عاش في غرفة فندق 63 عاماً!فيلسوف الكسل الذى طوّع الفرنسية ليكتب عن المهمشين في مصر

في الغرفة رقم 58 بفندق “لا لويزيان”، التي تطلّ على نهر السين في الحيّ السادس الباريسي، عاش ألبير قصيري طيلة 63 عاماً؛ منذ الحرب العالمية الثانية 1945 وحتى العام 2008، عندما توفي وحيداً- كعادته- داخل غرفته، كما تمنّى دائماً.

يختلف الروائي المصري، من أصول سورية، عن باقي الروائيين العرب؛ فهو الكاتب الأرستقراطي، الذي يحكي بالفرنسية، عن فقراء مصر. لكن وبشكلٍ مدهش، شكّل هذا الاختلاف المحرّك الرئيسي لمسيرة قصيري الأدبية، التي امتدت إلى ما يقارب الـ70 عاماً.

وفي حين لم يتعرّف المصريون عليه بشكلٍ كافٍ، يؤهله للمنافسة الأدبية في وطنه الأم، ولعلّ إنتاجه الضئيل خلال 7 عقود هو السبب، بالإضافة إلى شخصيته المتحفظة؛ عرفه الفرنسيون جيداً، كروائي مصري يحكي عن المهمَّشين في ذلك الشرق البعيد.

ألبير قصيري.. فيلسوف الكسل الذي عشق الوحدة

“الإنسان الكسول وحده من يمتلك الوقت التأمل في الحياة”؛ عاش ألبير قصيري رافعاً شعار الكسل، فهو لم يعمل طيلة حياته، وكان يقول إنه لم يرَ أحداً من أفراد عائلته يعمل. فالجدّ والأب والعائلة في مصر، جميعهم كانوا يعيشون من عائدات الأراضي والعقارات التي يملكونها.

ويمكن القول إن أعماله بلا استثناء- سواء تلك التي كتبها عن القاهرة وهي أغلبها، أو روايته الوحيدة عن الخليج العربي “طموحٌ في الصحراء”- يسكنها هذا الولع بالكسل والخمول، وكذلك أبطاله.

يقول الروائي الفرانكوفوني في أحد لقاءاته: “شخصياتي هي أنا، تفكر مثلي”. وبالفعل، غالباً ما تقاوم شخصيات رواياته الطموح، ويسخرون منه، لكنهم يدافعون بشراسة عن الكرامة الإنسانية التي يسحقها العمل المأجور وأوهام الحداثة

وُلد ألبير قصيري في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني 1913، بحيّ الفجالة في القاهرة، لأبوين تعود أصولهما إلى بلدة القصير في سوريا. التحق بمدرستَي الفرير والليسيه، مما جعله يُجيد الفرنسية منذ صغره، وبدأ بكتابة القصص باللغة الفرنسية وهو في العاشرة.

لم يتم الأديب الصغير دراسته الثانوية، وفي سنّ الـ17 بدأت جولاته حول العالم. زار في البداية فرنسا، ثم تنقل بين أمريكا وبريطانيا، قبل أن يعود إلى باريس ويقرّر الاستقرار فيها في العام 1945.

تزوَّج قصيري من ممثلة مسرحية فرنسية، ولكن لم يدم هذا الزواج طويلاً، فعاش بقية حياته وحيداً. وحين يُسأل عن السعادة، كان يقول “أن أكون بمفردي”.

تعرف في فرنسا على الروائيين ألبير كامو، وجان بول سارتر، ولورانس داريل، وهنري ميللر، فأصبحوا الرفاق الذين يمضي معهم الوقت بشكلٍ يومي- طيلة 15 عاماً- في “كافيه دو فلور”.

في العام 1998، أصيب بسرطانٍ في الحنجرة حرمه من حباله الصوتية على إثر عملية استئصال جراحية؛ ففقد القدرة على الكلام، وكان يجيب على أسئلة الصحفيين كتابةً.

وبينما عاشت أسرته من عائدات الأملاك، كره هو التملّك معتبراً أنه العبودية الحقيقية. فقد رفض امتلاك منزلٍ في باريس، واستأجر الغرفة رقم 58 في فندق “لا لويزيان” بحي سان جيرمان الباريسي.

طوّع الفرنسية ليحكي عن مصر

“لستُ في حاجة لأن أعيش في مصر، ولا لأن أكتب بالعربية، مصر في داخلي وهي ذاكرتي”. صحيح أنه لم يكتب بالعربية، لكن الروائي المصري نجح في أن يطوّع قلمه الفرانكوفوني ليروي قصص المهمّشين في مصر.

ولِكّي يُحيل الواقع المصري كما هو عليه، عمل على ابتداع لغة روائية جديدة، لا سيما أنه لم يستطع استعمال تعابير فرنسية صافية. وهنا جوهر فرادته. كتب بالفرنسية، لكن مناخ الرواية وشخصياتها مصرية، لا يَشعر القارئ معها بأن فرنسياً يكتب عن مصر.

اشتُهر قصيري أيضاً بلقب “فولتير النيل”؛ ولم يحكِ في نصوصه سوى عن مصر التي سكنته رغم غربته عنها، وأولى كتاباته كانت “بَشَرٌ نَسِيَهم الرب”، المجموعة القصصية التي صدرت في العام 1941.

رافق ألبير كامو، وجان بول سارتر، ولورانس داريل، وهنري ميللر، بشكلٍ يومي

كتب بعدها روايتين متلاحقتين:

  • “بيت الموت المحتوم” في العام 1944.
  • “كسالى الوادي الخصب” في العام 1948.

