الضربة القاضية التي أصابت الطربوش العثمانى والبرنيطة النمساوية

فيينا – حسن الهامى محفوظ —

يرجع أصل كلمة طربوش إلى الفارسية “سربوش”، وتعنى زينة رأس الأمير، ثم حرفت إلى “شربوش”، ويختلف على نِشأة الطربوش، مرة يقال إن أصله عثماني ومرة أخرى يقال إنه من المغرب العربي، ثم أنتقل إلى الإمبراطورية العثمانية، بينما يرى آخرون أن أصله نمساوي، ويطلق على الطربوش النمساوي اسم “فيز” نسبة إلى مكان صناعته، وهي “فيينا” عاصمة النمسا، ثم أطلق عليه اسم “فاس” بما ينسبه إلى مدينة “فاس” المغربية وليتماشى مع الثقافة العربية السائدة.

وبدأت مسيرة الطربوش بمصر والشام، في خلال فترة الحكم العثماني حيث أصدر السلطان سليمان القانوني (1520م– 1566م) عدة فرمانات بتعميم الطربوش كزي بروتوكولي، لكن لم يصل الطربوش بعد إلى مصر رغم أنها أصبحت ولاية عثمانية منذ عام 1517م، بل إن محمد علي باشا حينما تولى حكم مصر عام 1805م كان يرتدي العمامة التي كانت لباس الأعيان في ذلك الوقت

أما سوريا فقد عرفت الطربوش بتولي السلطان العثماني محمود الثاني (1808م – 1839م) والذي اهتم بلباس رجال دولته ورعيته، وأصدر فرمانًا يحدد فيه طول الشارب واللحية، وطراز الجبة، وعرض أكمامها، وأوجب لبس الطربوش كلباس للرأس معترف به رسمياً، بل كان أول من لبس الطربوش من سلاطين الدولة العثمانية.
وكان الظهور الأول للطربوش في مصر خلال فترة حكم فيها إبراهيم باشا، الابن الأكبر لمحمد علي باشا لسوريا (1831م – 1841م)، وعمم لباس الطربوش بدل العمامة في الشام، وفي رحلة عودة إبراهيم باشا إلى مصر ارتدى الطربوش، وتبعه محمد علي الذي خلع العمامة وارتدى الطربوش المغربي.

وفي إطار مشروع محمد علي لتحديث البلاد قام بإنشاء أول مصنع للطرابيش في فوة بكفر الشيخ عام 1828م، وذلك بهدف تلبية احتياجات الجيش المصري، وللاستغناء عن استيراده، لكن عندما حطم الغرب الأسطول المصري في نفارين عام 1840م التزم محمد علي بتفكيك المصانع المصرية بما في ذلك مصنع الطرابيش.

ثم ظهر في مصر الطربوش العزيزي نسبة إلى السلطان العثماني عبد العزيز (1861م – 1876م) الذي جعله شعارًا رسميًا للدولة، وشهدت فترة حكمه تطورًا في شكل الطربوش قطراً وطولاً، ويبدو ذلك إذا تعقبنا صور سلطان مصر حسين كامل (1914م – 1917م) في مختلف أدوار حياته، إلى أن استقر في النهاية على الشكل الذي كان يرتديه أغلبية المصريين في العصر الأخير للطرابيش

وفي فترة حكم الخديوي عباس حلمي الثاني (1892م – 1914م) أصبح الطربوش إلزامًا على رجال البلاط، وفي هذه الفترة، كانت بريطانيا قد أعلنت الحماية على مصر عام 1914م بينما رسميًا ظلت مصر تابعة للأستانة، وفي عام 1924م سقطت الدولة العثمانية وتولى كمال أتاتورك الحكم للجمهورية التركية، وقام بتوجيه ضربة للطربوش بإصداره عام 1925م ما يسمى قانون القيافة “قانون البرنيطة” والذي يمنع فيه ارتداء الطربوش ويحل ارتداء القبعات والبرانيط.

