تابعت وسائل الإعلام الألمانية بذهول مشاهد انهيار الوضع السياسي في أفغانستان، ما قد يشكل قطيعة في التدخلات العسكرية للغرب، إذ ارتفعت الأصوات المطالبة في إعادة بلورة عقيدة السياسة لخارجية لألمانيا وحلفائها الغربيين.
بعدما وصفت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل انهيار الوضع في أفغانستان بأنه “مرير ومأسوي ورهيب”، معتبرة أن قرار الانسحاب الذي اتخذته واشنطن جاء لأسباب سياسية داخلية أمريكية، ذهب الرئيس الألماني فرانك-فالتر شتاينماير أبعد من ذلك معتبرا مشاهد الفوضى والارتباك الكامل في أفغانستان بأنها وصمة عار بالنسبة للغرب.
والواقع أن ألمانيا كما باقي الحلفاء الغربيين، وقفت عاجزة أمام القرار الأمريكي، فوضعت أمام أمر واقع مرير. وبغض النظر عن الدور الألماني، فإن الصور القادمة من كابول وعطفا على ما قاله الرئيس الألماني، فإن صور الفوضوى في أفغانستان قد تشكل قطيعة في تاريخ التدخلات العسكرية للغرب. سيناريو قد يتكرر في كل لحظة في العراق أو كردستان أو بؤر توتر أخرى، فيما يمكن وصفه بإرهاق مفرط للقوة العظمى الأولى في العالم. فعكس ما بدا عليه الأمر بعد انتهاء الحرب الباردة، يظهر اليوم أن أمريكا لم يعد بإمكانها الظهور كقوة قاهرة على جميع الجبهات، في كل مكان وفي نفس الوقت. وبالتالي لم يعد بوسعها لعب دور شرطي العالم كما كان عليه الأمر من قبل.
وبهذا الصدد كتبت “نويه تسوريخه تسايتونغ” الصادرة في زوريخ (17 أغسطس / آب 2021) “لقد استسلم الجيش الأفغاني، ولم تحدث المعركة المخيفة (التي كان يخشاها الجميع) في كابول. قد يشعر المرء بالارتياح حيال ذلك، لكن أن يتخلى الأمريكيون وحلفاؤهم ببساطة عن ملايين الأفغان الذين لا يريدون العيش تحت حكم الإسلاميين، فهذا عار وكارثة عالمية. لا أحد يعرف بعد الآن ما الذي يمثله الأمريكيون. الجهاد الدولي ينتصر. فماذا بعد؟ لقد أوضحت حركة طالبان أنه لن تكون هناك حكومة مؤقتة، فهم يتوقعون “تسليمًا كاملاً” للسلطة”
عواقبوخيمة على السياسة العالمية
ذهب الرئيس الألماني فرانك-فالتر شتاينماير بعيدا في تعليقه على ما يحدث في أفغانستان، وتوقع أن تكون لذلك عواقب سياسية عالمية طويلة المدى. وقال شتاينماير في برلين (الثلاثاء 17 أغطس) “إننا نعيش هذه الأيام مأساة إنسانية نشارك في تحمل مسؤوليتها، إنها لحظة تحول سياسي تهزنا، وستغير وجه العالم”. وأوضح أنه يتعين على ألمانيا فعل كل ما بوسعها من أجل تأمين مواطنيها والأفغان الذين عملوا إلى جانبها طوال أعوام. “فضلا عن ذلك، يتعين علينا البحث مع حلفائنا عن سبل لمساعدة الأشخاص المهددين بالتعرض للعنف أو المهددين بالموت حاليا في أفغانستان، ومن بينهم كثير من النساء اللاتي يتسمن بالشجاعة”. واستطرد شتاينماير موضحا “صور اليأس في مطار كابول تبدو مخزية للغرب. ويجب علينا الآن أن نقف إلى جانب أولئك الذين لدينا التزام تجاههم”. وأضاف أن الانهيار السريع للحكومة الأفغانية وقواتها المسلحة، فضلا عن سيطرة طالبان على السلطة، دون مقاومة، “ستلقي بظلالها على المدى الطويل (..) إن إخفاق مساعينا التي دامت أعواما في أفغانستان لبناء مجتمع مستقر وقادر على التحمل، يثير تساؤلات جوهرية حول ماضي، ومستقبل، سياستنا الخارجية والتزامنا العسكري”.
