“المهاجرون مُرحّب بهم هنا”.. فيلم سينمائى إنساني يخترق الأسلاك الشائكة والدعاية العنصرية

الكاتب – قيس قاسم —-

يتناول المخرج التشيكي “توماش رافا” موجة الهجرة الأخيرة إلى أوروبا من منظور بانورامي شامل، حيث لا يقتصر تناوله على جانب واحد منها، ولا يأخذ قصة مؤثرة ويبني عليها سينمائيا، بل اقترح عرض تفاصيل المشهد الواسع مُصورا في أكثر من مكان، وفي أزمنة تقارب بدايات الموجة عام 2015، وما تلاها من مواقف وأحداث شديدة الصلة بها.

ترك الوثائقي “المهاجرون مُرحّب بهم هنا” (Refugees Are Welcome Here) المعروض في الدورة الأخيرة لمهرجان “يهلافا” (جمهورية التشيك) الدولي للفيلم الوثائقي؛ للمُشاهد حرية الحكم بنفسه على الوقائع والأحداث، ولتحقيق ذلك الغرض وفّر له كمّا هائلا من الصور والتسجيلات التي نقلت بدقة تفاصيل الأحداث والوقائع التي جرت على حدود أكثر من دولة، ليرى بأمّ عينيه ما تعرّض له المهاجرون من ذُل وتعنيف وسوء معاملة على أيدي رجال شرطتها وجيوشها، وكيف ساهمت المنظمات العنصرية واليمينية في تأليب الجو السياسي العام ضدهم.

في المقابل ظهر جانب إنساني لا يمكن إغفاله، رغم الضجيج العالي والروح العدائية السائدة ضد مهاجرين كل ما أرادوه هو الوصول إلى منطقة آمنة يحتمون بها من الموت والدمار والحروب وسوء الأوضاع في بلدانهم.

جنازة رمزية لمهاجر لم يصل إلى وجهته.. مشهد افتتاحي

“المهاجرون مُرحّب بهم هنا” هو فيلم مونتاج بامتياز، حيث يأخذ مونتير الفيلم “توماش رافا” مَشاهد وتسجيلات من تسع دول، بعضها شهِد موجات هجرة واسعة، وأخرى حاول المهاجرون المرور عبر أراضيها، وأغلب تلك الدول شاركت في إنتاج الفيلم (بولندا وألمانيا واليونان وكرواتيا وسلوفينيا وجمهورية التشيك والنمسا وصربيا).

في مثل هذه الأفلام يُترَك للمشاهد والناقد إيجاد المشتركات الكبيرة بين موضوعاته، لكون التكرار وتشابه الأحداث واردين في هذا النوع من الاشتغال السينمائي، لكن وفي الوقت نفسه، ثمة خصوصيات وتفرّد يظهران بين التفاصيل لا بد من الانتباه إليهما، وإلا لظهر الفيلم وكأنه مجموعة من التسجيلات القديمة تتكرر في بلدان مختلفة ويعاد عرضها.

رغم القساوة والألم الغالبين على مشاهد اللاجئين وهم يتعرضون للإذلال على حدود أغلب دول أوروبا الشرقية، فإن صانع الوثائقي يختار مشهدا افتتاحيا مُعاكسا تظهر فيه مجموعة من النشطاء الألمان في صيف عام 2015 وهم يُقيمون في برلين جنازة رمزية للضحايا من المهاجرين الذين فُقدوا أثناء محاولتهم الوصول إلى بر الأمان، ويرفعون خلالها شعارات تندد بالنازية الجديدة، وتنبذ الكراهية، وبشكل خاص كراهية المسلمين.

مُظاهرات تُندد بالعنصرية وتُرحب بالمهاجرين

مظاهرات البرلمان.. صداح الناشطين وقسوة الشرطة الأوروبية

في مشهد آخر في المدينة نفسها تظهر مجموعة من الناشطين وهم يحاولون اقتحام مبنى البرلمان للتعبير عن تضامنهم مع المهاجرين، رافعين ومنادين بأعلى صوتهم “المهاجرون مُرحّب بهم هنا”.

بالمقابل تنقل تسجيلات لاحقة مواجهات تجري بينهم وبين رجال الشرطة الذين لا يتورعون عن استخدام أشد أساليب القسوة لتفريقهم.

ومن المشهدين يمكن إيجاد مشترك مع بقية الأنشطة والتظاهرات التي تجري في بلدان أخرى؛ نشطاء مدنيون متعاطفون مع المهاجرين، ورجال شرطة قساة يقفون في مواجهتهم.