وفي عام 1925م تأسست في القاهرة الرابطة الشرقية للتعاون وتأكيد الهوية للدول والشعوب الشرقية، وتقدمت الرابطة برئاسة عبد الحميد البكري نقيب الأشراف إلى “جمعية الأطباء” باستيضاح: “أيهما يعد لباسًا صحيًا، القبعة أم الطربوش؟” كان السؤال انعكاسًا لمعركة ساخنة عاشتها مصر ودارت حول «الطربوش، والقبعة، والعمامة» والصراع الذي بدأ من كلية دار العلوم حيث ظهرت الدعوى إلى التخلي عن الزي الأزهري المكون من الجبة والقفطان والعمامة، وارتداء البدلة والطربوش كغطاء للرأس، ثم دخلت القبعة إلى الحلبة لتطيح بالطربوش عن عرشه الذي تربع عليه عدة قرون باعتباره رمزًا للسيادة التركية، التي تخلصت منها مصر بعد سقوط الخلافة العثمانية، وانتصار الثورة الكمالية، واتجه كمال أتاتورك نحو إزالة كل معالم العثمانية، وفرض على الأتراك لبس القبعة والملابس الأوروبية.

وبدى بين المصريين شعور بالارتياح للتخلص من العنجهية التركية ممثلًا في الطربوش، لكن رأى آخرون أن الموقف أصبح يتعلق بالهوية الوطنية وبالذات أن الطربوش صار لباسًا قوميًا، واندلعت معركة بين كبار الأدباء والمثقفين والصحفيين، فكتب فكري أباظة على صفحات مجلة “المصور” مقال بعنوان “الحرب الطاحنة” محذرًا من عواقب الصراع ما بين مؤيدي الطربوش ومؤيدي العمامة.

وأعقب ذلك قيام مجلة “الهلال” باستطلاع رأي اثنين من كبار الكتاب، وأبدى الكاتب الكبير مصطفى صادق الرافعى تأييدًا لارتداء الطربوش بينما قرر الدكتور محمود عزمي ارتداء القبعة في رد عملي يمثل رأيه، زاد من حدة الأزمة قيام شيخ الأزهر آنذاك الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي بإصدار فتوى بتحريم ارتداء القبعة.

وفي الانتخابات البرلمانية عام 1926م صارت المنافسة الحزبية بين مرشحي الحكومة عن حزب الاتحاد مقابل ائتلاف أحزاب الوفد والأحرار الوطني تتعلق بالموقف من الطربوش والقبعة، فإن نواب الاتحاد أبدوا فخرًا بأنهم مناهضين لارتداء القبعة، أما الرابطة الشرقية فقد اكتفت بدعم الرأي الصحي حسبما ورد عن “كبار الأطباء” والذي ذكر أن الطربوش لباس غير صحي وأن اللباس الصحي متوافر في القبعة، وغير متوافر إلا فيها.

وهكذا اشتعلت في مصر معركة الطربوش على خلفية معركة البحث عن هوية مصر، واكتسب الطربوش في هذا المناخ دلالة ” قومية ” وفي هذه اللحظة ظهر السياسي الشاب “أحمد حسين”، وهو طالب في السنة الثانية بكلية الحقوق عام 1931م بطرح مشروع القرش، والذي يحث كل مواطن على التبرع بقرش صاغ واحد ليبني بالحصيلة مصنعًا للطرابيش، وتبنى المشروع اسماعيل صدقي باشا رئيس الوزراء (1930م – 1933م) لكن حزب الوفد المصري اتخذ موقفًا معاديًا للمشروع باعتباره يبعد جهود الشباب عن قضية الاحتلال البريطاني، وبما يخشى أن يكون هذا النشاط الشبابي بمثابة هروبًا من ثورة الفكر، ونجح مشروع القرش حيث بلغت حصيلته في عامين 30 ألف جنيه، وهذا مبلغ خرافي بمقاييس الثلاثينات، وتم افتتاح المصنع بالعباسية في 15 فبراير 1933م.