صحيفة “هاندلسبلات” الاقتصادية فضلت توجيه سهام نقدها إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن وكتبت “تولى بايدن منصبه من أجل إعادة المصداقية وحتى الكرامة وكذلك القدرة على النبؤ بالسياسة الأمريكية. هذه أهداف كبيرة، وقد يقتضي الأمر عقدا كاملا من أجل تحقيقها. ففقدان الثقة الذي تسبب فيه دونالد ترامب لمدة أربع سنوات أمر كبير للغاية. وهذا هو السبب أيضًا وراء حديث بايدن باستمرار عن سياسة خارجية مبنية على القيم، عن “تحالف الديمقراطيات” وعن معركة ضد الحكام المستبدين (..) لم يخترع الرئيس بايدن فكرة انسحاب قوات بلاده من أفغانستان، وإنما بلورها سلفه ترامب. لكن بايدن تبناها ونفذها بسرعة البرق دون التشاور الكافي مع الحلفاء الأوروبيين”.
برلين “تتخلى” عن أفغانستان تنمويا واقتصاديا
أعلنت الحكومة الألمانية (الثلاثاء 17 أغسطس) تعليق مساعدات التنمية التي تقدمها لأفغانستان على خلفية بسط حركة طالبان سيطرتها على البلاد. وبهذا الصدد قال وزير التنمية غيرد مولر في مقابلة مع صحيفة “راينيشه بوست” (17 أغسطس) إن “التعاون الحكومي من أجل التنمية معلق في الوقت الحالي”. وكانت ألمانياتخصص سنويًا مساعدات بقيمة 430 مليون يورو لأفغانستان. وأكد الوزير أن جميع الموظفين الألمان، الذين يعملون لدى الوكالة الألمانية للتعاون الدولي، الجهة المسؤولة عن المساعدات التنموية الحكومية، قد غادروا البلاد بأمان. وأضاف “إننا نعمل بجهد كبير لجلب الموظفين المحليين الذين كانوا يعملون في التعاون الإنمائي الألماني والمنظمات الإغاثية التي تعاونت معنا، والذين يريدون الخروج بأمان من أفغانستان”. ويذكر أن أفغانستان كانت تحتل المرتبة الأولى بين الدول المتلقية للمساعدات التنموية الألمانية. فخلال العشرين عاما الماضية قدمت الحكومة الألمانية دعما لأفغانستان بقيمة قدرها 3.5 مليار يورو، مكنت من بناء وترميم المدارس والمستشفيات والمطار في مزار الشريف والجسور والطرق الجديدة.
موقع قناة “إن.تي.فاو” الإخبارية (17 أغسطس) نشر مقالا مطولا عن التداعيات الاقتصادية لانسحاب ألمانيا من أفغانستان واعتبرت أنه رغم كون هذا البلد ليس ليست شريكًا تجاريًا مهمًا، إلا أن بعض الشركات الألمانية استثمرت الكثير من الأموال في مشاريع البنية التحتية. والآن قد تتبخر كل تلك المشاريع التي ستتوقف مع توقف التمويل الخارجي. ولم يتجاوز حجم التبادل التجاري بين ألمانيا وأفغانستان عام 2020، أكثر من 70 مليون يورو، حسبما كشف عنه فولكر ترير، من غرفة التجارة الخارجية الألمانية. ولا توجد معطيات كاملة حول عدد الشركات الألمانية العاملة في أفغانستان، ولكن “لا تكاد توجد أي سلع تجارية قانونية تستوردها ألمانيا من أفغانستان. هذا الوضع ينسحب على الصادرات أيضا. ورغم أن المنتجات الألمانية تتمتع بسمعة طيبة في أفغانستان، إلا أن العديد من الأفغان لا يملكون ببساطة المال لشراء تلك السلع باهظة الثمن “المصنوعة في ألمانيا”.