“هنا يمكنكم تناول الطعام والماء”.. محطات تكسر العنصرية

في هنغاريا وعلى حدودها مع النمسا التي لا تبعد سوى خمس دقائق مشيا على الأقدام؛ يوزع النشطاء الطعام والماء على الواصلين إلى تلك النقطة، فقد وضعوا لافتات كُتب عليها بعدة لغات منها العربية: “هنا يمكنكم تناول الطعام والماء”.

في نفس المكان نرى أطفالا وشبابا ينزلون من عربات قطار مُسرعين نحو النقطة الحدودية، حيث يقف في مواجهتهم رجال الشرطة الهنغارية ووحدات مُسلحة من الجيش يمنعونهم من الدخول إلى البلد المجاور، فالجيش والشرطة يعاملون اللاجئين بقسوة وتهديد بالضرب إذا لم يصغوا إلى تعليماتهم.

حالة من العنف قوبل بها المهاجرون من طرف الشرطة بعد دعوات اليمين في أوروبا بعدم استقبالهم

“عودوا أيها المهاجرون إلى دياركم”.. دعوات اليمين

ليس ببعيد عن المكان ترتفع أصوات نشاز تطالب بطرد اللاجئين وعدم الترحيب بهم في النمسا. ذلك ما يظهر في المظاهرات المعادية للأغراب، التي لم يزل الوثائقي يرصدها في أكثر من مكان، فالعنصريون واليمينيون هم القاسم المشترك في المشهد البانورامي، وسيحاول صانعه التقاط خصوصياته كلما ظهرت.

أبرز ما يمكن جمعه من المشهد العنصري هو تركيزهم على الإسلام وتخويف مجتمعهم منه، يرفعون شعارات “لا لأسلمة مجتمعاتنا”، أو “عودوا أيها المهاجرون إلى دياركم”، لكن على المستوى السياسي ثمة هدف كامن يريدون الوصول إليه، ويتمثل في تعزيز وجودهم وتقوية اليمين الأوروبي على حساب الديمقراطية.

يتعكزون في خطابهم المعادي للإسلام والمسلمين والمهاجرين على عمليات إرهابية جرت في بعض المدن الأوربية، مثل باريس وبروكسل، ويُخوّفون الناس من إمكانية حدوثها وتكرارها في بلدانهم.

مشاهد للاجئين وهم يعيشون في خيام مهترئة وسط أجواء مناخية قاسية

مضايقة بلدان العبور الشرقية.. مصالح الوحدة الأوروبية

من أشد المشاهد إيلاما هي مشاهد اللاجئين وهم يعيشون في خيام مهترئة وسط أجواء مناخية قاسية، وذلك بانتظار السماح لهم بعبور بلد أوروبي شرقي نحو آخر غربي.

المفارقة هي المشترك الأكبر هنا، لأن اللاجئين يعلنون وبأعلى أصواتهم وعلى مسامع رجال الشرطة والجيش؛ أنهم لا يريدون أكثر من العبور إلى الجهة الغربية الأخرى، وبالتالي هم لا يريدون شيئا من دولهم، ولا يكلفونهم أعباء إضافية.

على الرغم من وضوح هدفهم، يقف قادة تلك الدول ضد حقهم في الانتقال، حيث يريد قادتهم من وراء ذلك تحقيق مصالح سياسية ومنافع مادية من الوحدة الأوروبية. ذلك ما يعكسه موقف الزعماء اليمينيين الهنغار عندما غيّروا قوانين الهجرة، وشددوا على مراقبة الحدود في أوج تصاعد موجات الهجرة، وبشكل خاص السورية منها.

حشود عسكرية تستعد لمواجهة المهاجرين والحد من دخولهم إلى البلاد في مشهد يوحي بأنهم يخوضون حربا حقيقية ضدهم

حشود الحدود العسكرية.. حرب منظمة ضد الخطر البريء

يتكرر استخدام الفيلم للصور والتسجيلات التي تظهر طائرات الهليكوبتر التابعة للجيش والشرطة وهي تجوب سماء المناطق الحدودية، مصحوبة دوما باستعدادات وحشود عسكرية؛ توحي لضخامتها بأن تلك البلدان تخوض حربا حقيقية، فالمبالغة في الاستعراض تدعو إلى السخرية منها.