وآنذاك تردد في تركيا أن الملك فؤاد يأوي فلول العائلة المالكة العثمانية، وفي عام 1932م وقعت أزمة دبلوماسية بين البلدين بسبب الطربوش؛ وذلك أنه أثناء الاحتفال بالعيد الوطني التركي 29 أكتوبر وفي حضور السفير المصري عبد الملك حمزة الذي كان يرتدي الطربوش دونما خمسمئة مدعو، مما لفت أنظار أتاتورك الذي خاطبه قائلًا: “قل لملكك أنني أنا مصطفى كمال وأنني أصدرت أوامري بأن تخلع هذا الطربوش من على رأسك الآن، وانسحب السفير من الحفل، وقرر الملك فؤاد سحب السفير، لكن انتهت الأزمة فيما بعد باعتذار أتاتورك”.

وفي عام 1947م ذهب النقراشي باشا رئيس وزراء مصر إلى نيويورك لعرض قضية الاحتلال البريطاني أمام مجلس الأمن، أصر النقراشي على ارتداء الطربوش طيلة مدة رحلته إلى أمريكا‏،‏ وكان طربوش النقراشي موضوعًا للسخرية والفكاهة من جانب الصحف الأمريكية،‏ ولم تتلق مصر آنذاك القرار المأمول، وتردد أن أحد الأسباب تعود إلى إصرار النقراشي على ارتداء الطربوش مما أعطى انطباعا سلبيًا.

وفي سوريا تم زوال الطرابيش تدريجيًا مع إصدار مرسوم الرئيس حسني الزعيم عام 1949م الذي منع بموجبه الموظفين من ارتدائه، ثم ألحقه بمرسوم طريف آخر منع بموجبه السير بالشوارع بلباس البيجاما متأثراً بمراسيم كمال أتاتورك، وبعد نهاية حكم الزعيم الذي استمر 130 يوماً فقط ألغى الرئيس هاشم الأتاسي مرسوم الطرابيش والبيجاما، ولكن الانقلاب التالي بزعامة أديب الشيشكلي أعاد العمل بمرسوم البيجاما ونسي مرسوم الطربوش.

في مصر كان إلزامًا على الموظفين وطلاب المدارس ارتداء الطربوش، وفي أواخر الأربعينيات من القرن الماضي بدأ طلاب المدارس الثانوية في القاهرة والأقاليم بالتململ من ارتداء الطربوش، وقاموا بمظاهرات يهتفون فيها بسقوط الطربوش‏، وجاءت ثورة يوليو 1952م، واعتبر الرئيس جمال عبد الناصر أن الطربوش رمز للرجعية والإقطاع فاستغنى عنه، وقام بإلغاء فكرة إلزامية ارتدائه، ليصبح المصريون أحرارًا فيما يرتدونه باستثناء العمامة الأزهرية لطلاب ومشايخ الأزهر الشريف.

وفي عام 1958 قرر عبد الناصر ألغى الطربوش نهائيًا عن مصر، فسقط الطربوش من صفوف البوليس المصري وضباط الجيش، ومن ثَمَّ موظفي الدولة، وتبع ذلك عامة الشعب بشكل تطوعي، وفي عام 1962م اختفى الطربوش تمامًا من الشارع المصري، وكان فؤاد سراج الدين رئيس حزب الوفد آخر الباشاوات الذين كانوا أوفياءً للطربوش ولم يخلعه إلا عام 2000م، ونتذكر المرحوم أحمد الصباحي رئيس حزب الامة الذي كان حلمه عودة الطربوش.

لكن كما تقرر من قبل عدم صلاحية الطربوش من الناحية الصحية، وتقرر أن الأنسب صحيًا هو ارتداء القبعة، وفي ظل التغيرات الجوية الحالية ربما يكون مناسبًا في هذا الوقت إعادة الترويج لفكرة ارتداء القبعة، ما يقي الناس هطول الأمطار وحرارة الشمس

 

شاهد أيضاً

“الإمبراطور الأبيض”.. مقاتلة الجيل السادس الصينية المصممة للهيمنة على السماء والفضاء

تشهد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة تصعيداً ملحوظاً في العديد من المجالات، من أبرزها التسابق …