صلاح ولعب الحواري المصرية هذا ما لا يتعلَّمونه في مدارس كرة القدم

جميلةٌ هي تلك الساعات التي تشاهد فيها كرة القدم وأنت مبتسم، وأجمل هي تلك الدقائق العصيبة التي تجعلك تترقب، تشاهد، تتحفز، وأنت صامت، وأجمل وأجمل تلك اللحظات التي تجعلك تضطرب، تقفز، تصيح، تصرخ، تريد أن تقول شيئاً، ما هذه العظمة يا جدعان؟! ما هذا الجنون يا صلاح؟!

أن تغيّر مشروع مقال بينما تكتبه، من المجتمع إلى الرياضة، من مقال جادٍّ ناقد، إلى مقال عبارة عن إنسان يقول: “ما هذا بربك يا رجل؟!”، فتلغي كل ما كتبتَه بكبسةٍ واحدة، وتكتب العنوان الجديد “صلاح ولعب الحواري.. هذا ما لا يتعلمونه في مدارس كرة القدم”.

أعود إلى الحارة، إلى الشارع، إلى حوش المدرسة، إلى “جُرن البصَل” الذي كان الأنفيلد الخاص بنا، إلى العشوائية المصريّة الجميلة في كرة القدم، مدرسة “الفطرة الكُروية” التي تخرَّج فيها صلاح، والكثيرون من “ولادنا” قبله؛ حيث نربط القمصان على خصورنا، ونلعب بالفانلة الرياضية التي تحت القميص، ولا يذهب الطفل منا إلى النادي بعد اليوم الدراسيّ، ولا يرتدي الطقم الكامل الخاص به، وإنما يلعب حافياً في الغالب أو بالـ”باتا” أحياناً، والمرفَّه من كان يملك “ستارز” ليلعب به، وغالباً لن يتعدى مقتنوه في البلد كله أكثر من أربعة أطفال.

صلاح خرّيج هذه الأكاديمية، التي تؤسس اللاعب على “الترقيص” غير الخاضع لقوانين ولا طرق، لو قلتَ له أخبرني كيف ترقّص اللاعب في هذه اللعبة لن يستطيع أن يشرح لك، هي تحدث مرةً واحدة، ويخترع في المرة التالية ألعاباً غيرها، وترقيصات مختلفة، لا تُكتسب بالتدريب، ولا التكرار، ولا حتى الموهبة، وإنما تكون وليدة اللحظة، “بالشوكة والسكّينة”.

مباراة كرة قدم في منطقة شعبية مصرية

تماماً كما تسأل طباخاً ماهراً عن وصفة طعامٍ معينة، سيخبرك بالتفاصيل، بالمقادير، لكنّ أمّك لن تستطيع إخبارك أبداً بطريقة ثابتةٍ لإبداع كل مرة. ظروف اللعب لا تتشابه أبداً، اللعبة نفسها لا تتكرر، الترقيصة لا يمكن تعلمها “هي بتيجي بظروفها”، يقف الرجل على الكرة، يسحبها للخلف، ثم للأمام، يتقدم، المرمى مفتوح، لا يكتفي، يشعر أن شيئاً ما أمامه يأخذه للمزيد، يسحب الكرة مجدداً، يراوغ بها الثالث والرابع، ثم يلقيها لتصير هدفاً يبدو أنه بغير قصد، بلا اهتمام أو مبالاة، الهدف كان هذه الترقيصة، الجول كان على كل حالٍ سيأتي، لكن هكذا نحوله إلى أيقونة.

في ملاعبنا، كعادة تلك الأماكن التي يصعب فيها على الأطفال الذهاب بشكل منتظم إلى النادي، أو لم يخترعوا في قريتهم نادياً أصلاً، تصير كرة القدم الصديق الوفيّ، لو كان الشارع يكفي لعشرة لاعبين، كانت الكرة اللاعب رقم 11، نراقصها فتراقصنا، تخدعنا ونخدعها.