شاحنات ومُدرّعات تقلّ جنودا ومختصين يبنون حواجز إسمنتية وحديدية بين حدود دول شرق أوروبا وغربها، تكليف وحدات خاصة من الجيش مهمتها الوحيدة منع اللاجئين المسالمين المتعبين من عبور الحدود، كل هذا يطرح سؤالا عن المغزى الحقيقي وراءه.

التسجيلات نفسها توصل إلى يقين بأن السياسيين اليمينيين في شرق أوروبا يريدون الإيحاء لمواطنيهم بجديتهم وحرصهم على حماية دولتهم من خطر داهم يأتي مع اللاجئين العابرين لأراضيهم. في كل الدول الشرقية يتكرر مشهد التعبئة العسكرية والإجراءات الأمنية المشددة، وكأن حربا مُنظمة تقرر خوضها ضد أبرياء لا يريدون من تلك الدول سوى المرور منها.

أحد المهاجرين يحمل طفله على الحدود أملا بدخول البلاد المُهاجِر إليها

“لا نريد طعاما ولا ماء.. افتحوا لنا الحدود”

وسط الاضطراب والتوتر يظهر مشترك جديد من داخل المهاجرين أنفسهم، ويمكن حصره بظاهرتين هما الوعي الوجودي في ظل الأوضاع الآنية القاسية، والتضامن فيما بينهم. تظهر التسجيلات الدقيقة في أكثر من مكان وعلى طول حدود الدول أن المهاجرين يعرفون ماذا يريدون، وقد علمتهم التجربة الكثير. فقد صاروا يرفضون حصر وجودهم ومنعهم من العبور بالحصول فقط على الطعام والماء، وكأنها منة تقدمها تلك الدول إليهم، حيث رفعوا في كل مكان شعار “لا نريد طعاما ولا ماء.. افتحوا لنا الحدود”.

وفي الجانب التضامني نرى روح المساعدة تسود بين اللاجئين، فالقادرون منهم والأقوياء يقدمون العون للضعفاء، الأولية دائما عندهم للنساء والأمهات والأطفال، وعلى مستوى المواجهة عندهم الأولوية للوحدة والتضامن فيما بينهم، ويعبرون عنها بسطوع هتافاتهم في وجه الجيش والشرطة “يد واحدة.. يد واحدة”.

هذا الهتاف الجماعي يُسمع عاليا بالقرب من الحدود الصربية الكرواتية، وبين جمهورية التشيك وألمانيا، وبجوار الحدود السلوفاكية والنمساوية، وبين الأراضي المقدونية واليونانية، وحيثما يحلّون.

مُظاهرة في التشيك يرفع فيها المتظاهرون لافتات كُتب عليها “التشيك فقط للتشيكيين”

تيارات التضامن.. سد شعبي في وجه المد العنصري

فترات الانتظار الطويلة المليئة بالمشاكل والصعاب تفرز موضوعيا الحاجة للتنظيم والتدبير. المشاهد المسجلة طيلة زمن الوثائقي وفي كل مكان يحل فيه اللاجئ إنما هي مخيمات في العراء، وعربات قطارات مهجورة، ومحطات قطارات الأنفاق وغيرها، نرى هناك مشتركا كبيرا يتمثل في قدرة اللاجئ على تدبير أموره وحماية نفسه من الجوع والهلاك.

الشباب في تلك المجمعات يقطّعون الحطب، ويوقدون النار لإعداد الطعام، العارفون باللغات الأجنبية -وبشكل خاص الإنجليزية- يتعاونون مع مَنْ لا يعرفها لتوصيل طلباته للجهات التي تحجز حريته، حيث يطلبون بإلحاح نقل المرضى إلى مستوصفات صحية، ويعملون مع المنظمات الإنسانية لجمع المعلومات الخاصة بالعوائل التي فقدت أحد أفرادها أثناء الرحيل والزحام.

في السياق ذاته تبرز ظاهرة جديدة يلتقطها الوثائقي ويثبتها في أكثر من موقع على الأرض، وهي تُجسد بروز وعي تضامني إنساني جديد بين قطاعات لا بأس بها من شبيبة دول شرق أوروبا، شباب متحمسون لكسب خبرات أقرانهم من الدول الغربية.

يظهر التنسيق بينهم واضحا في مقاطع طويلة من الوثائقي، يجتمع خلالها شاب ألماني مع زميل له سلوفيني أو مقدوني، أو نمساوي ينسق مع سلوفاكي أو صربي من أجل الضغط على شرطة الحدود لرفع الحصار.

