بقلم الكاتب – محمد خالد عبدالوكيل —–
في سنين الشباب الأولى كان عقلي يضج بالأفكار، كنت عاجزاً عن التمرد في نواحٍ شتى من حياتي، ولذا كان من السهل أن يكون المنفذ الوحيد لإخراج تلك الطاقة المتمردة هو الفكر.
كان المرجع المعرفي لي في تلك الفترة -كما هو حال كثيرين- هو كتابي المقدس؛ القرآن. وهكذا طفقت أقرأ عن وسائل تجعلني أنتقي أسلوب حياة يتناسب والدين.
كانت هذه رحلة قصيرة على أية حال، فأنا لم أكن متديناً في حياتي، باستثناء عام واحد في سن الطفولة حاولت خلاله حفظ الجزء الأول من القرآن، وشرعت في تسجيل صوتي وأنا أتلو القرآن، وهو ما بدا لي تلاوة جميلة في حينها، وانكشف لي بعد ذلك أنه لم يتعدَّ كونه تلاوة جاهلةً بقواعد اللغة، ناهيك عن قواعد التجويد.
حياة عصيبة
كانت حياتي عاصفة اجتماعياً ومادياً، وشكّل هذا في داخلي صراعاً تفاقم بعد أن وصلت مشكلاتي لذروتها في سن الخامسة والعشرين.
سكنني الغضب حينها، وشرعت أوجّه غضبي تجاه كل المسلَّمات، وهي مسلمات سقط الكثير منها بفعل النشأة في عائلة ممزقة، وفي حي شعبي عشوائي في كل شيء، تختلف قيم سكانه أيما اختلاف.
بدأت مرحلة من السخط تجاه كل شيء، وهو سخطٌ مكتوم في أغلب الأحيان، لأنني لا أجرؤ أن أَصرخ في وجه أي كائن حي، باستثناء نفسي، وحتى نفسي لا أصرخ فيها بصوتٍ عال، تحاشياً للإحراج.
وهكذا بعد أن أضحى الدين بالنسبة لي مصدراً غير كافٍ للرجوع إليه والاسترشاد به في مسار حياتي، ومرد هذا جزئياً إلى نشأتي في أسرة غير متدينة من الأساس، ما يعني أن الدين لم يكُ راسخاً في وجداني أصلاً؛ بعد أن ودعت الدين، بحثت عن المقابل “الأرضي” لمقالات السماء، وهنا بدأت أقرأ عن الفلسفة.
في البدء كان نيتشه
أحب القراءة منذ صغري، ولهذا كانت القراءة هنا هي الوسيلة الأهم لتلقي دروسي الفلسفية الأولى، لكنني دائماً ما كنت أميل للاستسهال.
ولهذا لم أحاول دراسة الفلسفة دراسة جادة واسعة المجال، وهو أمرٌ حلمت به على أية حال، لكنني لم أكن مستعداً لبذل الجهد الكافي لتحقيقه، كان الحل الأسهل هنا في عصر الترندات هو قراءة كتابات الفلاسفة الأكثر رواجاً، وأشهرهم الألماني الموتور، المبشر بالإنسان الأعلى، نيتشه.
ولد فريدريش فيلهيلم نيتشه، في 15 أكتوبر/تشرين الأول عام 1844، في قرية قرب بلدة لوتسن، في مقاطعة ساكسونيا التابعة لبروسيا، لقسّ بروتستانتي لوثري، وبالرغم من تنشئته في بيتٍ متدين فإنه أصبح ملحداً فيما بعد، وصاغ واحدة من أشهر جمله المثيرة للجدل في كتابه “هكذا تكلم زرادشت”: لقد مات الإله.
منزل الفليسوف فى فيينا – Ludwig Wittgenstein – قديماّ وحديثاّ
لم يكن نيتشه عدمياً، حسب فهمي لمعنى تلك العبارة، فبالرغم من انطلاقه من العدمية فإنه وضع مفاهيم يبشر فيها بمعانٍ جديدة للحياة، وبمنظومة أخلاقية ثورية، وهي تصرفات لا تتسق مع العدمية التي تنفي أي معنى للحياة، كما تنفي -بشقيها الأخلاقي والمعرفي- وجود أي أساسٍ للأخلاق أو المعرفة.
كان نيتشه اكتشافاً بالنسبة لي، فهو ملهمي وقدوتي في الانسلاخ من المجتمع الذي كنت أشعر أن الهوة بيني وبينه تتسع، وأنني -نظراً لنشأتي في بيئة بسيطة وفي ظل أسرة ممزقة- لا مكان له عندي، أو بالأحرى، لا مكانة لي به.