دعوات لمزيد من الاستقلالية عن واشنطن
دعا القيادي في حزب ميركل والمفوض لشؤون السياسة الخارجية في الحزب الديمقراطي المسيحي، نوربرت روتغن، أن السياسة الخارجية الألمانية بأكملها باتت موضع تساؤل. وكتب في تغريدة على تويتر “بعد هذه الكارثة، يتعين على السياسة الخارجية الألمانية أن تعيد تحديد معالمها بالكامل”، في إشارة إلى استيلاء طالبان المفاجئ على السلطة. وأضاف أنه يتعين على ألمانيا استخلاص الدروس، بما في ذلك من وجهة نظر الولايات المتحدة: إنه لأمر مؤلم أن يكون الرئيس جو بايدن هو “منفذ سياسة ترامب السيئة للغاية بشأن أفغانستان”. يجب أن تصبح أوروبا أكثر استقلالية، يقول روتغن. وأضاف أن الوضع الحالي كان من الممكن تجنبه. إنه يتعلق “بفشل كامل بعيد المدى وطويل الأمد للغرب مع عبء ثقيل بشأن مصداقية السياسة الخارجية في الأزمات المستقبلية”. وبالتالي فإن الانتقادات موجهة أيضًا إلى الولايات المتحدة، التي كانت في السابق الدولة العسكرية الرائدة في أفغانستان، والتي من خلال انسحابها تخلى الجيش الألماني عن التزامه بشأن التدريب العسكري في هذا البلد.
من جهته، دعا المرشح المحافظ لمنصب المستشارية أرمين لاشيت إلى إعادة التفكير في استراتيجية التواجد الخارجي لألمانيا. وقال على هامش مشاركته في تظاهرة في روستوك في شرق ألمانيا “الدرس المستفاد يكمن في كون العشرين عامًا الماضية أظهرت أن هدف تغيير نظام، بالتدخل العسكري من أجل إنهاء الدكتاتورية وبناء الديمقراطية، قد فشل دائمًا”. عندما يتم نشر القوات المسلحة الألمانية في الخارج، من الضروري توضيح الهدف، والمدة التي يجب أن تستمر فيه المهمة، وقبل كل شيء التفكير في نهاية التدخل”.
انتقادات غاضبة من قبل المعارضة الألمانية
طالب الحزب الديمقراطي الحر (FDP) المعارض ببيان حكومي من المستشارة أنغيلا ميركل لتوضيح ما أسماه أسباب الإجراءات المتأخرة للحكومة الألمانية، وقال زعيم الحزب كريستيان ليندنر، إنه من الممكن ألا يتم إجلاء جميع الأشخاص المخطط إجلائهم “هذا احتمال مروع”. وأضاف أنه كانت هناك، على ما يبدو، إخفاقات في تقييم الوضع وهو ما بحاجة إلى توضيح.
في سياق متصل اتهمت مرشحة حزب الخضر لمنصب المستشارية أنالينا بيربروك ميركل بالتراجع عن وعدها للأفغان. وقالت (الثلاثاء 17 أغسطس) إن ألمانيا كانت وعدت الأشخاص الذين عملوا لصالح ألمانيا ومؤسساتها، بالعمل على تأمينهم في حال انسحاب القوات الدولية. وأضافت بيربوك “بالنسبة لي، لا أكاد أتحمل أن أرى أن الحكومة الألمانية تخلف وعدها”. ورأت بيربوك أن ادعاء برلين بأن الموقف لا يمكن التنبؤ به، ليس صحيحا، وطالبت باستخدام “كل مكان في كل طائرة” لنقل الأشخاص إلى مكان آمن “فالمسألة تتعلق بالحياة والموت في أفغانستان”. يذكر أن ميركل التي قررت بين عامي 2015 و2016 استقبال أكثر من مليون طالب لجوء، أشارت إلى ضرورة التركيز في مرحلة أولى على إيجاد حلول إقليمية من أجل استقبال اللاجئين الأفغان في الدول المجاورة لأفغانستان. وتابعت ميركل خلال مؤتمر صحافي (الثلاثاء 17 أغسطس) “في المرحلة الثانية يمكننا البحث لتبيان ما إذا الأشخاص الأكثر عرضة للمخاطر يجب أن يأتوا إلى أوروبا (…) بشكل منظّم ومدعوم”.
مطار كابول ـ إرباك وفوضى يمنعان إجلاء الألمان
بسبب مظاهر الإرباك والفوضى في مطار كابول، لم تتمكن أول طائرة إجلاء تابعة للجيش الألماني سوى من نقل سبعة أشخاص فقط من العاصمة الأفغانية (الاثنين 16 أغسطس). وقالت الخارجية الألمانية موضحة “نظرا للظروف الفوضوية في المطار والتبادل المتواصل لإطلاق النار عند نقطة الدخول للمطار، لم يكن من المضمون الليلة الماضية للمزيد من المواطنين الألمان وغيرهم من الأشخاص الذين سيتم إجلاؤهم من الوصول إلى المطار دون حماية من الجيش الألماني”. وتتسع الطائرة من طراز إيرباص “إيه 400 إم” لنقل 114 راكبا، بل وقيل إن بإمكانها نقل ما يصل إلى 150 شخصا. واضطرت الطائرة الألمانية إلى مغادرة المطار عقب وقت قصير من الهبوط.
