التفسير النفسي لـ«التدين المغشوش»

mechanisms

 

فيينا – خالد عبدالله الخميس : —

في علم النفس، عندما تهيمن على النفس مشاعر سلبية متأصلة، فإنها تلجأ لافتعال مشاعر حميدة بشكل متكلف من خلال سلوكيات سميت بـ«ميكانزمات الدفاع النفسية» mechanisms of self defense، فميكانزمات الدفاع عن النفس هي محاولة من النفس لخداع نفسها بتغطية مشاعرها الكريهة وتظاهرها بالمشاعر الحميدة، فتظهر النفس بغطاء السواء شكلياً على رغم أنها مضطربة فعلياً. وحينما تلجأ النفس لتغطية مشاعر الاضطراب وخداع نفسها، فإنها تتجاهل حيلة خداعها وتتجنب كشف خيوط الحيلة.

ففي حال الاضطرابات النفسية تجد أن المكتئب الذي يُشعر بمشاعر الضيق والكدر يلجأ للضحك والمرح كي يشعر نفسه قبل أن يشعر الآخرين بأنه سعيد وغير مكتئب، كذلك يلجأ من يعاني من مشاعر النقص بالقيام بسلوكيات جريئة كي يشعر نفسه قبل أن يُشعر الآخرين أن ثقته بنفسه عالية، وكذا يلجأ من يعاني من مخاوف وقلق إلى القيام بسلوكيات بطولية، ليشعر نفسه أنه شجاع وليس خوّاف.

هذا التحدي الداخلي هو ثمرة لحوار داخلي بين مشاعر سلبية من جانب وإرادة مثالية من جانب آخر، فمشاعره الدفينة من جهة تُشعره باختلال المزاج واضطراب القلق، وإرادته العليا من جهة أخرى تحاول دفعه للقيام بسلوكيات استثنائية معاكسه لما عليه مشاعره السلبية، وكأن تلك السلوكيات الاستثنائية جاءت لتدافع عن الذات وتقول لها: أنا سوية ولست مضطربة والدليل على سوائي هو تصرفي الشجاع في تلك الواقعة. ومن هنا التصق تعبير ميكانيزم الدفاع عن الذات بالسلوكيات الظاهرية التي تخادع ما في باطن النفس من اضطراب.

ولا تقتصر سلوكيات الدفاع عن النفس على تغطية وخداع الاضطراب النفسي، بل هي حاضرة وبشدة عند الروغان من الامتثال للأعراف المجتمعية والممارسات الدينية، فكما أن سلوكيات الدفاع عن النفس هي حيلة على الاضطراب النفسي، فهي أيضاً حيلة عند خرق أخلاقيات وقيم المجتمع وهي أيضاً كذلك حيلة عند خرق المحرمات الدينية.

لا شك في أن هناك فئة متدينة بطبعها ومتسامية بأخلاقها ومنظمة لسلّم الأولويات في شأن الحلال والحرام، لكنك أيضاً تجد فئات أخرى من المحسوبين على التدين لكنهم «مغشوشو» التدين، يتلاعبون مع أنفسهم بخلط مخطط أولويات التدين، فيرتبونها بحسب مزاجهم ليظهروا أمام أنفسهم أنهم متدينون وذلك من خلال لعبهم مع وتر «ميكانزمات الدفاع عن الذات» التي أسهمت بشكل مخادع في اللعب بالأولويات والتغطية على المحرمات، ومن سبل الخداع والتغطية مثلاً تجد فرداً ينفق أمواله على المشاريع الخيرية لكي يُنسي نفسه جرائمه في سرقة المال العام والخاص، وتجد آخر يلتزم بمظاهر شكلية من التدين كي ينسي نفسه خلقه البذيء مع الآخرين، وكل هؤلاء هم أشبه بمن يرمي أطناناً من الطعام في المخلفات ويعطي لفقير منها رطلاً واحدًا، أو أشبه بمن يسرق من المال العام 100 مليون ليبني مسجداً بثلاثة ملايين.

إن هذه الحيل النفسية للتدين هي شائعة بامتياز في مجتمعاتنا، فهنالك العديد ممن يمارس محرمات صريحة، لكنه يغطيها بالتشبث بمظاهر دينية ليشعر نفسه بالكمال التديني، ولكي يعزز صورته مع نفسه بأنه كامل دينياً ينصّب نفسه وصياً على إنكار المنكر، ولذا لا تستغرب أن يقوم أحد من «مغشوشي» التدين بالتعدي على صاحب محل في السوق وإتلاف ممتلكاته، بحجة أن صوت الموسيقى ارتفع من هذا المحل.