لكنه توقف عن الكتابة طيلة 15 عاماً من بعدها، قبل أن يعود ويقدّم روايته الشهيرة “العنف والسخرية” عام 1962، ثم روايته الأشهر “شحاذون ونبلاء”. وتوالت أعماله بعد ذلك، مثل “مؤامرة مهرجين” في 1975، و”منزل الموت المحقق”، ثم “ألوان النذالة” عام 1992.

تدور أحداث رواياته في القاهرة، أو الإسكندرية، أو في دمياط، غير أن ما يكتبه يهمّ كل الناس؛ ويقول قصيري في أحد لقاءاته إن “الإنسان الذي يعيش في مصر لا يختلف كثيراً عن الإنسان الذي يعيش في قلب باريس. الفارق الوحيد بينهما هو اللغة، وأيضاً الموقف الشرقي لأبطال رواياتي”.

في سيرة ألبير قصيري التي صدرت في العام 2014 عن دار “كورلفور” الباريسية، بعنوان “السيد ألبير”، يرسم الكاتب فريديريك أندرو بورتريهاً مثيراً للروائي المصري بحيث يظهر ككاتب غير نموذجي.

اعتمد أندرو في كتابه على صيغة المخاطَب، فأتى نصّه على شكل حوارٍ مع قصيري سمح له بسرد حياته الطويلة بأسلوبٍ ممتع ودقيق، مع تفاصيل لم تكن مُعلنة من قبل، ساهمت في تعليل شخصية قصيري.

يؤكد الكتاب أن ألبير قصيري ترك أثراً في كل من قرأه والتقى به، من خلال حضوره الرزين، علماً أنه خضع لإهمالٍ غير مبرر من قبل معاصريه. ويتبيّن لنا أنه كان هامشياً متحفظاً وحرّاً بشكلٍ مطلق، احتقر فكرة العوز، فرفض تضييع وقته في عملٍ لتأمين لقمة العيش، رغم وضعه المادي الضيّق.

ومن هذه السيرة نعرف أيضاً أن قصيري عاش الـ60 عاماً الأخيرة من حياته في غرفة صغيرة بفندق، وأصدر ثمانية كتب فقط.

لكن أكثر ما يشدّنا في هذه السيرة هو تركيز المؤلف على سلوك قصيري ولا مبالاته. فهي مليئة بتفاصيل وطُرَف حول الطريقة التي كان يمضي فيها الروائي المصري وقته في مقاهي جادّة “سان جيرمان” قبل عودته كل مساء إلى غرفته.

شحاذون ونبلاء” هي روايته الأشهر

ألبير قصيري.. “كائنٌ لا امتثالي”

في “شحاذون ونبلاء”، الرواية الأكثر ظلماً وعنفاً ضمن رواياته، والتي حوّلتها المخرجة أسماء البكري إلى فيلمٍ في العام 1991، يصل قصيري إلى خلاصة واضحة: الظلم يولّد عدمية ولامبالاة.

فظلم الناس يودي بجوهر، الأستاذ الجامعي ومُعلِّم التاريخ، إلى العدمية. يصبح مدير حسابات بيت دعارة، قبل أن يقتل المرأة التي راودته عن نفسه. وتتجسد اللامبالاة في الرواية، من خلال اعتراف أحد الشخصيات بارتكابه جريمة قتلٍ لم يقم بها.

ويتجسد الظلم في كل شخصيات الرواية: هذا الذي يعشق فتاةً ارستقراطية، وذلك المتشرد الذي يعيش على الاقتراض، بالإضافة إلى الحالم بثورة تطبّق العدالة الاجتماعية على الجميع، وتعطي المرأة فرصتها في المجتمع. كلّ تلك الأحلام سرعان ما تتحطَّم حين ترتطم بأرض الواقع.

في تقريرٍ له نُشر في جريدة “الأخبار” اللبنانية، يقول الكاتب آلكسندر حبش: “قد يصحّ القول إن هناك موجات في عالم النشر الفرنسي يمكن تسميتها موجات ألبير قصيري. نجد في كلّ فترة أنّ أعماله تعود من غياهب النسيان لتصدر في طبعات جديدة، سرعان ما تنفد”.

ففي العام 2018، أعادت منشورات “جويل لوسفيلد” إصدار جميع كتبه في طبعة أنيقة، بعد عشر سنوات من رحيله، لتعيد التذكير بمن بقي طوال حياته كائناً “لا امتثالياً”، وفق حبش.

عاد قصيري مكرّماً إلى القاهرة، في ذكرى رحيله العاشرة عبر احتفالية أقامها “المركز الثقافي الفرنسي” في القاهرة.

وقد ضمّ الحدث معرضاً لمقتنياته ومخطوطاته التي تركها داخل غرفته في الفندق الباريسي وقت رحيله: صفحات من رواية لم تكتمل بعنوان “زمن ابن الكلب”، وسيناريو فيلم تسجيلي كتبه عن أم كلثوم، بالإضافة إلى يومياته، وجوازات سفره منذ أن ترك القاهرة عام 1945.

كما عُرضت نسخ من أعداد مجلة “التطوّر”، التي أصدرتها جماعة “الفن والحرية” السريالية، وكان قصيري أحد مؤسّسيها؛ أضف إلى ذلك عشرات الصور من محطات مختلفة في حياته، وحيداً أو برفقة أصدقائه.

ترك قصيري أثراً في كلّ من قرأه

 

 

شاهد أيضاً

“الإمبراطور الأبيض”.. مقاتلة الجيل السادس الصينية المصممة للهيمنة على السماء والفضاء

تشهد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة تصعيداً ملحوظاً في العديد من المجالات، من أبرزها التسابق …