بقلم الصجفى – محمد عزام —-
في شكة سابقة قبل سنوات.. حكيت لكم عن مقهى في شارع عماد الدين، ذلك الشارع الكائن في قلب عاصمة المحروسة.. وهو شارع “الهشك بشك”.. يعسكر على دكك ذلك المقهى أشباه فنانون؛ طبالون وزمارون.. لا يعرفون أصول الطبل ولا الزمر “بجد”، وإنما اكتسبوا تلك الصفة بحكم أقدمية تسمرهم على دكك المقهى إياه، ينتظرون الليل بطوله وعرضه، علّ متعهد أفراح “نصف لبة” يأخذ الواحد منهم أخذ عزيز مقتدر إلى فرح بلدي، نصبه فلاح غلبان عند مدخل قرية من القرى الواقعة على أطراف قاهرة المعز.. يجمع ذلك المتعهد من على دكك ذلك المقهى “من هب ودب” ليزحم بهم خشبة المسرح القروي “سد خانة”.. بعد أن يشدد عليهم ككل فرح.. أن يقتصر دورهم فقط على الجلوس “لابسين مزيكا”.. يعني أن يمثلوا الدور دون فعل..
قفز هذا التعبير “لابس مزيكا” إلى مقدمة الجمجمة ساعة عصرية نحس، جلست فيها أتجول ـ من باب الملل ليس إلا ـ في صفحات “العم فيس”.. وعلى وجه الخصوص صفحات ناس جاليتنا حماها الله.. صفحات تذكرك حين تزورها بسوق “الناش ماركت” في فيينا، ووكالة البلح في قاهرة المعز، وزنقة الستات في الإسكندرية، وما شابه من أسواق “كله بقرشين” في حواري دمشق، ومربعة بغداد، وزنقات تونس.. وعاصمة البلد المدعو بوركينا فاسو..
ومن على “وش القفص” انتقيت لكم أحباب الشك، عينات من أولئك الذين يصنفهم خبراء الزراعة بأنهم “نباتات متسلقة”.. عندهم قدرة عجيبة وسريعة على تسلق نوافذ الجالية ومشربياتها، وحتى الشقوق في حوائطها.. وعلى بركة الله نبدأ:
أول العينة: الدكتور
ـ على صدر صفحتها أو صفحته، وبمحاذاته صورة جنابها أو جنابه، الاسم (حقيقي أو دلع) تسبقه (دال) تسد عين الشمس، ومن باب حماقة من يفتشون عن حقيقة الدال، فشلت فشلاً ذريعاً في أن أجد لدالاتهم ما يجعلها دالات حقيقية، منحتها جامعة أو حتى كُتاباً.. هي دال منحت للمذكورة أو المذكور بسلامتها أو بسلامته في جلسة مزاج على مقهى، أو بعد عشاء في مسمط من مسامط عواصمنا العربية.
وللأمانة تلك الظاهرة التي شاعت في هذه الأيام، هي امتداد تاريخي لفعل كان لسنوات خلت معروفاً وملموساً، بدأ على استحياء عندما كانت هناك جامعة في بيروت اسمها جامعة “بيروت العربية” تمنح ألقاباً لمن يفك الكيس، دون حضور أو انتظام في دراسة، أو يحزنون.. ولأن “المكسب يحب الخفية” لم تعد جامعة بيروت وحدها، بل تمدد سوق الشهادات التي هي “كده وكده” لجامعات وهمية في أوروبا الشرقية.. وانتهى كما أسلفنا على دكك المقاهي والمسامط وأماكن أخرى لا داعي لذكرها.
وعينة أخرى.. وأيضا.. من وش القفص: الصحفي
أن تكون جورنالجياً ـ كما يصف أهل الكار مهنتهم أو صحفياً بجد، عليك أن تمشي في السكة التي ارتادها شيوخ المهنة.. محمد حسنين هيكل مثلاً، الذي بدأ مخبراً صحفياً ثم مراسلاً ثم محللاً، وتربع على مقعد الأستاذية بعد رحلة طويلة..
