية الفوز في الضغط على تلك الدول، وهو فعلٌ مسالم لا يُبتغى منه غير الحرية للشعب الفلسطيني، مع العلم مرة أخرى أنه غير واقعي، لكنه ممكن في أسوأ الحالات.
ولأن دولنا لا تستطيع التغيير الفوري عليها تفعيل ما يريح ضمائرها أيضاً، فهي كما ترسل للدول الغربية سفراء أو مبعوثين للتفاوض في قضايا تجارية وسياسية وغيرها، وبسبب أنها استنفدت مجهوداتها التفاوضية والمطالب المباشرة وغير المباشرة لإنهاء الصراع الحالي، عليها القيام بمهمة أخيرة بابتعاث مجموعة من المتظاهرين السلميين لتلك الدول، واعتبارهم ممثليها، وهم في مهمة رسمية لخدمة قضية المسلمين جميعاً، منها ممارسة التحضر، ومنها الضغط عليهم بورقة الجماهير والشعوب.
أرقامنا خافتة في الألعاب الأولمبية، فدائماً ما تتفوق علينا دول الغرب ودول الشرق الآسيوي، بل والأفريقي، خافتة ولا نكاد نسمع تحقيق إنجاز كبير إلا من خلال المجَنّسِين، لا بأس لقد عوض أهل غزة إخفاقنا في كل شيء، وارتموا وحدهم في حضن الموت الواسع، يُعرف العربي هناك في الغرب عن طريق فلسطين، وفي كل مكان بالمعمورة يُعرف المسلم بأنه مناضل من أجل قضيته ولن يُهزم أبداً، لن يستعمرنا أحد بعد اليوم، بدليل تسجيلنا الرقم الأعلى في عدد الشهداء قياساً بالمدة، برافو (أحسنتم) عرب، برافو (أحسنتم) مسلمين.
نحاول أن ننأى عن الموت، نمشي بعيداً عنه كلما أحسسنا بالخطر بسبب حبنا للحياة، لكن فوزنا في النهاية يرجع لحكامنا الميامين المتفقين على كل شيء إلا التدخل العسكري، لا أستثني أحداً؛ فعندما أقول حكامنا أقصد المسلمين غير العرب أيضاً، وبرغم ذلك فالشعوب لا ترغب بهذه الحماية، تريد أن تتشرف بالشهادة لأنها فرصة، فرصة للخلاص من الذل وفرصة للتطهر من ذنوبها، وأنظمتنا تعلم ذلك، تعلم أن الشعوب قادرة على تحرير الأقصى، لكنها تحمي كراسيها التي ستفشل في الحفاظ عليها، أو هكذا تعتقد، نحن لا نفقه حتى كيف نهشِّم كراسينا قبل أن تتهشم على رؤوسنا، وقبل أن يُغتال كبريائنا، وكأن هؤلاء من كوكب آخر، أو دين غير الذي عرفناه وتعلمناه.
المشكلة أن هناك طغياناً واضحاً للعيان، بغض النظر عن اتفاقنا مع حماس أو غيرها، أطفال يُبادون على مسمع ومرأى من العالم المتحضر، والتحضر بعيد عنهم، فهو غير مرتبط بالهمجية، وقد ورد أن ما يحدث في فلسطين قتل همجي وعبثي تُشارك به كل الدول التي يقال عنها دول تحضّر، قتل همجي لا يُرد في الحقيقة إلى بشر يرون ويسمعون، والإسلاميون هم، أو يفترض أن يكونوا هم أصحاب التحضر، وعليهم إرجاع البوصلة وتوجيهها لمعرفة وجه التوكل، وكذلك معرفة الفرق بين الهمجية الهاربة من الجهل وإعلاء الذات إلى التحضر الإسلامي.
أنا مؤمن الآن، وأكثر من أي وقت مضى أن بعض دول الغرب، خصوصاً السياسيين منهم غير متحضرين، قياساً على ردود أفعالهم تجاه القضية الفلسطينية، تحضّرهم شكلي بحت؛ لأن التحضر الحقيقي لا يُقاس بالاختراعات والصناعات والحرية الفجة، بل هو تحكيم العقل ومراقبة التصرفات وتوازنها ونقدها وتقويمها.
هؤلاء عصابات وقتلة متعالون، امتلكوا كافة أنواع الأسلحة، ويحاولون تطويع الناس في هذا العالم وإرضاخهم والتأسّي بأمرهم، ومن يحاول الخروج سلّطوا عليه عصيهم وسهامهم، ويمارسون في ذلك التدليس والكذب وكافة أنواع الحِيَل غير الشريفة، واستخدام أنواع الأسلحة البغيضة لترهيب الغير وإرجاع من يشطط إليهم صاغراً، هذا ما تفعله إسرائيل وأشياعها، وهذا هو قانون الغاب بعينه، لذا فإن الحضارة الغربية فارغة من داخلها، مهلهلة لا شِيَة فيها، جديرة بالإشارة لها إلا من الخارج.
السلوك يُلقي بنفسه دون مواربة أو تملق، وقد ظهر سلوكهم للعيان مع الحرب الدائرة حالياً في فلسطين، خصوصاً دول مجموعة السبع الكبرى، حيث فقدوا مصداقيتهم لدى كافة شعوب العالم ومع الحكومات النظيفة والصادقة، وفي تغريدة له عبر حسابه في منصة “إكس” يذكر الإعلامي المتقصي للشأن الفلسطيني، أحمد منصور، أن المتابع لحروب عديدة دخلتها إسرائيل كان هدفها القضاء على “حماس” ولم يستطيعوا ذلك في أعوام 2008-2009، وعام 2014، وهاهم يكررون نفس الهدف 2023، كما يعلم العالم أن القضاء على الحركات من هذا النوع مستحيل، إلا أن ممارسة الموت بآلاف الأنفس هو الأمر الطاغي والمسلّم به في كل العمليات الحربية الإسرائيلية على المدنيين والعزل، وربما ثلاثة أو أربعة من أعضاء المقاومة، ثم يتفاوضون.
والتطبيع هو الآخر لم يكن لتحقيق سلام مع العرب الذين من ضمنهم الفلسطينيون، بل يعتبر استسلاماً وذلاً وخيانةً للقضية الفلسطينية كما ذكر حفيظ دراجي، الإعلامي الرياضي، في تغريدة له عبر منصة “إكس”، والسؤال كيف ستمارس الدول العربية المطبّعة علاقاتها مع هذا الكيان الغاصب الذي أمعن في الطغيان والبغي بعد اليوم؟!
الكاتب – سليمان المجيني