هذا الحراك الأممي يشكل عمليا تيارا مدنيا واعدا يسهم بالحد من المد العنصري واليميني المنتشر في أوروبا اليوم.

أسلاك شائكة تم وضعها لمنع تسلسل المهاجرين إلى أوروبا بعد تصاعد النازية الجديدة الرافضة للمهاجرين والمسلمين تحديدا

“لا نريد مسلمين وإرهابيين هنا”.. تصاعد النازية الجديدة

نرى من خلال ما جمعه الوثائقي من كمّ كبير لحركة العنصريين والنازيين الجُدد؛ بروز تيارات ومفاهيم جديدة يصعب المناداة بها علنا في بلدان تدعي الديمقراطية، لولا استغلال قادتها لموجة اللجوء الواسعة، وأخطرها الدعوة لاستخدام السلاح وامتلاكه، وهو أمر لا يظهر كثيرا في الوثائقيات، أو الأفلام المتناولة للهجرة وصعوباتها.

يتجلى ذلك في مشهد مُسجّل لزعيم يميني تشيكي يظهر فيه واقفا أمام أنصاره وسط ساحة عامة في العاصمة براغ، وهو يدعوهم في خطبة حماسية إلى تسليح أنفسهم وقتل اللاجئين، وبشكل خاص المسلمين منهم. أثناء ذلك يقوم شاب خلفه بإشهار مدفع رشاش يطلق منه عيارات نارية في الهواء.

في بولندا ترتفع أصوات النازيين الجُدد والعنصريين، مُطالبة بإقامة مجتمع للبيض فقط، لا وجود لأجناس وألوان أخرى فيه. مشاهد ملتقطة خاصة ونادرة يجمعها الوثائقي، تظهر من خلالها الممارسات الحقيقة لهؤلاء، وقوة تنظيماتهم، وشدة قربها من القيادات السياسية الحاكمة.

في المشهد العنصري هناك دوما زعيم يخطب في جموع غاضبة تعلن كراهيتها للغريب، وتدعو إلى طرده. المشترك الأكبر في شعاراتهم تركيزها على الجانب القومي، واعتبار الأمة فوق كل ما سواها، حتى الإنسانية هي دونها، وما يخص المسلمين والعرب أضافوا إليها خلال تصاعد الهجرة “لا نريد مسلمين وإرهابيين هنا، ليذهبوا إلى بلدان مسلمة مثلهم”.

الشرطة تُحاصر المهاجرين وتمنعهم من دخول أراضيها في صورة تكشف وجه اليمين القبيح في أوروبا

صناعة الرعب.. موجات الهجرة تكشف وجه اليمين القبيح

مع كل القسوة المصاحبة للمشهد العام لموجات الهجرة العظيمة لأوروبا، فإن وثائقي “توماش رافا” يقدم صورة صادقة، ربما لم تظهر بذات الوضوح والدقة في بقية وثائقيات تناولت الموضوع نفسه، وذلك لجمعه تفاصيل مشهد واسع كثّفه وترك الصورة تحكي عن كل ما رافقه، والأهم فيه أنه يحفز مُشاهِده لتأمل سلوكيات دول ومنظمات كشفت عن وجهها الحقيقي القبيح خلالها، كما يرصد بانتباه حراكا تضامنيا جديدا ظهر في أوروبا الشرقية لم يكن موجودا بذاك الحجم من قبل.

وعلى المستوى السياسي كشف المشهد السينمائي البانورامي المُستنِد على تسجيلات أُخذت في أكثر من مكان وعاصمة عن أسباب صعود اليمين الرجعي الأوروبي إلى مواقع السلطة، تعكزا على الهجرة وتخويف الناس منها، وهو بسعته وشموليته ينبّه المُشاهد إلى المقبل المحتمل من تحولات سياسية، وتوجهات المهاجر والهجرة، وأسئلة اللجوء ستكون عوامل حاسمة فيها.

وعلى المستوى الإبداعي ربما يكون فيلم “المهاجرون مُرحّب بهم هنا” هو من بين أهم الوثائقيات التي عرضت مرحلة مهمة من تاريخ اللجوء الأوروبي المعاصر.

الجزيرة نت

شاهد أيضاً

“الإمبراطور الأبيض”.. مقاتلة الجيل السادس الصينية المصممة للهيمنة على السماء والفضاء

تشهد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة تصعيداً ملحوظاً في العديد من المجالات، من أبرزها التسابق …