ولن تجد أجمل ولا أصدق من وصف هذا النوع من الخداع النفسي في القضايا الدينية كوصف الصادق الأمين محمد صلى الله عليه وسلم في وصف الحيل النفسية للتدين بالشرك الخفي وأنها: «أخفى من دبيب النملة السوداء على صفاة سوداء في ظلمة الليل»، إذ يعمل المرء عملاً في ظاهره أنه لله، ولكن باعث هذا العمل هو لمراءاة نفسه وخداعها بأنها صالحة وتقية.

أحاديث كثيرة حذّرت من الازدواجية مثل: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»، والمعنى، إن كنت تكذب وتسرق وتخادع الناس فلا فائدة من صيامك وصدقتك وعبادتك، وعندما تتفحص قول المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» تدرك مدى الخطر الخفي الذي يحدق بظاهرة التدين المغشوش، وتدرك بالفعل إلى أين استطاع الشك الأصغر أن يشوه مفهوم التدين السوي، وإلى أي مستنقع من المتناقضات غرق فيها أصحاب التدين المغشوش الذي اعتادوا على تغليب مظاهر التدين وقشوره على حساب بواطن الدين وأصوله، كما وصفهم محمد عبده «وجدت في الغرب إسلاماً دون مسلمين». أحد اليابانيين عندما مكث في إحدى الدول العربية، وصف أهلها بقوله: «هم متدينون بشدة، وفاسدون بشدة»، وعندما تحلل هذه المقولة المتناقضة من خلال «ميكانزمات الدفاع عن النفس» تجد أن الأمرين ممكنان: التدين والفساد، فحيث يكون الفرد فاسداً في تعاملاته المادية والإدارية والخُلقية، تجده متمسكاً بشدة بإحدى الشعائر التعبدية، فلا عجب أن تجد رجلاً ملتحياً وهو بذيء في خلقه، ولا عجب أن تجد من يتوجس من سماع الموسيقى وهو أكبر الغشاشين، ولا عجب أن تجد من يُقصر ثوبه وهو عنصري بغيض.

هؤلاء الذين يجمعون المتناقضات لا يشعرون بالتناقض كون «ميكانزمات الدفاع عن النفس» حاضرة في نفوسهم وتحميهم من ملامة أنفسهم، إذ إنه عندما يتأمل مستوى تدينه ويوازن بين تدينه وسلوكه فإن ذهنه يذهب على تذكر وتضخيم جانب الشعائر التي يلتزم بها ويغفل بشكل مخادع عما ترتكبه نفسه من فساد فادح وسلوكيات مقيتة.

وبالجملة، فإن السلوكيات المنبعثة من «ميكانزمات الدفاع عن النفس» لا تواكب فقط السلوكيات المضطربة والشاذة، بل تمد حيلها وخداعها إلى السلوكيات السوية وكذا الدينية، وعندما تجد أن شعباً متخماً بالقيم والأنظمة الأخلاقية وهو لا يمتثلها، فاعلم أنه متخم أيضاً بتحصينات شديدة من أساليب الدفاع عن النفس. وأكثر شيخ عانى وحذر من ظاهرة التدين المغشوش هو الشيخ محمد الغزالي، ولعلي أختم حديثي باختصار من منقولة «وفي تجاربي ما يجعلني أشمئز من التدين المغشوش، وأصيح دائماً أحذر من عقباه، فهم يستترون على أنفسهم بركعات ينقرونها مقابل فتوق هائلة في بنائهم الخُلقي والنفسي، وهم لا يظنون بالناس إلا الشر، ولا يتربصون بهم إلا بالعقبات، وإن كان للإيمان سبع وسبعون شعبة، فهم لا يفرقون فيها بين الفريضة والنافلة ولا بين الرأس والذنب. إن التدين يوم يفقد طيبة القلب ودماثة الأخلاق ومحبة الخلائق يكون لعنة على البلاد والعباد».

أستاذ زائر فى علم النفس – جامعة الملك سعود

شاهد أيضاً

بالفيديو – “البركان المصري”.. مخاوف إسرائيل من عودة الربيع العربي

يسلط تقرير إسرائيلي الضوء على تصاعد الغضب الشعبي في مصر ضد الاحتلال الإسرائيلي، مدفوعًا بالحرب …