صحيح ليس مناسباً الحديث عن العبد لله، لكني أجد أنه من باب التدليل على أن الدخول إلى شارع الصحافة وحواريها مسألة ليست سهلة، بل تحتاج إلى مكابدة.. عندما كنت شاباً تغازلني رغبة عارمة أن أدلف إلى ذلك الشارع، قادتني قدماي إلى واحدة من المؤسسات الصحفية.. ذهبت إليها بتوصية لأقابل رئيس تحرير واحدة من أشهر مجلات تلك المؤسسة.. قابلني الرجل بالترحاب، ولم يبخل على بفنجان قهوة “محوجة”، وأخذ الإضبارة المنتفخة بمقالات، كنت أظن حينها أنها “أنقح” من مقالات محمد التابعي.. نظر الرجل بطرف عينه على الإضبارة ثم أزاحها جانباً.. فابتأست.. نادي على عم عبده، وهمس في إذنه، ولأن سمع عم عبده كان ثقيلاً عرفت أن مهمته أن يقودني إلى حيث المطبعة أسفل مبنى المؤسسة.. هناك بقيت أربعة أشهر بطولها وعرضها، أذهب كل صباح لأراقب تفاصيل العمل، وأشم رائحة الحبر.. ثم جاء الإفراج.. قال مدير المطبعة آخر النهار، وكأنما يبشرني بحصولي على شهادة البكالوريا.. “من بكرة إنت مش معانا في المطبعة.. الريس عايزك فوق في مكتبه”.. ذهبت “للريس” وأنا أضرب أخماساً في أسداس، علني أفك رموز الحكاية.. لماذا قذف بي الرجل إلى المطبعة؟!.. ضحك الرجل قائلاً: “أكيد دارت في رأسك حزمة من السؤالات؛ لماذا نحيت إضبارتك جانباً، وقذفت بك إلى المطبعة؟!.. لم أكن في حاجة لأطالع ما في إضبارتك.. لقد تابعت ما تكتب أو تنشر في الصحيفة التي بدأت فيها متدرباً، وأرسلك لي مدير تحريرها.. أرسلك لأني طلبت منه ذلك.. لأنني في حاجة لسكرتير تحرير فني للمجلة، ولمست من خلال مطالعة ما كتبت أنك تنفع.. قذفت بك إلى المطبعة لتشم رائحة الحبر، ولتعرف دقائق المهنة.. من قعر السلم.. كما نقول”..
من قعر السلم.. هكذا تبدأ الرحلة في شارع الصحافة، تلك المهنة التي نسميها مهنة المتاعب، ونفاخر بأنها السلطة الرابعة..
لكن في حواري جاليتنا.. حماها الله.. تبدأ الرحلة من قعر السلم وتنتهي هناك.. يكفي أن تشتري من “الناش ماركت” كمبيوتراً “نصف لبّه”، ولست بحاجة لكاميرا “كانون” أو أي ماركة أخرى، يكفي “محمول” تجول به في أفراح وسرادقات عزاء الجالية.. وتكتب على صدر صفحتك في “العم فيس” أنك فلان ابن فلان الصحفي.. ليس مهما أنك شممت رائحة حبر المطبعة، أو تسكعت في الشارع الصحافة.. يكفي أنك تسكعت في حواري الجالية.. وتطوع واحد من يركبون “تكتكها” بوصفك بـ “كبير الصحفيين في فيينا”..
القفص “وش وقعر” مزحوم بماهو أكثر.. لكننا نؤجل التفتيش فيه.. من باب أننا لا نريد أن نثقل عليكم، أو نزيدكم هماً على همومكم وما أكثرها.. وربما لأننا نعرف أنكم تعرفون أكثر مما نعرف، وتكتفون “بمصمصة” الشفاه إيثاراً للسلامة، أو على الأقل تتقون “وجع الرأس”.
العلّة يا سادة.. سكر زيادة.. ليست في العينات التي في صدر القفص أو في قعره.. العلة عمرها سنوات.. بدأت تتمدد في أوساط الجالية؛ يوم أن فقدت منتدياتها وجمعياتها ونواديها دورها، وتحولت إلى مقاه لكل “عبدو مشتاق” اقتنص من “الناش ماركت” شبه بدلة وشبه كرافتة.
سلام يا جالية..
بقلم الصجفى – محمد عزام