وزيرة الدفاع الألمانية أنيغريت كرامب-كارنباور، ذكرت من جهتها، أن أول طائرة إجلاء تابعة للجيش الألماني هبطت في مطار كابول في ظل ظروف بالغة الصعوبة. وقالت في تصريحات لشبكة “أ.إير.دي” الألمانية (الثلاثاء 17 أغسطس) “لدينا وضع مربك وخطير ومعقد للغاية في المطار، خاصة بسبب الحشود… بالأمس تمكنا من جعل طائرتنا تحط على الأرض في عملية هبوط خطيرة حقا. ونقلنا إلى هناك على وجه الخصوص جنودا يقومون الآن بعمليات تأمين حتى تتاح في الأساس الفرصة للأشخاص، الذين نرغب في نقلهم للخارج، للوصول إلى الطائرة. كانت هذه هي المهمة الرئيسية أمس”. وبهذا الصدد كتب موقع “فاتس” (17 أغسطس) “على الرغم من أن طائرات الإجلاء يمكنها الإقلاع والهبوط في مطار كابول، إلا أنه لا يزال من غير الواضح من سيُجلى خارج البلاد وإن كانت لوزارة الخارجية أعلنت عن عدة رحلات جوية يومية”.
أي مستقبل للمرأة الأفغانية تحت حكم طالبان؟
رونيا فون فورمب سايبل مخرجة وصحافية ألمانية قررت عام 2013 الذهاب إلى كابول وعمرها حينها لا يتجاوز 27 عامًا. وعاشت لفترة هناك وكتبت مؤلفا تحت عنوان “كابول..من بين كل الأماكن”، كما أخرجت فيلمًا بعنوان “محاربون حقيقيون”، يتناول قصة ممثلين نجوا من عملية انتحارية استهدفت مسرحهم. ودأبت فون فورمب سايبل في السنوات الأخيرة على زيارة أفغانستان مع شريكها الصحفي نيكولاس شينك. موقع “بايريشه روندفونك” البافاري أجرى معها حوارا حول التطورات في أفغانستان حيث ذهب اهتمامها بشكل خاص على وضع المرأة الأفغانية “ستتغير الحياة بشكل جذري بالنسبة للنساء والفتيات على وجه الخصوص. إنها بالفعل الحالة التي لا تجرؤ فيها النساء على الظهور في العلن. ليس من الواضح كيف يمكن أن يستمر تأمين التعليم المدرسي للنساء. لا يوجد حاليا ما يشير إلى أن المرأة يمكن أن تستمر في أداء وظائفها. هذه قيود هائلة، وتعني حقًا خطرًا شديدًا على حياة الكثير من الناس”.
غير أن حركة طالبان اختارت لحد الآن استعمال لغة هادئة بشأن عدد من القضايا من بينها حقوق المرأة، فقد أكدت أنها ستحترم حقوق النساء في حدود مبادئ الشريعة الإسلامية، في أول مؤتمر صحفي رسمي (الثلاثاء 17 أغسطس) منذ السيطرة على كابول. وتسعى الحركة لإظهار وجه أقل تشددا مما كان عليه الأمر خلال حكمها للبلاد قبل عشرين عاما، حين منعت طالبان النساء من العمل وفرضت عليهن عقوبات تصل إلى الرجم العلني. ومنعت الحركة الفتيات من الذهاب إلى المدارس وفرضت على النساء ارتداء البرقع الذي يغطي الجسم كله إذا خرجن من البيوت. وقال أبرز المتحدثين باسم الحركة ذبيح الله مجاهد الذي عقد المؤتمر “لا نريد أي أعداء داخليين أو خارجيين”. ومضى قائلا لهم “لن يؤذيكم أحد، لن يطرق أبوابكم أحد”. واضاف أن الفرق ضخم بين طالبان الآن وطالبان منذ 20 عاما. لكن ليس من الواضح بعد، ما إذا كانت هذه التصريحات ذات طبيعة مرحلية وتكتيكية أم أنها تعكس بالفعل اتجاها نحو الاعتدال لحركة عرفت بتطرفها الأيديولوجي والديني.
DW – حسن زنيند