ليست قراءة نيتشة بالأمر الصعب على الإطلاق؛ إنه مناسب جداً لمن هو في خضم مرحلة من المراهقة الفكرية والغضب المكتوم العاجز. لقد كان الرجل مليئاً بالتناقضات، وكان سيد الأحكام الثورية غير القائمة على أي أساس منطقي أو تقديرٍ علمي صحيح للأمور.
إلا أنه قدم عدة تصورات يمكن أن يقال إنها صائبة، على الأقل كانت له نظرة إيجابية أكثر تجاه الحياة أكثر من معلمه الروحي شوبنهاور، الأب الروحي للتشاؤم الفلسفي.
الله هو “كلمة السر”
وبين فوضوية نيتشه وتناقضاته، وتشاؤم نيتشه وعبثية كامو وقسوة الواقع، وجدت نفسي في تيه مظلم لا أكاد أرى أي طريق واضح أمامي حتى كي أسلكه إن حاولت الخروج من تلك الحاجة من انعدام اليقين.
وبعد أن ضاقت بي الأرض بما رحبت، وضاق خناق الحياة حول عنقي، وجدت في داخلي حاجة لوجود الله.
في فترة صعبة من حياتي لم يكن حولي أي من أحبائي أو أصدقائي، ولم يكن لي أن أناجي إلا الله، لكن في داخلي كان هناك شيطانٌ يهزأ من محاولاتي للبحث عن الإيمان من جديد، مستنداً في نقده لمحاولاتي تلك على الأساليب المعرفية المستقاة من المنهج العلمي التجريبي.
بعد عدة محاولات وصراعات وجدت أخيراً من ساق لي حلاً لذلك الصراع بين العقل والعاطفة؛ وبين الله وشيطان الفكر.
إنه الفيلسوف النمساوي لودفيك فتغنشتاين.
الساحر النمساوي
ولد فتغنشتاين في فيينا، في السادس والعشرين من أبريل/نيسان عام 1889، وتوفي في الشهر ذاته يوم التاسع والعشرين عام 1951، ويعده كثيرون أهم فيلسوف في القرن العشرين. ألف الفيلسوف النمساوي مؤلَّفَيْن مهمين للغاية في الإرث الفلسفي الحديث، وهما رسالة منطقية فلسفية، وكتاب تحقيقات فلسفية.
إلا أن لقائي الأول مع فكر الرجل كان مع كتاب يجمع مجموعة من محاضراته عن الدين والسحر، وهو كتاب بذل فيه المترجم جهداً ضخماً ليشرح ويوضح ما استغلق من مفاهيم فتغنشتاين.
وجدت الخلاصة أخيراً فيما يرى فتغنشتاين أنه لا يمكن إقامة الحجة على الدين باستخدام براهين تستند إلى المنهج العلمي التجريبي، فالدين يستخدم لغة تعبيرية رمزية تصف ما لا يمكن أن تصفه اللغة، لأنه يقع خارج حدود قدراتها.
إن الحقائق العلمية قد لا تستطيع أن تثير مخاوفنا أو أن تحملنا على الالتزام بقاعدة أخلاقية ما مدى حياتنا. إن الحقائق المثبتة بالتجربة لا يمكنها أن تعين الإنسان على تحمل آلام الحياة ومشاقها، أو أن تتذوق مرار المرض والفقر دون أن يتملكها اليأس أو السخط.
إن الدين يلعب دوراً لا يمكن أن يستبدله العلم الحديث، كما لا يمكن أن تحسن اللغة التعبير عنه تعبيراً جيداً. إن اللغة بالنسبة لفتجنشتاين وُضعت لتصف أشياء موجودة في الواقع، وبالتالي فإن أي جملة لا تحيلنا لشيء موجود في الطبيعة هي نوعٌ من اللامعقول. إن الله لا يُرى بأعيننا المجردة، ولهذا لا يمكن أن نُخضعه للتجربة العلمية، لكن نشعر بوجوده لسببٍ قد لا نحسن التعبير عنه.
وأرى أننا -كمؤمنين- لسنا في أدنى حاجة لتقديم براهين منطقية أو تجريبية على وجود الله. إنه في قلوبنا وفي الهواء الذي نتنفسه، إنه يمد يده لنا كل يوم ليعيننا على خوض غمار الحياة، دون أن يغلبنا القنوط أو أن تعبث بنا الشياطين.