من الكرة الشراب، إلى الكرة من المطاط، إلى الكرة البلاستيك داخل كرة “كفَر” مثقوبة ومقوّرة، إلى كرة “كفَر” عادية، إلى كرة “ميكاسّا”، إلى الكثير والكثير، مما هي أقل جودةً بكثير، من كرات الملاعب والأندية، لكنها تصنع ما لا يصنعه المدربون هناك، و”الحاجّ” المهووس بمتابعة المباريات، يقف على الناصية يوجّه الأطفال كيف يلعبون بشكل أفضل، كيف يحرزون الكرة، كيف يقطعونها، كيف يسجلونها، وهكذا، كانت الشوارع ملاعبَ منصوبةً بشكل كامل، يومي، لحظة بلحظة، دون انقطاع إلا لمرور سيارةٍ أو سيدة تحمل فوق رأسها جرّة مملوءةً بالماء.

ما يفعله صلاح، أقصد ذلك الجنون، نابعٌ من هذه الفلسفة الشوارعية العجيبة، ينصت بالتأكيد لمدربه، ويتعلم منه، ويفهم الكثير، وهكذا يؤدي دور لاعب كرة قدم محترف في الدوري الإنجليزي، لكن حين “تروق الغزالة”، ويرى النجيل الأخضر تحت قدميه تراباً، ويشعر أنه في مركز شباب نجريج، وحول الخط الأبيض الرديء المصنوع من الجير أو الجبس، جموعٌ من أهل القرية، يشجعون بحرارة، والشرفات التي حول الملعب تقف فيها النساء مغطيات وجوههن خجلاً، ورجال يدخنون بكثرةٍ، بينما يتابعون ذلك الولد، ابن الحاج صلاح حامد، يرقّص الملعب كله “على واحدة ونص”، حينها، حين يتذكر صلاح هذا كله، ويتخيل الملعبَ بهذه الطريقة، ويسافر عبر الزمان والمكان، تجده يسجّل بهذه الطريقة.

الجميل فيما نراه الآن، وربما لن نراه مجدداً بعد صلاح لمدة طويلة أو سنراه في خليفةٍ له ويكون من حسن حظنا، أنه تمردٌ على “صناعة” كرة القدم، انتصارٌ للكُرة التي على الفطرة، تكريمٌ للأزقّة والشوارع والحارات، إعلانٌ بأن كرة مراكز الشباب تنتصر في النهاية، ولو بعد عشرات السنين.

قد يحسب البعضُ أن هذه “أفوَرة”، مبالغة في الوقوف عند لعبة، واثنتين، وعشرة، لكنها في الحقيقة مجرد صرخة طبيعية جداً، غير مفتعلة أبداً، تشبه تلك التي تضع فيها كيك على جانبي رأسك، وأنت تتابع الرجل، الذي يشبه الكثيرين ممن تعرفهم، في بساطة الكرة، في “لعب السهلة” أو هكذا تبدو رغم صعوبتها، في تحول الكرة قليلاً إلى “متعة”، أو بالأحرى عودتها إلى سابق عهدها، قبل أن يكون “التارجت” هو الفوز بأي شكل حتى لو كان فوزاً قبيحاً.

الآن نعود إلى هناك، حيث “صلاح يتقدم يمر.. الله.. الله.. الله.. الله.. اللاااه.. يا سوبرمو، محمد صلاح! وأعجوبة من عجائب صلاح! وهدف.. من الأهداف التي تسجل بماااركة محمد صلاح! هنا رابع الأهداف! ولكن بطريقة صلاح! هو بحرٌ.. من الإبداعِ لا ينضب.. نعم! هو بحرٌ من الإبداع لا ينضب!”.

 

 

شاهد أيضاً

“الإمبراطور الأبيض”.. مقاتلة الجيل السادس الصينية المصممة للهيمنة على السماء والفضاء

تشهد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة تصعيداً ملحوظاً في العديد من المجالات، من أبرزها التسابق …